لأصالة والاتساق الفكريان والواقع الثقافي العربي
د. تيسير الناشف
من سمات التناول العلمي أن يُترك في الطرح الفكري هامش لاحتمال الخطأ في ذلك الطرح، وتفادي الإغراق في النزعة التقريرية، وعلى وجه الخصوص في المجالات التي يصعب أن تخضع للتقييم الكمي. وبينما يتحمس متحمسون من العرب لتبني مذاهب غير محددة المعالم من قبيل "العلمانية" و "الحداثة" فيبدون آراءهم في هذا الاتجاه أو ذاك، تعلو أصوات فكرية في الغرب بانتقاد ظواهر ناشئة عن تلك المذاهب. من المعروف أن لتلك المذاهب أثرا في تشجيع الحرية والفردية والتعددية. نشاهد في الوقت الحاضر التسيب الخلقي والحرية التي تقترب من حالة الفوضى أو التي تتحول الى فوضى والمغالاة في الفردية التي تبلغ إهمال مراعاة الانتماء الى المجموع، والغلو في التعددية الفكرية المؤدي الى الضياع الفكري والإلحاد واليأس والضياع والانتحار وتفكك العائلة.
ويجدر بالباحثين العرب الذين يتحمسون تحمسا جليا لاستلهام التجربة الغربية في المذاهب الفكرية الكثيرة أن يُبدوا الحساسية الفكرية الواجبة بحقيقة أن خلفيتهم التاريخية والثقافية تختلف عن الخلفية التاريخية الثقافية الغربية. ولا ألمس أن هؤلاء الباحثين أولوا ذلك الاختلاف ومتضمناته الاهتمام الواجب في كتاباتهم.
وللظواهر الإجتماعية تاريخيتها. وحينما يتناول دارسون يتبنون نهجَ تاريخية الظواهر الاجتماعية قضايا الحداثة والعلمنة في العالم الغربي أو العالم النامي أو العالم العربي لا يجوز التناول الفكري لقضية من هذه القضايا من منطلق تاريخية الظواهر الاجتماعية حينما يخدم اختيار هذا النهج افتراضاتهم وطروحهم الفكرية، ثم من منطلق لاتاريخية الظواهر حينما يخدم اختيار هذا النهج افتراضاتهم وطروحهم. حتى يكون للطرح الفكري قدر كبير من التعويل من اللازم أن يخلو هذا الطرح من عدم الاتساق هذا.
وبالانطلاق من تاريخية الظواهر الإجتماعية لا يصح القول بأن مفهوما من المفاهيم، مثلا العلمنة، ينطبق على الحالة العربية لمجرد أن تلك الظاهرة حدثت في مكان آخر. هذا القول لا يراعي تاريخية الظواهر الإجتماعية. على أساس نهج تاريخية الظواهر تستند طبيعة الحكم على مناسبة أو عدم مناسبة العلمنة الى الخصائص القيمية للمجتمع العربي.
وتوجد على الساحة الفكرية العربية – شأنها شأن الساحات الفكرية الأخرى في العالم – ظاهرة الرفض أو القبول لمفهوم من المفاهيم. إن تعقد المفاهيم وهي تتفاعل مع المشهد الفكري المحلي والعالمي في الظروف التاريخية والاجتماعية والافتصادية والسياسية المتغيرة يستوجب الا يكون رد الفعل على مفهوم من المفاهيم بالرفض القاطع أو بالقبول القاطع ويستوجب أن يكون ذلك الرد متمثلا في اتخاذ موقف يتكون من إقامة علاقة فكرية جدلية وتمثّلية نشيطة. ألإسراع، في رد الفعل، باتخاذ موقف الرفض القاطع أو القبول القاطع طريقة غير سليمة وغير مثمرة على مستوى الحوار الفكري وهي لا تناسب مصلحة شعب يواجه التحديات المصيرية.
