جذور عاطفة الغضب إلى أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ، عندما كانوا بحاجة إلى جرعات زائدة من الأدرينالين لصدّ هجمات القبائل المعتدية أو التصدّي للوحوش المفترسة! إلا أن تلك الاستجابة الآلية الغاضبة لا تزال تجري في عروقنا رغم أننا نعيش في زمن بالغ في التحضّر. وفي ضوء ذلك، ولدت الحاجة لفن وعلم “التحكّم في الغضب”.
وفي تحقيق اجرته مجلة “هاي” الامريكية تقول الدكتورة كاثلين ويلسون مؤلّفة العديد من الكتب حول الصحة النفسية والعقلية: “إننا نشعر بالتوتر تماما كما كان يشعر به أسلافنا قبل 10 آلاف سنة خلت، غالبا ما يكون الغضب مؤشرا الى الإخفاق في التكيّف مع البيئة والظروف المحيطة بنا، وهو يلحق الضرر بالناس بدلا من أن يخفّف عنهم الصعوبات”.
وبدلا من مصارعة الطبيعة، فإننا نميل لمنازلة أقرب الناس إلينا. ويصل الأمر إلى حدّ النزاع، وهو النقطة التي يشعر عندها الأزواج، على سبيل المثال لا الحصر، بفقدان السيطرة ويصبحون غاضبين. فهم يشعرون بأنهم يتعرّضون للهجوم، كما يشعرون بأنهم مهدّدون من قبل الطرف الآخر فتكون ردود أفعالهم انتقامية في محاولة منهم لاستعادة السيطرة على الموقف.
البحث عن الأسباب
الحل هو مقاومة هذه النزعات والحوافز المثيرة للغضب.
يقول الدكتور سكوت هالتزمان، أستاذ علم النفس والسلوك البشري في جامعة براون، الذي كرّس خمس سنوات للبحث في العلاقات الزوجية: “السبيل الرئيسي للأزواج للتغلّب على العوامل الدافعة إلى حالة الغضب هو التحدّث بصراحة عما يغضبهم أو يحبطهم أو يسبب لهم الإزعاج”.
وتقول الدكتورة ماري بيليس والر أخصائية الأمراض النفسية في مدينة ميلواكي في ولاية ويسكونسن: “يتعرّض جميع الناس للاختلاف والخصومة فيما بينهم، بيد أنه من السخف أن تغضب من إنسان آخر لمجرد أنه يختلف معك”.
وتضيف قائلة: “يلجأ البعض إلى الغضب بغية تخويف الآخر، وعادة ما يمكّن الغضب أصحابه من السيطرة على الموقف أكثر”.
والأمر الذي يزيد من حدّة المسألة أن الدماغ يُحرّض على توليد استجابة عدوانية مضادة للعدوان، ويصبح من ثَمّ عاجزاً عن حل المشكلات.
ويؤكد هالتزمان ذلك بقوله: “حين تجرفك المشاعر، يسيطر عقلك البدائي وأجهزة الدماغ تحت القشرية على تصرفاتك على نحو لا تحصل معه على الاستجابة العقلانية المطلوبة لفض الخلاف، ولا على الجدل الموضوعي من الجزء المنطقي المفكِّر في الدماغ. إنك تتوقف في حينها عن التفكير بوضوح”. ولعل العلاقات الحميمة بين البشر هي أكثر ما يصاب بالضرر جراء الغضب.
وتقول ويلسون: “الكل يرى الأمور من وجهة نظره، وهو ما يقود إلى النزاع في كل علاقة، ومن الصعوبة بمكان تحديد النقطة الفاصلة بين النزاع والغضب لأنهما جزء من طيف أو تشكيلة واسعة للمشاعر. وحتى أولئك الذين لا يبدو عليهم الغضب لديهم طرقهم الخاصة للتعبير عن عدائهم، مثل السلوك العدواني السلبي، ومثال على ذلك هو الزوج الذي يتعهد بأن يأخذ الأطفال من المدرسة ثم وببساطة لا يفعل ذلك. التفاهم هو أحد الحلول لمشكلة الغضب، كما هو الحال بالنسبة لفهم المكونات العامة للنزاع بين البشر”.
