الخميس, 9 يوليو 2009
رؤية - سلطان الجهني
ارتبط العيش في البيئة الصحراوية بالجلافة و الجلادة، فمن غير الطبيعي أن يعيش في هذه البيئة من يناقضها سواء في مأكله و مشربه، أو هيئته و أخلاقه، لذا عاش أبناء البادية في ظل تأثير هذه البيئة الصحراوية عليهم، فهم فرسان يزاحمون الذئاب في الشجاعة و البسالة، و يرخصون أرواحهم في الذود عن كرامتهم، و ابن هذه البيئة -رغم قساوتها- تجده جواداً كريماً معطاء، لو لم يكن في يده سوى قطعة خبز، لجادت بها نفسه لضيف أو عابر سبيل، لذا لم تكن الأناقة، أو الاعتناء بالشكل و الهندام، في سلم أولويات ابن البيئة الصحراوية، و صحيح أن النظافة مطلب رئيس، بل واجب في شريعتنا الإسلامية، و كذلك الاعتناء بالمظهر أمر مهم، إلا أن ابن الصحراء يضع حداً للاعتناء بالمظهر ؛ لإيمانه بأن المحك على رجولته، هو أناقة المخبر. و أذكر أن الفارس المعروف الشاعر شليويح العطاوي تعرض لموقف مع فتاة تسمى نيلة، و التي هالها ما تسمع من فروسية و شجاعة شليويح، فحرصت على أن تشاهد هذا الفارس الهمام، إلا أنها أسبقت ذلك برسم صورة له في خيالها، حسب المقاييس التي تريدها هي، و حين حانت فرصة مشاهدتها له، كان شلويح العطاوي يجلس حينها في صدر المجلس مع رجال قبيلته، و عندما شاهدته نيلة خاب ظنها، لأن مقياسها للإعجاب كان بالوسامة و المظهر، و هذا الذي لم تجده في شليويح، الذي أن يكون له ذلك و هو الفارس الشجاع الذي يواجه الموت بكل بسالة في كل مرة يخرج فيها غازياً، و كان يلفح و جهه سموم القيض بين الفينة و الأخرى، فما كان من نيلة إلا أن عبرت علنياً عن صدمتها من رؤيتها له، حيث حسبته وسيما، و قالت : ذكر جاني و شوفك ما هجاني !، فما كان منه، إلا أن نسف مقاييسها لأناقة المظهر على حساب المخبر في قصيدة، منها قوله :
نيلة تطالعني بوسط الجماعة
و أظن نيلة لامستني بمنقود
ياما تعرضنا الفنى و المجاعه
و لا مسك الملهاب يا لين العود
إلى أن قال
و يا ليتها معنا على الهجن ساعة
حتى تعذر و جيهنا لو غدت سود
و لشليويح العطاوي أيضاً قصيدة جميلة، تدور في ذات الفلك، يقول فيها :
يا بنت يا اللي عن حوالي تسألين
وجهي غدت حامي السمايم بزينه
أسهر طوال الليل و انتي تنامين
و ان طاح عنك غطاك تستلحفينه
أنا زهابي بالشهر قيس مدين
ما يشبعك يا بنت لو تلهمينه
و مع أن الظروف الحياتية تغيرت كثيراً عن زمن شليويح، فلم يعد الغزو مصدراً للكسب، و لم يعد هناك ما يهدد الأمن و الطمأنينة، إلا أن معادن رجال البادية لم تتغير، و ظلت مقاييسهم للأناقة، هي ذات المقاييس التي تعتمد على المخبر و أفعال الرجال، حتى و إن عاشوا تحت سماء المدينة، يقول سليمان المانع و هو الشاعر الغريب، الذي عركته الحياة :
كان الرجولة بالمظاهر و الأشكال
عز الله اني ما عرفت الرجوله
و كان الرجولة بالمواقف و الأفعال
عز الله اني مرتوي يا الخجولة
فأناقة المظهر مطلوبة، و لكنها قطعاً ليست المحك للحكم على مخابر الرجال، فقد يكون سوء المظهر مرتبط بقلة الحيلة، و ضعف ذات اليد، و ناتجة عن الفاقة و الفقر في المال، و ليس الفقر في الأفعال. يقول أحد الشعراء في بيت جميل :
عزي لمنهو سبحته راس ماله
لا ضاق صدره قام يفرك خرزها
و في بيت آخر للشاعر المعروف سعود جمعان المطيري، يقول :
البنك لولا لوحته ما عرفناه
من قل ما ندخل على موظف البنك
وهناك من الرجال من يؤثر أناقة المخبر على أناقة المظهر، و يفرط في البذل و الكرم، و لا يعني له جمع المال شيئاً، و للشاعر عبيد الدبيسي بيت جميل يجسد هذا المعنى باقتدار، يقول
لو كان راس مالي قشعتيين من الشيح
سويتهن فنجال كيف و شربته
