أكثر ما يحفل به حاضرنا العربي المعاصر ودون شك، هو حالتا التخوين والتكفير اللتان ترهقان الفضاء الفكري وتحدان من سلطة العقل وحقه في التفكير الحر الذي يفكك بنية الوعي المولّد للتكفير و التخوين إلا ما استند على دليل ظاهر.
ولكن المتفحص لحالات التخوين التي تتم في العالم العربي، والمدقق في مفردة خيانة واستخدامها الحالي ، لاشك سيلحظ اقتصار نمط التخوين على حالتين اثنتين : أولهما التعامل مع العدو بالنسبة لمن تعامل وعمل جاسوسا لصالح العدو بحق.
وثانيهما: اتهام السلطات للمعارضين لها بالتعامل مع الخارج وتلقي معونات خارجية. ويقابلها من الطرف اّلآخر اتهام المعارضين للمثقفين المستقلين ولمن يخالفوهم في الرأي بالعمالة لصالح السلطات.
لن نناقش في هذا المقال الدوافع التي تجبر السلطات والمعارضات العربية على اتهام المخالفين لهما بالخيانة، لأنها في جذرها تعود إلى غياب الأرضية الديمقراطية اللازمة.
ولكن سنناقش امتناع السلطات العربية وأبواقها الإعلامية قاطبة، والمعارضات على اختلاف أشكالها والمثقفين والشعوب نفسها على إطلاق عبارة الخيانة على حالات الفساد التي يتم كشفها، علما أن حجم الضرر التي يتسبب به هؤلاء الفاسدين يكون في أحيان كثيرة أفجع وأفدح وأكثر ضررا مما قد يسببه "الخونة" بالمعنى الأول.
أليس تخريب اقتصاد الوطن خيانة ؟
أليس سرقة أموال الوطن خيانة ؟
ألا يخون المؤتمن على أموال البلاد والعباد ثقة من أمنوه؟
خطر الفساد عندما يكون في مراكز حساسة لا يقل عن خطره عن حالات الخيانة والتجسس لصالح العدو، وخاصة عندما يصل الأمر إلى مرحلة الإفساد المتعمد، تحقيقا لمصالح شخصية ضيقة، وأحيانا ربما يكون الهدف الخفي هو تخريب واضح وممنهج للاقتصاد الوطني ، الأمر الذي يجعل من الحالة "خيانة وطنية بامتياز"!
ولكن رغم ذلك لا نجد من يطلق على الفاسدين، صفة الخيانة، لا من قبل السلطة التي تحاكم هؤلاء الفاسدين، ولا من قبل الإعلام الذي يسرد وبالتفصيل الممل فسادهم، ولا من قبل المعارضات التي تشنف أذاننا ببياناتها الصاخبة ضد الفساد والمفسدين، ولا من قبل المثقفين الذين يعتبرون "ضمير الأمة ورسلها"، ولا من قبل الشعب نفسه الذي يحصد نتيجة ما يزرع هؤلاء المفسدون.
السؤال المربك : هو لماذا لا يتهم هؤلاء بالخيانة؟ ما لسبب؟
للوهلة الأولى يبدو الأمر طبيعيا، وغير ذي أهمية، إذ يكفي القول أنهم مفسدون وهذا يفي بالغرض، ولكن تدقيقا ما في الحالة سيكشف ما هو أدهى وأعظم، لأن خلف الأكمة ما خلفها!
نبدأ من السلطات التي تحاكم هؤلاء الفاسدين، فهي لا تطلق عليهم صفة الخيانة، لأنها بإطلاقها الصفة المذكورة، يعني أنها تطلقها على نفسها، لأن الشخصيات التي تحاكم بتهم الفساد "دائما" هي شخصيات تربت في بيت السلطة وضربت بسيفها، و هي التي سمحت لها بالفساد والإفساد المتعمد من أجل تسهيل مهمتها في الحكم، ليصبح "الجميع مدانون تحت الطلب"، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العديد من الشخصيات الموجودة في السلطات العربية وما تزال تمارس عملها، هي شخصيات معروفة بفسادها وإفسادها، وامتلاكها لأموال غير مشروعة، الأمر الذي يعني أن إرداف صفة الخيانة بمن يحاكم بتهمة فساد، هو توجيه التهمة نفسها وبطريقة غير مباشرة لمن مازال يمسك بزمام الأمور، الأمر الذي ينتزع من أيدي السلطات العربية، أهم سلاح تشهره في وجه معارضيها. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السلطات المذكورة لا تقدم على محاكمة أي شخصية من شخصياتها بتهم فساد لأنها تنوي مكافحة الفساد، إنما تحقيقا لهدف معين يخدم مصلحتها، وهو ما بيناه في مقال سابق منشور على هذا الموقع تحت عنوان : الفساد والسلطة والديمقراطية.