سلوك مكتسب
بينما يوصف الغضب بأنه أمر طبيعي، إلا أن طرق التعبير عنه، كما تقول والر، ليست جزءاً من تركيبنا النفسي العميق والراسخ، إنها سلوك مكتسب وعادة يتعيّن على الناس التخلّص منها.
وتقول والر: “كل من يقول إنه إنما يعبّر عما يدور في ذهنه أو إنه لا يستطيع تفادي الشعور بالغضب كاذب، فالغضب الذي نشعر به استجابة بدائية، لكن طريقة تعبيرنا عنه صفة مكتسبة”.
وأكثر مشاحناتنا حدة عادة ما تحدث مع أحبائنا والمقربين إلينا. فهم يعرفون نقاط القوة والضعف فينا، وبوسعهم دفعنا في الاتجاه الذي يريدون لإشعارنا بأننا مهدّدون. ويوّلد هذا الشعور بالتهديد استجابة فسيولوجية: تتسارع الأنفاس ويرتفع ضغط الدم وتصاب أطرافنا العلوية بالتيبّس استعداداً للدفاع عن أنفسنا.
التحكّم في الغضب
يمكن لنا أن نتصدى لهذا كله بأن نتنفس بشكل عميق، حسب رأي والر التي تقول: “لا تستطيع الاسترخاء حينما تحبس أنفاسك، وما يحدث مع التنفس العميق هو أنك تحثّ الاستجابة الطبيعية للاسترخاء في الدماغ. وفيما تجعل الأنفاس القصيرة المتقطعة الجزء العلوي من الجسم متصلبا، فإن التنفس العميق سيجعلك تسترخي”.
وبنفس الطريقة، يستطيع الناس أن يعيدوا تعليم أنفسهم وبسهولة التنفس بعمق من أجل الاسترخاء حين تُستفز المشاعر البدائية في الدماغ. وستصبح هذه الطريقة، بقدر قليل من التدريب، هي الاستجابة الطبيعية وسيحل الاسترخاء محل الصراخ والتلويح بالأيدي وصفق الأبواب بشدة، أو محل ذلك الغضب الذي قد يتحوّل إلى اعتداء جسدي على الآخرين. وفقدان القدرة على التفكير بوضوح هو ما يجعل الناس غير عقلانيين.
يشير هالتزمان إلى أن هذا هو السبب في أن معظم المشاجرات تدور حول أشياء صغيرة وتافهة.
ومن الأهمية بمكان أن يخفف المرء من اندفاعه وأن يهدأ لكي يستعيد زمام السيطرة على آلية دماغه ما يمكّنه من التفكير بطريقة عقلانية قبل أن تتفاقم الأمور. بيد أن أهم ما يعلّمه هالتزمان لمرضاه ليس التحدّث مع أحدهم الآخر بل الاستماع والإنصات إلى كلام بعضهم البعض.ويقول: “حاول أن ترى الأمور من منظور شريكك لدرجة أنه سيكون بوسعك التعبير عنها بطريقة تنال رضاه واستحسانه، وسيجعل الشخص الآخر يشعر بأنه قد تم الاستماع لما يقوله، وهذا هو لب المشكلة. والسبب في أن معظم الناس يتشاجرون هو أنهم يشعرون بأنه ما من أحد يستمع إليهم، أما إذا شعر المرء بأن هناك من يفهمه فإن استجابته الدفاعية تختفي بالكامل، ويتلاشى خطر أن يصيبه الغضب كلية تقريبا”.
ربما كان الغضب استجابة بدائية لدى أسلافنا لأنهم قد افتقروا إلى وسيلة الاتصال الأساسية وهي اللغة، وكانوا بذلك عاجزين عن التخاطب مع بعضهم البعض بوضوح. لكن اليوم، ومع توفّر الوسائل والفرص للتواصل والتخاطب، فإنه بوسعنا أن نؤجل استجاباتنا الغاضبة إلى حين نكون في حاجة ملحّة إليها.