من عمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
[ سورة النحل الآية : 97 ]
الحياة الطيبة هي حياة القلب ، نعيم القلب بذكر الله ، وبهجة القلب بالاتصال بالله ، معرفة الله ، محبته ، الإنابة إليه ، التوكل عليه ، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ، ولا نعيم فوق نعيم إلا نعيم الجنة .
أيها الإخوة ، الشيء الواضح أن المؤمن قلبه حي ، وحينما قال الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال الآية : 24 ]
وحينما قال الشاعر :ليس من مات فاستراح بميـت إنـما الميـت مـيت الأحياء
قد تجد إنسانًا في أعلى درجات الحياة المادية ، تعمل أجهزته بانتظام نشيط ، حواسه سليمة ، وأعضاؤه سليمة ، وأجهزته سليمة ، بأعلى درجة من الحيوية ، وهو عند الله ميت ، وقد تجد إنسانًا فيه كل العلل ، وهو عند الله حي ، فالعبرة بحياة القلب لا بحياة الجسد .
ما الفرق بين إنسان صحته طيبة جداً وبين نبي ؟ القلب ينبض ، والرئتان تتحركان ، الأجهزة كلها تعمل بانتظام عند هذا وعند ذاك ، لكن بين الاثنين كما بين الأرض والسماء من حيث حياة القلب .
أيها الإخوة ؛ أول شيء الحياة لها أبواب ثلاثة :
أول حياةٍ حياةُ العلم :﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
[ سورة النساء الآية 113 ]
يبدو أن أعظم عطاء على الإطلاق أن تتعرف إلى الله .﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
[ سورة النساء الآية 113 ]
وكنت أشرح هذه الآية بمثل :
لو أن طفلاً قال لك : أنا معي مبلغ عظيم ، كم تقدر هذا المبلغ ؟ مئة ليرة ، ولو قال مسؤول في دولة طاغية : أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً لقدرته مئة مليار دولار ، فإذا قال مالك الملوك رب الوجود :﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
[ سورة النساء الآية 113 ]
يجب أن تعلم ما فضل الله عليك إذا تعرفت إلى الله ، وإذا فهمت هذا القرآن ، وعملت به .﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
[ سورة النساء الآية 113 ]
أيها الإخوة ؛ يقول أحد الصحابة الكرام ، وهو معاذ بن جبل : تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربى ، لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل أهل الجنة ، هو الأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة ، وأئمة تقتص آثارهم ، و يقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة بخلتهم ، بأجنحتها تمسحهم ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البحر وأنعامه ، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظلم ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، التفكر فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ، به توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وهو إمام العمل ، والعمل تابع له ، يلهمه السعداء ، ويحرمه الأشقياء ، العلم حاجة عليا في الإنسان ، وما لم يطلب الإنسان العلم فليس من بني البشر ، بل ينتمي إلى صنف آخر ، بطلب العلم يؤكد الإنسان إنسانيته ، هو الحاجة العليا في الإنسان .
يروى عن سيدنا لقمان : يا بني جالس العلماء ، وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض بوابل القطر .
أريد أن أبين لكم الفرق بين إنسان يعرف الله وإنسان لا يعرفه ، مع أنهما من بني البشر، تصور قطعة لحم متفسخة ، قد تفوح رائحتها من مئة متر ، ولا تستطيع أن تواجه هذه الرائحة ، بل تغلق أنفك حينما تمر بهذه الجيفة ، وهي قطعة لحم ، وقد تمر بقطعة لحم مشوية طازجة ، وأنت جائع ، وهذه قطعة لحم ، الفرق بين القطعتين كما بين السماء والأرض ! الإنسان الجاهل كتلة غباء وحمق ، وقسوة وبذاءة ودناءة ..... هذا الجاهل هو دابة ، بينما الذي تعرف إلى الله كله لطف ورحمة ، وتواضع ومحبة ، وأنس وإنصاف ، وعدل وعطاء ، وبذل وتضحية ، ومؤاثرة ، الفرق بين الذي عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، وبين الذي غفل عن الله فتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه كما بين الحي والميت .
