تركي علي الربيعو
بعد الحلقة الاولى التي تحدثت عن القبائل الكردية في الجزيرة السورية. هنا حلقة عن توزع القبائل العربية تلك المنطقة لمناسبة الاضطرابات التي شهدتها اخيراً مع خريطة اولية لهذا التوزيع:
المقصود بالجزيرة السورية، الارض التي يحدها غرباً نهر الفرات وشرقاً نهر دجلة على الحدود السورية - العراقية - التركية. وتشمل الجزيرة محافظتي الحسكة ودير الزور، وسيقتصر حديثنا في هذه المقالة على العشائر العربية الموجودة في محافظة الحسكة.
تقع هذه المحافظة في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا، وتبلغ مساحتها 26000 كلم مربع، اي بما يعادل مرتين ونصف مساحة لبنان، ومفردة الحسكة هي تعريب لاحق للكلمة التركية "الحسجة" والتي لا يزال البدو يلفظونها كذلك. وتعني بالعربية الارض التي يكثر فيها غيض الماء وذلك عندما كان يفيض نهر الخابور على الجانبين، والذي ينبع من مدينة رأس العين على الحدود التركية ويمر بالحسكة ليصب في نهر الفرات في محافظة دير الزور.
وتلحق بمحافظة الحسكة مجموعة من المدن حديثة العهد، أهمها مدينة القامشلي التي كانت مسرحاً لاحداث 12/3/.2004 وكلمة قامشلي بدورها تركية وتعني مدينة القصب او بلد القصب. وقد أنشئت مع بداية القرن المنصرم، وبالضبط في ،1928 فسكنها في البداية مجموعة من المهاجرين المسلمين والمسيحيين (الكاثوليك والبروتستانت) الذين نزحوا من مدينة ماردين التركية بعد أحداث سفر برلك الشهيرة، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الارمن والسريان على يد الجيش التركي والقبائل الكردية. كذلك الحال بالنسبة الى المدن الاخرى، المالكية (ديريك سابقاً) والقحطانية (قبور البيض سابقاً) وعامودا والدرباسية ورأس العين، وهي مدن تحاذي الحدود السورية التركية لمئات الكيلومترات.
وما يلفت النظر ان مجموع المدن السالفة الذكر، كانت تتميز بسيادة نمط ثقافي مارديني يتجلى على صعيد انتروبولوجي (فن الحياة والطبخ... الخ) حتى الثلث الاخير من القرن المنصرم، حيث بدأت بالتريّف على يد الجماعات المهاجرة الى المدينة من سريان ارثوذكس واكراد وبدو.
وانطلاقاً من أن البنية القبلية والعشائرية هي بنية تنظيمية وسياسية في آن واحد كما تعلمنا الانتروبولوجيا السياسية، يمكن القول إن البنية القبلية عند القبائل العربية وكذلك الكردية، كانت تتحدد على الضد من سكان المدينة. فقد كانت المدن المذكورة، الاكثر هشاشة والاقل تنظيمياً والاكثر عجزاً عن حماية نفسها تجاه المحيط القبلي الذي يكاد يطبق عليها. وهذا ما يراه حنا بطاطو في دراسته عن العراق، وفي الجزء الاول منها، الذي يطاول الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. فالمجتمعات القبلية هي "مجتمعات من اجل الحرب" وبخاصة في مجتمع دَيْدنه الغزو والحرب، حيث يقع الغزو على مستوى بنية فوقية تمجد الغزو وتحتقر الزراعة والفلاحة وحتى سكنى المدن التي اشترى فيها زعماء القبائل بيوتاً جميلة لارتيادها في المناسبات القليلة. من هنا كانت التحالفات بين القبائل العربية والقبائل العربية والكردية ايضاً، "تحالفات من اجل الغزو والحرب". فقد كانت هذه القبائل بفرعيها تأنف سكنى المدن الناشئة، حتى بداية الثلث الاخير من القرن العشرين، الذي تميز بهجرة ريفية كثيفة الى هذه المدن كما أسلفت.
