قلق في عائلة الدولار
عائلة الدولار هي مجموعة الدول التي تعتمده عملة وطنية أو عملة رديفا بسعر صرف ثابت للعملة الوطنية. ومن بين متغيرات كثيرة تعتبر أسعار الفائدة التي يُحددها نظام الاحتياط الفدرالي الأمريكي من أهم المتغيرات التي تؤثر في قيمة العملة الخضراء وما يترتب عليها من تأثيرات متتابعة على كافة المجاميع الاقتصادية الكلية الأخرى مثل نمو إجمالي الناتج الوطني ومستوى الأجور والعلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال، والتضخم والبطالة، وترتيب الأفضليات بين الاستثمار والاستهلاك، والاستثمار المحلي والأجنبي، والصادرات والواردات، وعرض النقود والطلب عليها،.. الخ.
وما حدث في أمريكا الثلاثاء الماضي من تخفيض لسعر الخصم الذي تتكلفه البنوك في الحصول على قروض من نظام الاحتياطي الفدرالي بمقدار نصف نقطة مئوية أو خمسين «نقطة أساس» بلغة الماليين ليصبح 5.25 % بعد أن كان 5.75 % وما تبعه من تخفيض في سعر الفائدة في القروض بين البنوك لليلة الواحدة بنفس المقدار ليصل إلى 4.75% منخفضاً من 5.25% لأول مرة منذ ما يزيد على أربع سنوات، هو عبارة عن بيان عملي لما يتوقع أن يحدث في مثل هذه الحالات.
نعلم جميعاً أن تخفيض سعر الفائدة الأمريكية الأسبوع الماضي كان متوقعاً من الجميع ولكن المفاجئ أو غير المتوقع هو مقدار ذلك التخفيض الذي اختلف بمقدار الضعف فبدلاً من خمس وعشرين «نقطة أساس» أعلن التخفيض بمقدار خمسين «نقطة أساس»، وكان لا بد للأسواق الأمريكية والعالمية أن تتفاعل بسرعة مع القرار من وجهين: وجه تقييمي يتمثل في إعادة تقييم سلّة العملات العالمية الرئيسية مقابل الدولار. ووجه تعويضي انعكس في ارتفاع أسعار النفط وكافة السلع والخدمات الأخرى المقوّمة بالدولار.
وفي الوجه التقييمي ارتفعت قيمة الدولار الكندي اعتباراً من يوم الخميس الماضي ليتساوى في قوّته الشرائية مع الدولار في البلدين لأول مرّة منذ 1976م، بمعنى أن دولاراً واحداً كندياً أصبح من الممكن أن يشتري السلع الأمريكية لن تكون أرخص للدول المرتبطة
عملتها بالدولار الآن في أمريكا ما يشتريه دولار أمريكي واحد، أما اليورو فقد ارتقى مرتقى صعباً حيث تخطت قيمته دولاراً وأربعين سنتاً لأول مرّة منذ 1999م، عام إطلاق العملة الأوربية. ولقد ساهم في ذلك أن البنوك المركزية الرئيسية في العالم بما فيها مؤسسة النقد العربي السعودي التي تحافظ على سعر صرف ثابت للدولار لم تتبع الفدرالي الأمريكي في توجهه نحو خفض الفائدة لسبب بسيط هو أنه في حالة التخفيض الأمريكي لا يكون هناك خوف كبير على تزايد التدفقات الرأسمالية من تلك البلاد نحو أمريكا لأن الاستثمارات تبقى في بلادها في هذه الحالة لتستفيد من الفائدة الأعلى أو على الأقل يمكن توجيهها نحو وجهات استثمارية أخرى أكثر ربحية. ولكن في حال رفع سعر الفائدة الأمريكية تختلف الأوضاع تماماً حيث تضطر ذات البنوك المركزية إلى رفع أسعار فائدتها.