الآن هناك حياة الإرادة ، تجد إنسانًا إذا قلبه ميت ، إرادته ضعيفة ، لا يقوى على فعل شيء ، ولا يحب أن يقدم شيئاً ، يستقبل ولا يعطي ، يتلقى ولا يلقي يستغل ، ولا يضحي ، فالذي ضعف قلبه ضعفت إرادته مع قلبه ، لا يوجد عنده رغبة ليفعل شيئًا ، أو يتحرك ، أو يتكلم ، أو يعود مريضًا ، أو ينصح إنسانًا ، أو يأمر بالمعروف ، أو ينهى عن المنكر ، كسل ، وقعود ، وتقويم للناس .
لذلك أقول هذه الكلمة : أنا أحب إنسانًا حبًّا لا حدود له ، لأنه لا يخطئ ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، عصمه الله من أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره ، وأحتقر إنسانًا أشد الاحتقار ، وهو لا يخطئ ، لأنه لا يعمل ، لم يفعل شيئًا ، بل يقيّم الناس ، ويوزع التهم الباطلة ، يأخذ ولا يعطي ، يستغل ولا يضحي ، هذا الإنسان ضعيف الإرادة ، هو إنسان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة ، قال بعض الشعراء :نهارك يا مغرور سهم و غفلة و نومك ليل ورّد لــك لازم
تسر بما يفنى و تفرح بالمنى كما غرّ باللذات في النوم حالم
***
أيها الإخوة الكرام ؛ كما أن الله سبحانه وتعالى جعل حياة البدن بالطعام والشراب جعل حياة القلب بدوام الذكر .﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد الآية : 28 ]
الصلاة ذكر ، والتلاوة ذكر ، والاستغفار ذكر ، والتسبيح ذكر ، والحمد ذكر ، والتوحيد ذكر ، والتكبير ذكر ، والدعاء ذكر ، وطلب العلم ذكر ، فالذكر يدور معك في كل أحوالك .
سؤال :
من هو الميت ؟ ...
قال : الذي لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، كله مقبول عنده ، يوجد كلمة شائعة بين الناس يقول : (عادي) ، فعلت كذا ، العادة كلمة مستحدثة ! ارتكبت الفاحشة ، عادة ، فهذا الذي مات قلبه لا يتأثر بشيء ، ولا ينضبط بشيء ، ولا يوجد قيمة تردعه ، ولا هدف يسعى إليه ، ولا حواجز تحد حركته .
أيها الإخوة ؛ بقي في حياة القلب حياة البشر ، تجد المؤمن بشره في وجهه ، متفائل ، يتلقى المصائب بصدر رحب ، هو أميَلُ إلى العطاء منه إلى الأخذ ، مثلاً قال تعالى :﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾
[ سورة القلم الآيات : 10-13 ]
هذا موت القلب ، لاحظ موت جواد شجاع ، بر عادل ، عفيف محسن ، تجد الأول ميتاً والثاني حياً .
تجد المؤمن بشره في وجهه ، يرحب ، يستقبل ، يصبر ، يتفاءل ، قريب من النفس ، تأنس بذكره ، أولياء أمتي إذا رأوا ذكر الله بهم ، حياة القلب كما كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ، وأهله ، ومع الغريب والقريب ، سعة الصدر ، ودوام البشر ، وحسن الخلق ، والسلام على من لقيه ، والوقوف مع من استوقفه ، والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحياناً ، المؤمن مرح يضفي على الجو أنْسًا ، مرحه شرعي ، والمرح من صفات العظماء ، والنبي كان مرحاً ، كان يداعب أصحابه ، ويمزح معهم ، فالضحك المعتدل والمزاح الحق ، والبشر والتفاؤل والترحيب ، والمؤانسة هذه من صفات القلب الحي ، يجيب الدعوة ، لين الجانب ، حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه ، هذا عمل يفوق حد الطاقة البشرية .