وفي الوقت الذي تنحصر فيه القبائل والعشائر الكردية في الشريط الحدودي السوري التركي، فإن القبائل العربية تنداح على مساحات جغرافية واسعة، تمتد من الحدود التركية السورية وصولاً الى الحدود العراقية، وداخل الاراضي العراقية، حيث لم تعرف هذه القبائل الحدود الدولية، الا لاحقاً، بعد اتفاقية سايكس - بيكو والعوازل والجدران التي فرضتها الايديولوجيات الثوروية التي حكمت المشرق العربي بالنار والدم. وهذه القبائل هي:
أولاً- شمّر: وهي من القبائل العربية الكبرى يمتد نفوذها، من نجد وامارة حائل في السعودية، الى الجزيرة السورية، مروراً بالعراق حيث حضورها الكبير، وبخاصة في اواسط القرن التاسع عشر، حيث تذكّر الليدي بلنت الانكليزية، التي زارت مضارب القبيلة على الفرات الاوسط، ان المجال الحيوي للقبيلة يمتد حتى طهران.
وهناك إقرار علني عند غالبية الباحثين ان شمّر فرع من طيء ولكنها الفرع الذي أصبح اصلاً بذاته، ويتوزع الشمّريون داخل الحدود السورية على مئات القرى، ابتداء من الحدود العراقية حتى القسم الشمالي من محافظة الحسكة. ولكنهم يشعرون بأن حيفاً تاريخياً أحاق بهم بعد اتفاقية سايكس - بيكو التي قطعت اوصال القبيلة، فباتت شمّر في سوريا، أقل تعداداً من حيث السكان من القبائل المجاورة لها كطيء مثلاً. ولكن هذا لم يمنعها من لعب دور وطني، كان الشيخ دهّام الهادي عنواناً له. فقد شارك في الحياة السياسية السورية وانتخب عضواً في البرلمان السوري، ورفض الانضمام الى المحاولات الرامية في النصف الاول من القرن العشرين الى تقسيم سوريا. وقد سعى من خلفه في مشيخة القبيلة وأقصد ابنه الشيخ حميدي دهّام الهادي الجربا الى لعب دور سياسي ولكنه تعثر على مرمى الجدار الراديكالي للسلطة، فسعى الى بناء تحالفات سياسية وبالاخص مع الاكراد، وفي مقدمهم الزعيم الكردي مسعود البارزاني.
ثانياً- قبيلة طيء: وتلفظ طي لأن العرب لا تهمز، وتحيط هذه القبيلة بالقامشلي من جميع الجهات، خاصة ان زعماء القبيلة يعتبرون القامشلي جزءاً من ديرة طيء، وجزءاً حميمياً منها، وهذا موضع اعتراف من الجميع.
تتكون هذه القبيلة من مجموعة من العشائر المتحالفة معها، وهذا ينطبق على غالبية قبائل الجزيرة، بحيث يمكن القول بدقة إن القبيلة هي حلف سياسي. وهذه العشائر هي طيء الاصلية المكونة من مجموعة من الأفخاذ (العساف والحريث واليسار) وعشائر الجوالة والبني سبعة وحرب والراشد والبوعاصي والغنامة والمعامرة والشرايين. وتمتد هذه القبيلة حتى شمال الموصل داخل الاراضي العراقية ومنذ زمن بعيد كما يذكر حنا بطاطو، وتمتد داخل الاراضي السورية عبر سهل رسوبي تزيد مساحته على أكثر من 6000 كلم مربع ويزيد عدد سكانها على 200 ألف نسمة.
