ما أشنع نتائج الإفتاء حين يفقد بوصلة رشاده المبني على تقوى الله- عزوجل- ومراقبته، تائهاً في ظلمات الإفراط أو التفريط، مدعياً الخير والحق والعلم، متذرعاً بنصوص وقواعد طالما كان بينه وبين فقهها بُعد المشرقين!
فعندما تحُلُّ بالأمة الإسلامية النوازل وتصابُ بالفتن، فإن الناس تَشْخَصُ أبصارهم وتهفو أفئدتهم إلى علمائها ينتظرون منهم الحلول التي تنير لهم الدرب وتبين لهم طريق النجاة وتخلصهم من الحيرة.
هذا هو الوضع الأصلي للعلماء،وهذه هي مكانتهم التي أرادها الله- عزوجل- وبينها الرسول- صلى الله عليه وسلم،فقد روى أبوداود والترمذى من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع،وإن العالم ليستغفرُ له مَنْ فى السموات ومن فى الأرض حتى الحيتانُ فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء،وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى "الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين، والعلمُ يُحتاج إليه بعدد الأنفاس".
وكان معاذ بن جبل يقول فى خطبته كثيرا وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هى كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق.
ولكن في ظل غياب حكم الإسلام ،وفي ظل طرحه بقوة في العالم الإسلامي وتعمق جذوره في نفوس أبناء الإسلامية،وفي ظل بوادر عودته وإعلان فجره وشروق شمسه على الكرة الأرضية،وفي ظل تخوف الأنظمة الحالية التي بان عوارها وفسادها وتواطؤها مع الغرب وتطبيقها لسياسة فصل الدين عن الحياة ؛ فلا يمكنهم استبعاد الإسلام بالكلية،ولا تطبيقه بشكل كامل.
في ظل ذلك كله يتم اللجوء إلى استصدار الفتاوى التي تبرر أعمال الحكام وتدعم وتبرر الموقف السياسي فيلجأون إلى من لا يرون أي تعارض شرعي مع القانون الوضعي.
الأمر الذي يؤكد أن التبريرات الشرعية تُفصَّل تفصيلا على مقاس الحكام وتتناسب جميعها مع الموقف السياسي المراد اتخاذه،كما أن طبيعة السؤال نفسه والمعلومات المضللة التي تقدم للمفتي تلعب دورا مهما في توجيه الفتوى ذاتها.
ومن هنا يبرز خطر هذه الفتاوى التي تخالف الشرع ولا تستند إلى الكتاب ولا السنة وتكرس الواقعية التي تدعو للاستسلام والخنوع والرضا بما لا يرضاه المسلم بناءً على ما يحمل من أفكار.
وقد حاول بعضهم تطويع الأحكام الشرعية بما يتفق مع متطلبات العصر أي مع الواقع فأصبحنا نسمع بقاعدة ‘لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الزمان’، بل تم الإفتاء بما يُعارض نص القرآن القطعي كإباحة الربا القليل بحجة أنه غير مضاعف وبحجة الضرورة.
ومن ثم تفضي إلى مخالفة الأحكام الشرعية تحت ضغط الواقع، أو للتنازل عن الأفكار والمبادئ التي يحملها المسلم، وهذه أخطر من سابقتها فيقع أسيرا لأفكار غيره ويغيّر أفكاره تمشيا مع هذا الواقع وتقع الأمة فريسة لردات فعل طبيعية للواقع للسيئ فتعالج قضاياها بعيدا عن أفكارها فيصبح داعيا للاشتراكية أو الديمقراطية أو حتى يتنازل عن أرضه أو جزء منها، والأخطر من هذا أن تتسرب الواقعية إلى السياسيين والمفكرين حيث استنباط حلول القضايا من واقع القضايا نفسها دون الرجوع إلى المبدأ مثل الحل لقضية فلسطين على قاعدة خذ وطالب، والرضا بالأمر الواقع، والعمل ضمن الظروف الدولية الراهنة على اعتبار أن السياسة هي فن الممكن وليس بالإمكان أكثر مما كان، مع استبعاد الحل الذي يمليه المبدأ بحجة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}الحج78.
وإمعانا في تدجين الناس يقوم المستعمِر بفصل القيادات الصالحة عن شعوبها وعزلها عن مواقع التأثير وصناعة القرارات المصيرية وذلك بإيجاد قيادات بديلة فاسدة ضالة مُضلة، وهذا يتطلب صناعة علماء معتدلين يروجون لكل ما من شأنه تمييع الإسلام ونشر المفاهيم المضللة كالوسطية والعولمة والإرهاب والتطرف والإعتدال يكون همُّها تحصيل المتاع والموت في سبيله، ومن ثم إزاحة من يحاول الوصول إلى الكرسي بكل الطرق ؛بالسجن أو القتل مهما بلغ عدد المعتقلين ومهما أريق من دماء زكية، المهم بقاء الكرسي والمحافظة على المصالح العليا للحارس الكبير ، وبالتالي يفتقد التوجيه وتضلله المناهج التي وضعها حارس المزرعة لانحرافها عن الأصل، فضلاً عن قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِيْنَ }يونس(81)، ولما قررت إنجلترا نقل اللورد كرومر من مصر إثر قضية دنشواي أقام بعضهم حفلاً لوداعه، ومع أنه سخِر من محتفليه وأهانهم إلا أنه أضاف "أنا لست آسفا على ترك مصر؛ لأنني تركت فيها من يؤمن بمبادئنا ويسير عليها وأنا سعيد بقيادتهم لمصر" (مصر الحديثة.. لورد كرومر مكتبة ألأنجلو المصرية).
من هذه الفتاوى المضللة الفتوى التي تجيز إقامة الجدار الفولاذي،وهي لا تراعي إلا الواقع القائم من حدود ودويلات،تقلب الحقائق الشرعية وتفرق بين المسلمين وتعترف بالحدود الفاصلة التي أقامها الكافر المستعمر وتقر حدود سايكس–بيكو التي فُرضت على الأمة، وهي لا تقر الحدود الوهمية الفاصلة فحسب،بل تقرُّ باحتلال كيان يهود لأرض فلسطين،وأن ما يحدث في فلسطين وفي قطاع غزة على وجه التحديد هو مسألة "إسرائيلية" داخلية لا شأن للمسلمين بها وهو ما لا يقول به إلا متقحم للنار على بصيرة.
كيف لا ؟ وهذه الفتاوى تغطي تواطؤ النظام المصري مع كيان يهود في حربه وحصاره لغزة.
إن الأمة تزخر بالعلماء المخلصين الذين يرفضون هذه الفتوى وأمثالها ويتطلعون إلى اليوم الذي يكونون فيه جزءا من جيوش المسلمين الزاحفة لتحرير فلسطين وكل البلاد الإسلامية المحتلة.
ولقد سجل لنا التاريخ مواقف مشرفة ومآثر جليلة تبين الصورة الحقيقية لعلماء الأمة الإسلامية الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،ومن أشهرها موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من النصراني عساف الذي سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعت محنة عظيمة، ضرب فيها شيخ الإسلام وسجن، فألف بسببها كتابه العظيم: " الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم".
والسبكي - رحمه الله - في "السيف المسلول على من سب الرسول" يبين سبب تأليفه للكتاب فيقول: كان الداعي إليه أن فُتيا رفعت في نصراني سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم، فكتبت عليها: يقتل النصراني المذكور كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن الأشرف، ويطهر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب... وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم أن قلبي كاره منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفو غفور.ا.هـ
{.... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17.