أي إنسان صاحبك يظن أنه أقرب الناس إليك ، فقلب الأنبياء والعارفين بالله كبير ، وقلب المؤمنين الصادقين كبير ، يتسع لكل إنسان ، ولكل هفوة وخطأ ، يوجد إنسان إذا خاصم انفجر ، إذا أخطأت معه بكلمة يقيم الدنيا ولا يقعدها ، بينما اقرؤوا قصص الأنبياء :﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾
[ سورة يوسف الآية : 92 ]
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون – اذهبوا فأنتم الطلقاء – من علامات حياة القلب قوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
[ سورة آل عمران الآية : 159 ]
بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك ، وأحبوك ، ولو كنت منقطعاً عنا لاستقر في قلبك القسوة ، ولانعكست القسوة غلظة وفظاظة ، فينفض الناس من حولك ، معادلة رياضية ! تتصل بالله ، تشتق من الرحمة ، تنعكس ليناً ، يلتف الناس حولك ، تنقطع عن الله ، يستقر في القلب القسوة ، تنعكس غلظة ، فينفض الناس من حولك .
فلذلك حينما يكون الإنسان مؤمناً ، وقلبه حي يلتف الناس حوله ، ومعنى التفاف الناس حوله أنهم أحبوه ، لماذا أحبوه ؟ أحبوا ما عنده من كمال ناتج عن اتصاله بالله عز وجل ، لذلك بشكل دقيق يمكن أن نصنف الناس إلى صنفين ، أصحاب الأقوياء ، أو أصحاب الأنبياء ، الأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم ، أخذوا كل شيء ، ولم يعطوا شيئاً ، والأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم ، أعطوا كل شيء ، ولم يأخذوا شيئاً ، والناس جميعاً أتباع نبي أو قوي .
الشرطي نفسه معه دفتر تابع لقوي ، لأنه ضبط ، مؤمن تابع للنبي ، لأنه لطيف كريم متسامح ، فالناس أتباع لأقوياء أو لأنبياء ، أتباع الأقوياء قوتهم فيما عندهم من سلطة ، وأتباع الأنبياء قوتهم في كمالهم ، الأنبياء ملكوا القلوب ، والأقوياء ملكوا الرقاب ، وشتان بين من يملك القلوب وبين من يملك الرقاب ، والفرق بين النبي والقوي أن القوي يمدح في حضرته ، بينما النبي يمدح في غيبته ، والبطولة أن تمدح في غيبتك لا في حضرتك ، قد تكون قوياً فيخاف الناس منك ، يمدحونك ، وينافقون لك ، البطولة أن تمدح في غيبتك لا في حضرتك .﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾
[ سورة السجدة الآية : 24 ]
قالوا العلماء ثلاثة :
عالم استنار بنوره ، واستنار الناس به ، فهذا من خلفاء الرسل .
وعالم استنار هو بنور الله عز وجل ، ولم يستنر به غيره ، انعزالي ، أقرب إليه أنه عابد منه إلى عالم .
يوجد إنسان وصل إلى الله ، لكن لا يحب أن يوصل هذا النور إلى أحد ، اكتفى وصل ، واكتفى ، وارتاح ، والناس كلهم هلكى !! يقول : هلك الناس ، يوجد إنسان وصل ، وأراد أن يوصل هذا الخير إلى كل الناس ، فرق كبير بينهما ، إنسان وصل ، وأوصل ، وإنسان وصل ، ولم يوصل أحداً .
وعالم متحذلق ، لم يستنر بنور الله ، ولا استنار به غيره ، فهذا علمه وبال عليه ، وبسطته للناس فتنة لهم ووزر عليه !
إنسان سعد وأسعد ، وإنسان سعد ولم يسعد أحداً ، إنسان لم يكن سعيداً ، ولم يسعد أحداً .
أيها الإخوة الكرام ؛ حياة القلب سببها الاستقامة على أمر الله ، وسببها دوام الذكر ، والأعمال الصالحة .﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف الآية : 110 ]
والحمد لله رب العالمين