وتذكر المصادر التاريخية، القديمة منها والحديثة، وأشير من الحديثة منها الى اطروحة الاميركي ولتر كيفي عن "بيزنطة والفتوحات الاسلامية المبكرة، 2003" ان طيء بقيادة الصحابي عياض بن غنم الفهري تمكنت في عام 17 للهجرة من فتح الجزيرة ومدنها (ماردين ودياربكر) وتمكنت من طرد هرقل الى شمال أنقرة. ويذهب ابن العمري في "مسالك الابصار في ممالك الامصار" الذي حققته المستشرقة الالمانية دوريتا كرافولسكي، الى وصف المعارك الشرسة التي خاضتها طيء عند قبر الصحابي خالد بن الوليد ضد المغول والتي انتصرت فيها عليهم.
على طول مسارها في تاريخ سوريا الحديثة، لعبت هذه القبيلة دوراً وطنيا، وشارك زعماؤها في الحياة السياسية السورية. وقد بيّنت الاحداث الاخيرة في القامشلي الدور الوطني لهذه القبيلة. فكانت مع ما يجاورها من قبائل، طرفاً اساسياً في المعادلة السياسية وفي صوغ لحمة الوطن. وهذا ما أكده زعيمها الحالي الشيخ محمد الفارس الذي كان عضواً في مجلس الشعب السوري، والذي يتحلى بكثير من الكياسة والرؤية السياسية لمستقبل المنطقة ومستقبل الدولة معاً. فثمة مخاوف حقيقية تحكم السلوك السياسي لابناء القبائل وشيوخها، من النموذج العراقي الذي غابت عنه الدولة، فأصبح المجتمع نهباً للدمار والموت، وهذا ما يفسر وقوف هذه القبائل والعشائر الى جانب الدولة في سعيها الى إقرار الامن في تلك المناطق، وذلك على الرغم من الحيف الذي لحق بهم، عندما كان الاكراد حلفاء السلطة، وعلى عكس عرب المنطقة الذين اتهموا بأن لهم ميولاً عراقية وصدامية؟
ثالثاً- قبيلة الجبّور: وهي كسابقاتها مبدأ تنظيمي وحلف سياسي، وتمتد هذه القبيلة على مساحة جغرافية توازي مساحة قبيلة طيء، كما تزيد عليها في عدد سكانها. وتمتد من جنوب غرب مدينة القامشلي الى مدينة الحسكة التي تحيط بها من جميع الجهات. اضف الى ذلك امتداداتها داخل الاراضي العراقية الى جنوب الموصل وشمال بغداد. وقد كان شيوخ هذه القبيلة هم الحكام الفعليون لمدينة الحسكة. وقد لعب الشيخ المرحوم عبد العزيز المسلط دوراً كبيراً في هذا المجال، ودوراً مهماً في الحياة السياسية السورية، لكونه معارضاً للنظام في سوريا، فنفي الى خارج البلاد لمدة طويلة. ويشغل ابنه الآن منصب شيخ القبيلة في حين يمثلها في مجلس الشعب الحالي ابن أخيه المدعو محمد أحمد المسلط.
رابعاً- قبيلة عدوان: وهي من القبائل الصغيرة، ويبلغ عددها ما يقارب 12 ألف نسمة، وتسكن في غرب مدينة رأس العين وجنوبها. وتتواجد بكثافة في مدينة رأس العين، ويرأسها الشيخ حلو محمد الحلو، وقد لعبت دوراً في الاحداث الاخيرة التي عاشتها سوريا، في سعيها الى فرض الانضباط والهدوء على مدينة رأس العين، وقدمت على مذبح تلك الاحداث اثنين من وجهائها؟
خامساً- عشيرة حرب: وتمثل امتداداً قرابياً لاحدى المكونات الاساسية لقبيلة طيء، ولكنها تتسم باستقلالها، وتحيط هذه العشيرة بمدينة رأس العين من الشرق والجنوب، وابتداء من الحدود التركية وانتهاء بجنوب مدينة رأس العين، ويبلغ عدد سكانها ما يوازي عشرة آلاف شخص.