يوجد مقهوم للحداثة، غير أن هذا المفهوم لا بد من أن يدمج في المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي والنفسي والقيمي الخاص بكل شعب من الشعوب. ألمفهوم العام للحداثة متأثر قطعا بالمحيط الاجتماعي وبالثقافة الاجتماعية والسياسية وبالرؤية الفكرية والتاريخية ورؤية تطور المجتمع والتكوين النفسي للشعب وتركته القيمية والثقافية. دمج المفهوم العام للحداثة في ذلك الواقع من شأنه أن يوجد مفهوما للحداثة خاصا بكل شعب.
لعل هذا العرض يسهم في توضيح أنه حتى يحقق الدخول في الحداثة من اللازم أن تنبع تجربة تحقيق الحداثة من الداخل الثقافي والاجتماعي والتاريخي والمعرفي العربي. مفهوم الحداثة في السياق العربي يجب أن يكون مستمدا من المستودع الفكري والثقافي والمعرفي والحضاري العربي.
وقد تكفي الإحالة على "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا" لمعرفة المخزون العلمي والمعرفي والفكري العربي الضخم. في هذه الرسائل، على سبيل المثال، يشير أصحابها إشارة واضحة الى جاذبية الأرض والى أن الأرض ليست مركز الكون والى وجود كواكب ثابتة وكواكب سيارة والى وجود نظام في هذا الكون والى عدم نهاية الكون. سبق هؤلاء المفكرون العلماء الغربيين بمئات السنين الى معرفة قسم من هذه الحقائق الهامة جدا.
والعقلانية ليست غريبة عن الفكر العربي. هذا الفكر عقلاني ومتطور في عقلانيته. ألتراث العلمي والمعرفي والحضاري العربي تراث له سمات عقلانية. وتتجسد هذه العقلانية في إعمال العقل في تحقيق الأهداف وإعمال الفكر في تسيير شؤون الدين والدنيا وفي تسخير الطبيعة لمنفعة الإنسان. هل كان يمكن لدولة الخلافة الأموية والخلافة العباسية في المشرق والخلافة الأموية في الأندلس وللدولة الفاطمية وللدولة الإدريسية ولدولة الموحدين ولدولة المماليك في مصر وغيرها من الأراضي ولدولة السلاجقة وللخلافة العثمانية التي دامت ما ينيف عن أربعة قرون بدواوينها وإدارتها وحكمها وتحقيق حضارتها وإنشاء جامعاتها ومصحاتها ونظم اتصالاتها – هل كان يمكن لتلك الدول العظمى أن تنشأ وأن تدوم قرونا وأن يكون لها وجود قوي على الساحة الدولية لو لم تعمل الفكر العقلاني؟ هل كان يمكن للعرب في الأندلس والمغرب والمشرق العربيين أن يشيدوا القصور وان ينشئوا المكتبات والجامعات والمتنزهات العامة ودور الشفاء وأن يمدوا الجسور ويشقوا الطرق ويحفروا القنوات وأن يقيموا نظم البريد والمحاسبة ومراقبة الأسواق لولا وجود التفكير العقلاني؟
الا يدل نشوء عشرات آلاف العلماء والمفكرين والفلاسفة العرب وغيرهم في القرون الوسطى من أمثال ابن رشد وابن الطفيل والفارابي والكندي وابن خلدون وابن حزم والإدريسي والمسعودي وابن سيناء والمعري على الدور الذي أداه الفكر العقلاني والعلمي في التاريخ العربي؟
وبينما كانت الحضارة العربية في العصور الوسطى حتى القرن الخامس عشر تتألق بوهج علومها وإشراق آدابها وسمو فنونها وتشمخ عاليا بحس كبير بالإنجاز كان الجهل يلف الحياة في أوروبا، ووظف الأوروبيون في محاولتهم لاحراز التقدم الإجتماعي والعلمي عند بداية نهضتهم مفاهيم مستمدة من فكر أولئكم العلماء والمفكرين والفلاسفة. والمعرفة والإبداع الفكري اللذان سعى الأوروبيون الى تحقيقهما كانا متطورين فعلا في الحضارة العربية. وما لدينا نحن الناطقين باللغة العربية من الفكر الرشيد والمعرفة والعلم يكفي لأن يشكل ركنا بالغ الأهمية من أركان الدخول في مرحلة الحداثة. وهذا الركن يجب توطيده وتعميقه بما يكتشف من وجوه المعرفة الجديدة.