الجذور الحضارية للمدينة العربية الاسلامية (الكوفة نموذجا)
درسات وابحاث مؤسسة أفاق
ان المشكلة: التي يحاول هذا البحث التصدي لها هي محاولة تاصيل الهوية العقائدية واثرها في التصور العمراني ،اذ التصور العمراني يقوم على، رؤية ،اجتماعية، عقائدية، حضارية ،عبر الحوار الذي يقيمه المجتمع مع قيمة الدينية والحضارية من ناحية، وحواره مع الفضاء الاجتماعي والجغرافي تاثيرا وتاثر
د.عامر عبد زيد
1/2/2007
الجذور الحضارية للمدينة العربية الاسلامية "الكوفة نموذجا"
د- عامر عبد زيد
مدخل :
ان المشكلة: التي يحاول هذا البحث التصدي لها هي محاولة تاصيل الهوية العقائدية واثرها في التصور العمراني ،اذ التصور العمراني يقوم على، رؤية ،اجتماعية، عقائدية، حضارية ،عبر الحوار الذي يقيمه المجتمع مع قيمة الدينية والحضارية من ناحية، وحواره مع الفضاء الاجتماعي والجغرافي تاثيرا وتاثرا.فالكوفة تعد ظاهرة حضارية في تاريخ الثقافة الاسلامية عامة والعراق خاصة بوصفها عكست تحولاً جديداً اذ اصبح العراق دار هجرة العرب وقاعدة حضارية اسلامية جديدة.
الغاية :التي تدفعنا هي ربط تلك الظاهرة بالبنية الذهنية والاجتماعية والعقائدية عبر التاصيل في البنية البدوية والحضرية للحجاز والعراق قبل الفتح وبعده ،وكيف تطورت الحواضر العربية في ظل ذهنية بدوية شهدت تحولاً الى تحضر واستقرار مع المحافظة على هوية الذات .الاانها من ناحية اخرى تأكد الحوار الذي دار على هذه الارض "العراق" الذي افرز مدن الفتح :البصرة والكوفة .
حدود البحث: اننا هنا نحاول التوقف عند "بنية الكوفة" عبر التأصيل لبنية الذهنيةمن البداوة الى التحضر العربي ثم الاسلامي لهذا حاولنا تأصيلاً تكوينياً لمفهومي "البداوة والتحضر" العربي في الحجازمن ناحية والعراق من ناحية اخرى عبر اجراء توصيفات لهذا الامر ،ثم تطرقنا الى المشهد الاسلامي للمدينة الجديدة المتجسدة في الكوفة لهذا كانت تلك هي حدود بحثنا.
اولا – الجذور الحضارية للمدينة العربية :هذا يدخل ضمن المورفو لوجيا الاجتماعيةللبداوة –والتحضر ،فهناك حال من الترابط بينهما اذ لايمكن فهم البناء الحضري الاعبر توضيح البناء التحتي المكون الاجتماعي وتلاحمه مع البيئة والبناء الفوقي الاعتقادي الذي يدخل في الرؤي كلها للكون .(فان المصالح المادية المثالية ،وليس الافكار هي التي تحكم مباشرة سلوك الناس ،ومع ذلك غالبا فان تصورات العالم والتي خلقتها الافكار هي التي تحدّد المسارات التي تندفع عبرها التصرفات متأثرة بدينامية "المصالح") (1)
عُرفت بلاد العرب عند مؤرخي العرب وجغرافيهم باسم جزيرة العرب(2) ،لأحاطة البحار والأنهار بها من جميع أقطارها وأطرافها فصاروا منها مثل الجزيرة من جزائر البحر . بينما عرفت عند مؤرخي اليونان والرومان باسم Arabia .
وقد أكد الهمداني ذلك بقوله : سُميت جزيرة العرب ، لأن اللسان العربي في كلها شائع وان تفاضل (3).وقد كان لهذا اثر في نمط العلاقات السائد في الجزيره واثره في تكوين رؤيتهم ومنظومتهم الثقافيةوالمدنية.
