الكاتب /خالد سالم السالم
عندما نكون أمام مجموعة متجانسة من البشر (مثل جنسية محددة)، تعجز عقولنا عن تحليل صفات وشخصيات كل منهم تحليلاً يفي كل واحد منهم حقه، فتلجأ إلى التعميم، من نوع: كلهم صادقون، كاذبون، فاشلون، متميزون، صالحون، طالحون... وهكذا. هذا هو التنميط Stereotyping. التنميط هو تعميم الانطباعات عن فئة من فئات المجتمع، والتعميم هو نوع من التكاسل والتراخي الذهني الذي يدعو إلى تبسيط الحقائق واختزالها وربما ابتسارها، ما يقودنا حتماً إلى الإجحاف. فالفعل الذي يمارسه فرد، أو مجموعة أفراد، ليس من الدقة والإنصاف إسقاطه على كامل الجماعة (الأُمة مثلاً).
التكاسل يكون في إقناع أنفسنا باستنتاجات سريعة وسطحية وأحكام مُسبقة عن فئة اجتماعية محددة (أهل بلدة، جنسية، قبيلة، حزب، طائفة.. إلخ)، مبنية على تجارب ضحلة أو مقولات مكررة ومبتذلة، لنحكم على أُمَّة كاملة من الناس بعد ذلك، وهنا يقع الظلم. نحن لا نريد أن نتعب عقولنا بالتفكير والتحليل، ولا نريد تفاصيل كثيرة. نريد فقط إجابات معلبة وجاهزة تستهلكها عقولنا بسذاجة.
على سبيل المثال، عندما يُقال هنا إن الهنود أغبياء.. فهل حقاً الهنود أغبياء؟ إن تكاسُلنا عن فهم ثقافة الهنود وطبيعتهم، والنظر إليهم بدونية، وعدم اهتمامنا بالتواصل الجاد معهم، أقنعنا بأنهم كذلك.. وهم خلاف ذلك، والشواهد أكثر من أن تُعد وتحصى. لو كانوا أغبياء لما قادوا بلدهم ليكون رابع قوة اقتصادية في العالم اليوم (من حيث مؤشر تكافؤ القوة الشرائية) والحادي عشر عالمياً (من حيث الناتج القومي الكُلي). لو كانوا حقاً أغبياء لما تسنَّموا أعلى المناصب وأرقاها في أعظم الشركات والمنظمات خارج بلدهم (ماكينزي الدولية McKinsey للاستشارات يرأسها الآن الهندي «راجات كوما غوبتا»، بينما تترأس ابنة جلدته «إندرا نوي» شركة بيبسي العالمية PepsiCo).
السؤال: أيننا الآن.. نحن «الأذكى» منهم؟
المثال السابق يقع ضمن التنميط السلبي (المسيء)، وهو التوصيف الجارح؛ كأن نقول «مثلاً» عن أهل بلد معين: هم أغبياء، أشقياء، خبثاء، سحَرة، مرابون، غشاشون، لصوص.. وغير ذلك من التوصيفات السلبية، والمُهينة إجمالاً. أما التنميط الإيجابي (غير المسيء) فهو التوصيف الذي لا يجرح أحداً، ويحمل إجمالاً معاني إيجابية عن مجموعة محددة من البشر؛ كأن نقول: هم كرماء، لطفاء، أدباء، حلماء، مسالمون، ودودون، متسامحون.. وغير ذلك من الأوصاف والمناقب المحببة إلى النفوس. ويمكن القول إجمالاً بأن التنميط لا يعدو كونه تصوُّراً خادعاً للعقل، ومجافياً للدقة وواقع الحال، حتى وإن كان إيجابياً. فقد واجهتُ شخصياً أبخل الناس في ديار وُصِفَت لي بأن أهلها هم منبع الكرَم. وواجهتُ أكرم الناس في ديار قيل لي بأن أهلها هم مضرب المثل في البخل. ويمكن بجلاء تتبع روعة المنهج القرآني في هذا الشأن: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ). القرآن يدعونا إلى البعد عن التنميط، لأن فيه ظُلماً للناس، وبُعداً عن الواقع، وطمساً للحقائق. وقد ذكرتُ في المقدمة أن الباعث على التنميط هو التراخي الذهني، وتجاهلتُ أمراً آخر وهو «الهوى»، فنحكم على الناس حسَب ميولنا؛ فهذا على حق وذاك على باطل، وهذا سيئ وذاك جيد، وهذا صالح وذاك طالح. ولقد نهانا الله عن اتِّباع الهوى الحامل على ترك العدل، قال تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)، والهوى هنا بمعنى التحامُل والتعصُّب والتحيُّز الجائر. كما نهانا الله عن حمل الأفكار السائدة أو إعادة إنتاجها، والتفكر فيها وتمحيصها قبل تبنيها، حيث قال سبحانه: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا).
وخلاصة القول: كن في الدنيا كالنحلة، لا تقع إلا على طيّب، ولا يخرج منها إلا طيّب. ولا تكن كالذبابة، لا تقع إلا على قذارة؛ تتبع الجروح، وتسبب القروح، وتنشر الأوبئة.