و هناك من لا يبالغ في التزين، لزهده في هذه الدنيا، و لعلكم تعرفون قصة ذلك الداعية المعروف، الذي كان يرتدي بشتاً واحداً لا يغيره، فلاحظ عليه ذلك أحد طلبة العلم، فطلب من الشيخ بشته هذا، و أخذ قياسه، و لم يكن الشيخ يعلم عن نية طالبه هذا، فما كان من طالب العلم إلا أن قام بتفصيل بشت جديد، و قام بإهدائه لشيخه، فقبل الشيخ الهدية، غير أنه لم يرتدي البشت الجديد إلا في بضع مناسبات، ليعود إلى بشته السابق، لقناعته بأن الأناقة في المخبر، و الذي يراه في طلب العلم و الزهد بهذه الحياة و لا أزكي على الله أحداً. و لا يمكن أن يكون جمال المظهر مقياساً للحكم على مخابر الرجال، ذلك أن الأمام أبو حنيفة كان جالساً في المسجد يلقي الدورس على طلابه، و كان يمدَ قدميه لشعوره ببعض التعب، بعد أن استئذان طلابه في ذلك، و لم يكن الحرج يقع بينهم، و إذا برجل يدخل عليهم المسجد، و كان عليه هيبة و وقار أهل العلم، فجلس هذا الرجل بين طلاب أبو حنيفة، فاستحى منه الأمام لما رأى من هيئته، و قام برفع قدميه إجلالاً لهذا الرجل، و كان درس الأمام حينها عن صلاة الصبح، حيث أوضح الأمام أن انتهاء فترة صلاة الصبح بطلوع الشمس، و ما بعد ذلك من الوقت هو قضاء لها، و هنا تداخل هذا الرجل سائلاً : و إذا لم تطلع الشمس، فما حكم الصلاة ؟!. فقال أبو حنيفة مقالته المشهورة ( آن لأبي حنيفة أن يمدَ قدميه !! ). و هذا لا يعني بأي حال أن نقبل برثاثة المظهر، و سوء الترتيب، أو التقصير في النظافة الشخصية، و لكن الحديث هنا عن المقاييس في الحكم على الرجال بين المظهر و المخبر. أما عالم حواء، فحدث و لا حرج فبعض النساء و ليس كلهن فيهن من قلة العقل، و ضعف الحكمة، ما يجعلهن يقسن الرجال بمظاهرهم فتجد من هن من تعجب بمطرب لوسامته، دون أي اعتبار لصوته، و إمكاناته الفنية، أو بشاعر لحُسن مظهره، حتى و إن كان شعره ركيكاً، و أقرب إلى النظم منه إلى الشعر، و قس على ذلك كثيراً. و ما دام الحديث عن النساء، فهن لا يفرقن بين فن الأناقة، و قبح الإسراف، إلا من رحم ربك، فتجد الواحدة منهن تشتري فستاناً بآلاف الريالات، لليلة فرح واحدة، ثم ترميه جانباً، و لا تعاود ارتداؤه بحجة أن النساء شاهدنا هذا الفستان عليها في مرة سابقة، و للسيدات في المبالغات و التبذير، طقوس عجيبة، و صور عدة، فتجد لدى الواحدة منهن دولاب كامل للجزم و الأحذية، كل واحدة منها لها لون يتناسب و لون و موديل فستان معين، و كل ذلك يتم وسط إرهاق الأزواج و الآباء بمبالغ طائلة، كما أن النساء الضعيفات مادياً يجدن الكثير من الحرج في حضور حفلات الزواج، لما يجدن من فوارق شاسعة في موديلات و ماركات و أسعار الفساتين، فهنا سحقاً لأناقة المظهر، لأنها أناقة غرور و تكبر و تبذير، و المبذرون أخوان الشياطين، فرب سيدة ضعيفة معدمة، ترتدي فستاناً تقليدياً خير عند ربها من سيدة مجتمع ترتدي فستاناً مرصعاً بالحلي بآلاف الريالات، و حسبي أن الفتاة الحسناء، التي حباها المولى عز وجل بالجمال، هي من تضيف السحر على فستانها و ليس العكس.
بل إن في بعض الصيحات و التقليعات العصرية في مواكبة الموضة خدش للحياء، و إساءة للمظهر العام و إلا كيف يمكننا تقبل ما يرتديه بعض شبابنا الذكور من بناطيل، بعضها ممنوع حتى في بعض الدول الغربية، مثل : ( اللو وست )، و تعني الخصر الواطي، و يسميها بعض الشباب طيحني و بابا سامحني و غير ذلك من الملابس التي تحاكي الموضات، و لكنها أبعد ما تكون عن الأناقة، التي يفترض أن تنتصف للذوق العام. و تظل العلاقة في الأناقة بين المظهر و المخبر، علاقة شد و جذب، و تقارب و تنافر، بما يحكمها من عادات و تقاليد في بعض الأحيان، أو ظروف مادية، أو دواع فكرية و ثقافية، و الأجمل في ذلك هو الجمع في الأناقة بين المظهر و المخبر، فيكون الإنسان حسناً في مظهره، تقياً في جوهره
المصدر المدينة