البداوه-ان للاعرابي البدوي عدة سمات لايمكن فهمها الامن خلال حياة التشرد في وحشات الصحراء حيث هناك يظهر طابعه الفطري ويكتسب استقلاليته الفكرية وشخصيته المتعاليةضمن نطاق مكون اجتماعي يتلاءم مع البيئة القبليةوهذا يظهر في البكاء على الأطلال الذي أفرزته لنا طبيعة الحياة التي كان يعيشها المجتمع بعامة والشاعر الجاهلي بخاصة. فهو اذاً مرتبط بظروف وعوامل واسباب مهمة جدا هي :
العوامل البيئية: فان العامل البيئي يحمل الشاعر على تكبد المعاناة والذي أحدثته ((طبيعة الحياة الصحراوية التي من خلالها كان الشاعر وقومه يتحركون وينفعلون من اجل البقاء ومحاولاتهم المستمرة للتغلب على عقباتها والانتصار عليها)) (4)
. وان هذه الظروف كانت تدفع بالقبيلة إلى الرحيل ومن ضمن الراحلين حبيبة الشاعر، وهنا تكمن معاناة الشاعر (( حيث تعقل الإبل وتزم الأمتعة ، ويظعن القوم مخلفين وراءهم قلوبا أحزنها الفراق وقصص حب انتهت وامالا تبددت ))(5). وهذا امرؤ القيس قد عبر عن رحيل الأحباب فهو القائل:
أن الخليطَ نــأوكَ بالأمـــسِ وأستَيقَنتْ بفراقِهمْ نفسي
وغدوا على خُوِص العُيونِ سَواهمٍ مثلِ السَّام خُلِقنَ للمَلْسِ(6)
ا- قرابة النسب "العشيره":-: بأنها اعتقاد مجموعة من الأفراد انتماءهم إلى جد أعلى مشترك انتماءً يميزهم عن مجموعات أخرى مماثلة (2))تربطهم رابطتان هما ( المكان ) و ( الدم ) ذات بعد أخلاقي ديني ، فالشعب قبل الإسلام هو أبناء القبيلة ، وتقوم العلاقة بينهم على رابطة الدم ، أي على فكرة أن القبيلة تنحدر من صلب رجل عاش حقاً ومات . وان افرادها يرتبطون بينهم برابطة الدم ، أي ان بينهم قرابة وصلة رحم ، أما وطن القبيلة فالأرض التي نشأت فيها ، ثم الأرض التي هي عليها حمى القبيلة ، ومن أرضها تكونت دولتها وعلى رأسها سيد القبيلة الجشعم ويشعر سكان المدن والقرى أنهم كالقبيلة من أصل واحد ، وإن لهم جداً أعلى يرجع نسبهم إليه أو جده أن انتمى أهل المدينة إلى امرأة ، وذلك لإعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل هاجرت إلى هذا المكان فسكنت فيه(7).
والقبيلة في البادية دولة صغيرة تنطبق عليها مقومات الدولة ، وأهل الوبر لم تكن لهم أوطان ثابتة بسبب تنقلهم الدائم وراء مصادر الماء والعشب وكان ضيق أسباب الحياة في الصحراء حافزاً لهذه القبائل المبتدئة على التنقل والتحرك : كما كان سبباً في اعتزازهم بالعصبية التي أملتها الظروف الصعبة المحيطة بهم ، وبفضل العصبية أمكن لهذه القبائل أن تدافع عن كيانها والتغلب على غيرها لتضمن لنفسها مورداً لحياتها ، ولذلك كانت حياة القبائل البادئة صراعاً دائماً ، والصراع هجوم يتم بقصد الحصول على مزيد من الرزق ، والدفاع وللحفاظ على وجود القبيلة ، والدفاع والهجوم يتطلبان التكتل والدخول في احلاف مع القبائل الأخرى ، ولهذا عُدّ قانون البادية الغالب وقوامه، " ان الحق يقوم على القوة " ، فمن كان سيفه أمضى وأقوى كانت له الكلمة والغلبة وكان الحق في جانبه .(8) لهذا تحدد مكانة الشخص من خلال اضطلاعه بدور اجتماعي وحتى عندما يغدو سيدا ضخما ،تكون تصرفاته محكومة ،دوما وابدا ،بقانون شرف الصحراء( القانون العرفي لدى القبائل).وكلما تقيد به ،أجاد أداء دوره بوصفه عربي كامل(9).
- العامل الجغرافي "البيئه":ان الحجاز مهد الاسلام يتسم مع التشديد احيانا بالظروف المناخية ذأتها وبالتضاريس عينها المتراكبة والمتصادمة في مجمل شبه الجزيره .