أما في الوجه التعويضي فقد ارتفعت قيمة البرميل الآجلة للنفط لشهر أكتوبر القادم لتتخطى 83 دولاراً محققة ارتفاعاً يزيد على 35% منذ بداية العام، وارتفع الذهب لتصل قيمة وحدة واحدة منه (الأونصة الطروادية) إلى 733 دولاراً وهو أعلى مستوى قياسي تبلغه أسعار الذهب على مدى سبعة وعشرين عاماً.
ولئن تأثرت الصادرات من الدول غير المرتبطة بالدولار إلى أمريكا سلبياً، وأصبحت الصادرات الأمريكية أرخص نسبياً من غيرها في ضوء هذه المستجدات، وأصبحت العقارات الأمريكية ومؤسسات الأعمال الأمريكية أكثر جاذبية للتملك بالنسبة لتلك الدول.. لكن الوضع يختلف تماماً بالنسبة للدول المرتبطة بالدولار ومنها الدول المصدرة للنفط على مستوى النفط إجمالاً، ودول الخليج العربية التي يُشكل النفط أكثر من 70 % من نواتجها اقتصادياتها الريعية على وجه الخصوص. فالسلع لن تصبح أرخص بالنسبة لها من عدّة أوجه من أهمها أن عملة التسوية المحاسبية العالمية للنفط هي الدولار وبالتالي فعملات تلك الدول المقوّمة بالدولار تنخفض في مقابل العملات الأخرى بنفس قدر انخفاض قيمة الدولار وربما أكثر، وبالتالي فإن ما يرد إلى خزائن تلك الدول من العملات الأجنبية الأخرى يصبح أقل وفاتورة وارداتها تصبح أعلى خاصة إذا ما كانت معظم تلك الواردات من دول لا ترتبط بالدولار. وهذا يعني أيضاً أن السلع والعقارات ومؤسسات الأعمال الأمريكية لن تكون أرخص بالنسبة للدول المرتبطة بالدولار كما هو الحال بالنسبة للدول غير المرتبطة به، وذلك لأن عملات تلك الدول تنخفض مع الدولار فلا تحظى بميزة نسبية تجاهه ولا تجاه ما يمكن أن يشترى به، عدا أنها قد تتمكن من إبطاء المعدلات العالية الحالية للتدفقات الرأسمالية منها نحو أمريكا بمحافظتها على معدلات أعلى للفائدة فيها.
وطالما أن الحال هكذا فلن أطيل في الأسباب التي تدفع هذه الدول للاستمرار بقبول الدولار كعملة تسوية محاسبية عالمية للنفط أو بربط عملاتها بالدولار رغم الخسائر الفادحة، ولكن يمكن النظر في المخارج المناسبة من ورطة الدولار والتي يتمثل أوّلها في ضرورة السعي لفك ارتباط العملات بالدولار قبل فوات الأوان إن لم يكن قد فات فعلاً وربطها بسلّة من العملات كما فعلت الكويت مؤخراً، مع إعادة تقييم حصّة الدولار من موجودات البنوك المركزية أسوة بما فعلته روسيا عندما خفضت موجوداتها من الدولار من 90 % إلى 45% فقط وتحويل الفرق إلى 45% من اليورو، و 10% من الجنيه الإسترليني، أما المخرج الثاني فيتمثل في ضرورة رفع قيمة صرف العملة المحلية في مواجهة الدولار بمقدار انخفاضه في مواجهة (اليورو) على وجه التحديد حتى تتم السيطرة على قيمة الواردات، فنفس الكمية من وحدات العملات الأجنبية الأخرى التي يشتريها التجار المحليون بدولارات حصلوا عليها من بنوك بلادهم المركزية بسعر ثابت مرتفع لا يعكس سعر السوق العالمية يعني بالتأكيد دفع وحدات أكثر في مقابلها سواء من الدولار أو العملة المحلية، ويعني أيضاً واردات أغلى، ومستويات أعلى من التضخم المستورد.
د/ علي...عكاظ