سادساً- عشيرة بقارة الجبل: وهي امتداد لعشيرة البقارة التي تعود في نسبها الى الإمام محمد الباقر كما تؤكد ذلك. وتمتد من جنوب الحسكة الى دير الزور وحلب. ولا يتجاوز عدد بقارة الجبل العشرة آلاف وتسكن هذه القبيلة جنوب مدينة رأس العين حتى الحسكة.
سابعاً- عشائر الشرابين: وهي من أكثر العشائر العربية عدداً، ولكنها موزعة بين القبائل السالفة الذكر، فهناك شرابين شمر وشرابين طيء، وهم يمتدون بصورة كبيرة من جنوب الحسكة الى شمالها وعلى طول نهر الخابور، وصولاً الى مدينة رأس العين ومدينة الدرباسية، مما يرجح ان هذه القبيلة الموزعة الى مجموعة عشائر، تعود في اصولها الى قبيلة تغلب، وأنها بقيت تسكن الجزيرة ما بين خابور الحسكة وخابور دجلة منذ الفتح الاسلامي حتى هذا التاريخ. وقد طردتهم الحكومة الفرنسية من ضفاف نهر خابور الحسكة في العام ،1933 وجاءت بالآشوريين من العراق بعد المذبحة التي تعرضوا لها، وأسكنتهم على ضفاف النهر.
ثامناً- عشائر المغمورين: وهم من قبائل الولدة، وقد غمرت مياه نهر الفرات قراهم بعد اقامة سد الفرات، فعوّضتهم الدولة بإعطائهم أراضي في الشريط الحدودي السوري - التركي، بحيث اصبحوا كثافة سكانية في ذلك الشريط، وذلك على حساب الاكراد الذين ازدادت هجرتهم في اتجاه المدن او في اتجاه الهجرة الى الخارج، وهذا ما يثير حفيظة الاكراد الذين راحوا ينددون بالوجود العربي على اراضيهم.
وما يلفت النظر، ان هذه الكتل القبلية، تتداخل في ما بينها عبر جيوب قبلية تمتد من قبيلة الى اخرى، وتساعد على هذا طبيعة البنية القبلية المفتوحة التي تقوم على الاعتراف بالآخر وقبوله، اضف الى ذلك، ارتباط هذه القبائل مع بعضها البعض، بعلاقات مصاهرة تأخذ صيغة تحالف سياسي وتسويات سياسية تشكل جوهر الحراك القبلي على مسار تاريخي ومعاصر.
بقي القول، إن العقود الثلاثة المنصرمة من القرن العشرين، شهدت تبلور نخبة متعلمة من ابناء القبائل (اطباء، قضاة، مدرسون ومهندسون) استوطنت المدن الرئيسة في الجزيرة، وانخرط معظمها في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي مستفيدة من الولاء الحزبي الذي بات بمثابة الطريق الاقصر الى تحقيق غايات أنانية على حد تعبير فرانتز فانون في وصفه لمزالق الشعور القومي في العالم الثالث. وعلى الرغم من انخراط بعض المتعلمين الاكراد في صفوف حزب البعث، الا ان الغالبية العظمى منهم، تحولت من الماركسية فإيديولوجيا تمثلها الاحزاب الشيوعية، الى القومية، وكانت النتيجة نشوء حالة من التضاد وضعف التواصل بين النخبتين، وذلك على العكس من التواصل الذي كان سائداً بين العشائر العربية والعشائر الكردية.
من هنا فإن المطلوب هو تجسيد الفجوة بين هذه النخب عبر الانفتاح على بعضها البعض، والذي يمر اولاً بتجاوز مفردات الخطاب القوموي في الطرفين والتأكيد ثانياً على مفهوم المواطنة كقاعدة يقف عليها الجميع وينهض عليها الوطن والدولة الحديثة؟
(القامشلي)
منقول