فهو يمتد من خليج العقبة حتى الخط 20 ،على طول البحر الاحمر حيث يسود طقس حراري شديد وينغصل عن هذا الممّد الضيف بسهل ساحلي تهامه التي يطل عليها مباشرة منعطف جبلي غير ذي زرع ،وبدون مطر تقريبا ،يمكن من خلال شعابه التواصل مع الداخل الصحراوي .في هذه المنطقة المعزولة بشدة ،فوق المنحدرات التي يتخللها "واد عقيم" تنهض مكه على ارتفاع 400متر مكانا للحج ومركزا للتجاره منذ زمن قديم جدا والى الشمال نحو الداخل تتمتع المدينة ،ثانية مدينه مقدسة في الاسلام ، بمناخ ارحم نسبيا .فتربتها المغطاة بحمم بركانية تصلح لزراعة النخيل الذي جعلها واحة غنية .لكن المرتفع الواقع جنوب شرقي مكه ،بنحو خاص ،هو الذي يجعل جزيرة خضراء ،تزرع فيها اهم الاشجار المثمره في البلدان المعتدلة .(10). تعدّ شبه الجزيرة العربية من اشد البلاد جفافاً وحراً ، وربما يكون ذلك لوقوعها في منطقة قريبة من خط الاستواء وتوسع الصحاري فيها (11) فضلاً عن قلة التأثيرات البحرية المحيطة بها من ثلاث جهات ،بسبب استلاب رياح السموم للرطوبة القادمة من البحر قبل وصولها الى البلاد (12)
-الامن والاحتماء: حيث شكلت رابطة اجتماعية جديدة علت على رابطة الدم القبلية ، وقد شكلت خطوة متقدمة للتركيز على شخصية الفرد داخل الجماعة وأسهمت في خلق حياة مادية فالبدوي يقيم صلاته على اساس منفعة (فهو ينعكس في جماعته ،يتعزز بها ،ولا يكون له موقع حقوقي الابقدر ماتقبل هذه الجماعة التجاوب معه والدفاع عنه)(13).ويصف" علي الوردي" طبيعة البدوي بقوله :هي طبيعة الحرب فالبدوي لايفهم من دنياه غير التفاخر بالقوة والشجاعة والغلبة ،وهذه تؤدي عادة الى حب التعالي والرئاسة والكبرياءوقد اشتهر البدوي انه مشاغب حسود ميال الى النزاع ،فاذا لم يجد من ينازعه من الغرباء مال الى النزاع مع ابن عمه اواخيه فالبدوي مرن على الغزو واصبح جبلة فيه لايستطيع منها خلاصا ان نزعة القتال اصبحت عند البدوي حالة عقلية )(14)
المدن في الحجاز: - ان تكوّن المدن في الحجاز كان مرتهن الى المياه والواحات التي لها تاثير كبير في البدء من حيث انجاذابهم اليها لتغدو مراكز لهم .وهذا هو حال تاريخ الحجاز القديم ربما لم تكن اثنتان من مد نه الكبرى "الطائف والمدينه"في الاصل سوى واحات ومستوطنات الانسان الا"مكه"فهي تقع في وادي غير ذي زرع الاانها كانت محطه تموين نهاية رحلة ومرحلة احدى الاستراحات على طريق البخور .
ا ما طرق بناء المدن والتحول من ذهنية البداوة الى ذهنية المدينة :ان موضع المدينة لم يحّدد عشوائيا اذ المطلوب اولا هو اختيارها في منطقة جديرة بتلبية شروط مجتمع بدوي حديث التحضر ،فالانسان كان مضطرا للاقامة حولها بشكل عشوائي أولا،ثم بشكل متقطع ،حتى اليوم الذي استسلم فيه لجاذب الارض ،فأقام فيها دوما ،وهو يجر آخرين وراءه.ونتيجة لهذه الحياة المشتركة ،كان لابد من ظهور الوحدة المعنويةوالتعلق بالارض،فان البدوي الذي يتبعه عائلته الكبرى وقطعانه،كان يمضي بحثا عن المراعي وهو ينشد النشيد البدوي القديم "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل...".فان المدينة شيء آخر غير لفيف من الناس ،جاؤوا من كل حدب وصوب ،من جذبين الى مضافة سهلة الثراء.فالمدينة ،مثل الامة ،هي وحده معنوية قبل كل شيء .وهي بهذه الصفة ،كان يبدو وجودها-بوصفها حاضرة –واجبة الوجود قبل وجود المدينة المدعوة لاحتوائها .
1- فالحاضرة موجودة كبذرة في الايلاف أو الاتحاد القبلي :ومن اجتماع القبائل واتحادها الطوعي أو المفروض ستخرج الحاضرة. فالبدو استقروا على الارض بكلية مندمجة ومؤتلفة نسبيا،وتركوا المدينة تستوعبهم وتمتصهم تدريجيا.
2- ولكن حين تكون هذه المدينة صغيرة وضعيفة،بينما يكون التجمع البدوي ،على العكس ،كبيرا وقويا،فأنه يقيم معها علاقة أخوّة(fraternite ) ،يلتزم بموجبها بحماية المدينة من كل غزو،مقابل دفع جزية(خوّة) سنوية يدفعها المدنيون للبدو .
3- ا ما حين يستسلم هذا التجمع البدوي لجاذب الارض يمضي للاستقرار في المدينة،حاملين معه أساليب عمل بدوية تماما.ولن يتأخر الوافدون الجدد عن فرض قانونهم واحلال وحدتهم المعنوية محل وحدة مغلوبيهم.فقد كانت الحاضرة العربية مركزا سياسيا مستقلا ،ميدانا تجاريا ومحرابا لالهة محلية كبرى كانت تتلقي التكريم العام من كل الاهالي.كانت الطائف ،كمركز سياسي ،مقر اتحاد بدو هوازن،أما المدينة فآلت ،بعد هيمنة يهودية مديدة،الى السقوط في أيدي قبائل منحدره من الجنوب. اما مكة فكانت،كما هو معلوم ،بين ايلاف قريش القوي ،وهو فرع من كنانة.(15) وقد وقف النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) والمؤمنون مدعومين بالسيادة العليا للقرآن الكريم الذي رد على المشركين باعتبارهم ( اللاعقليين ) عندما يطالبون حضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة وهو المنطق الذي تقوم عليه رؤيتهم وعباداتهم القائمة على التجسد في الأصنام ولهذا فالقرآن الكريم يرفض ويوجه الناس إلى النظر في الكون الذي له خالق لايمكن إن يكون له شريك .
__________________