هنا نجد أن امتناع السلطات عن إرداف صفة "الخيانة" بمن تمت محاكمته بتهم الفساد، ليس عبثيا أو نتيجة غباء ما ، إنما هو أمر مدروس وممنهج، كي لا تطالها الخيانة، وتصبح كمن يشرب من سُمّا طبخه بنفسه!
ولكن المحيّر هو عدم انتباه المعارضات العربية في العالم العربي كله لهذا الأمر، إذ رغم اتهام السلطات لها دوما" بالعمالة والخيانة"، لم تسع يوما لأن تفكك ذلك المصطلح، وتعيد تركيبه بشكل فكري ممنهج لرد التهمة إلى أصحابها الحقيقيين، الأمر الذي يعكس أوجه قصور هذه المعارضات وعدم نضجها، وعدم قدرتها على الخروج من حالة "الأدلجة" التي حصرت نفسها بها، إذ تعكس أغلب بياناتها مراهقة فكرية تؤكد عجز هذه المعارضات عن تشكيل نموذج يمكن أن يشكل حالة تشي بأمل ما.. حيث مازال تفكيرها محصورا بنطاق السلطة والوصول إلى الحكم، دون أن تكلف نفسها العمل على قضايا المجتمع والفساد، أي مازالت تطفو على السطح، ولم تسع لتأسيس حالة شعبية عن طريق اهتمامها بالثقافة والفكر وقضايا الناس، إضافة إلى أن المعارضات نفسها تعيش فسادا معنويا من نوع آخر، وهو الفساد السياسي الذي يجعلها تناور"سياسيا" فقط دون أن تسعى لتشكيل جذر حقيقي معارض في المجتمع، أي تسعى مثلها مثل السلطات الحاكمة لأن تلعب على تناقضات المجتمع من أجل الوصول حتى لو أدى ذلك إلى خلخلة روابط المجتمع المفككة أصلا.
وهنا حال التصاق مفردة الفساد بالخيانة، سيجعل التهمة موجهة إلى المعارضة نفسها التي تتحاشى أن توسم بها، الأمر الذي يجعل من السلطة والمعارضة وجهان لعملة واحدة.
أما على الصعيد الشعبي، فيبدو الأمر معقدا جدا، حيث أضحى الشعب في أحيان كثيرة من خلال منظومته الفكرية التقليدية (التي تسعى السلطة وأعوانها إلى تكريسها) عاملا مساعدا على الفساد ، رغم أنه المتضرر الأكبر، حيث وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الفساد بنيويا، وأصبح الشعب نفسه يدافع عنه ويكرسه، حيث استطاعت السلطات أن تجعل من الجميع مشاركا ومساهما بشكل أو بآخر، الأمر الذي يعني وسم الفساد باسم الخيانة أمر غير مستحب لدى الشعوب السائدة بسبب الوعي المشوه الذي تم زرعه عبر عملية غسل دماغ مستمرة منذ عقود، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نلحظ أن ثقافتنا العربية عموما مبنية وقائمة على التخوين الذي فرضته الإيديولوجيات الشعبوية، والتكفير الذي فرضته الأصوليات الإسلامية، ومابين إيديولوجية التكفير وإيديولوجية التخوين يبدو الوعي العربي محاصرا بفخ يصعب الفكاك منه، حيث تعلم المواطن العربي أن التخوين يمكن إطلاقه على المخالف في الرأي وعلى المعارض وعلى كل من يسعى لخلخة البنى السائدة المكرسة للوعي المأزوم هذا.
الأمر الذي يعني أن الخيانة في الوعي المأزوم هذا تبدو ثقيلة جدا، لذا يتحاشى الوعي الشعبي إطلاقها على الفساد لأن الكل مشارك بهذا الفساد، الأمر الذي يعني أن هذا ينطبق عليه.
وهنا نلحظ ذلك الازدواج المرعب في الثقافة العربية، هذه الثقافة التي تتحاشى إطلاق صفة الخيانة عندما تمسها، وتطلقها بسهولة على من يختلف معها في الرأي، وهذا أصعب ما في الظاهرة وأعقدها، إذ يغدو الأمر مركبا، فالمتضرر من الفساد هو الذي يدافع عنه، ولا يكتفي بذلك بل يخترع"ايديولوجيا" تشرعه وتقدم له المسوغات اللازمة لنموه واستمراره.
من هنا لا يمكن فصل محاربة الفساد، عن توجيه النقد العنيف لكل البنية الثقافية المولدة لتلك الأنظمة (سلطة ومعارضة وإعلام ووعي شعبي زائف) التي استطاعت أن تلعب وتناور وتبني قلاعا داخل مدن خصومها، ليصبح المتضرر هو المدافع عما يسبب تضرره دون أن يدرك ذلك.