المذهب لغة: مكان الذهاب. واصطلاحاً: ما اختص به المجتهد من الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية المستفادة من الأدلة الظنية. وقد ذكر ذلك جمع من العلماء.
ومما جاء في تعريف المذاهب الفقهية هو أنها مذاهب اجتهادية في مسائل الشريعة الفرعية، وهي جميعاً لا تختلف حول أصول الشريعة، ولو في جزئية واحدة، والأصل أنه لا مذهبية، ولكن الضرورة دعت إلى تتبع اجتهاد فقهاء المذاهب الفقهية من أجل التمكن من حل المشكلات العملية بيسر وسهولة.
والمذهب الصحيح هو المنسوب لإمام عرف بتقوى الله تعالى، وورعه واتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
مذاهب أهل الإسلام الفقهية كثيرة ويصعب حصرها، وقد مر الفقه الإسلامي بعدة مراحل وأدوار، كان منها دور ظهور المذاهب الفقهية وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، وفي هذا الدور ظهر نوابغ الفقهاء. فالمجتهدون العظام ظهروا في فيه وأسسوا مذاهبهم الفقهية، والتي اشتهر منها المذاهب الأربعة المنسوبة لأئمة عظام، كان لهم بالغ الأثر في ازدهار الفقه ونمائه وتقدمه. وقد أسسوا مدارس فقهية انضوى تحت لوائها فقهاء كبار، وكلها مذاهب معتبرة صحيحة مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته ومن تبعهم بإحسان، وقد دونت مسائلها.
هذه المذاهب الأربعة هي: الحنفية نسبة للإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله المولود سنة 80ه والمتوفى سنة 150ه، والمالكية نسبة إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله المولود سنة 93ه والمتوفى سنة 179ه، والشافعية نسبة للإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله المولود سنة 150ه والمتوفى سنة 204ه، والمذهب الحنبلي والمنسوب إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله المولود سنة 164ه والمتوفى سنة 241ه. وبالتالي فلم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم أحد من أئمة المذاهب الأربعة.
وحول نشأة المذاهب الفقهية أيضاً فقد جاء أنها نشأت كمدارس فقهية لتلبية حاجة المسلمين الماسة إلى معرفة أحكام دينهم، وإنزال هذه الأحكام على الوقائع الجديدة. وهذه الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقة الناس الاجتماعية، من خلال معرفة حقوق كل إنسان وواجباته، وتبيان المصالح المتجددة، ودرء المفاسد المتأصلة والطارئة. وهي مذاهب اجتهادية أعوزت إليها الوقائع اللامتناهية، والتي لا يمكن أن تضبطها النصوص المتناهية، فقامت لإيجاد حل شرعي.
المذاهب الأربعة ليست تجزئة للإسلام ولا إحداث تشريع جديد، وإنما هي مناهج لفهم الشريعة، وأساليب في تفسير نصوصها، وطرق في استنباط الأحكام من مصادرها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهي مدارس اجتهد أهلها في دراسة القران والسنة، ومقاصد الشريعة الإسلامية واستنبطوا من ذلك القواعد والأصول التي يستخرجون منها الأحكام الشرعية للنوازل والأحداث المتجددة. فنصوص الوحي كما ذكر محدودة، وحوادث الحياة متجددة، وكل فعل من أفعال المكلفين له حكم في الشرع، يعرف ذلك أهل العلم.
كل مدرسة من هذه المدارس لها قواعدها وأصولها التي من خلالها تستنبط الأحكام، وإن كانت متفقة على المرجعية العليا التي هي القران والسنة ومقاصد الشريعة، وإنما يكون اختلافها في المسائل الفرعية فقط.
فلا غرابة إذاً في أن تختلف المذاهب، لاختلاف الأدلة التي استند إليها أصحابها أو اختلاف طرقهم في الاستدلال، مع أنهم كلهم مستندون في فتاواهم على القران والسنة أو القواعد العامة المأخوذة منهما.
والاختلاف بين المذاهب مبني على الاجتهاد والنظر في المسائل التي تقبل ذلك مما لا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح أن تكون فيها شركيات أو بدع، فالشركيات والبدع هي من إحداث العوام والفساق، وليست من أي من المذاهب الأربعة ولا غيرها من مذاهب السنة.
المذاهب الفقهية الإسلامية لا تنحصر في أربعة مذاهب، كما سلف. فهناك مذاهب أخرى غيرها كمذهب الإمام الثوري، ومذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام الطبري، ومذهب الإمام الليث بن سعد، وغير ذلك من مذاهب الأئمة، ولكن المذاهب الأربعة المشهورة نالت قدراً عظيماً من التحقيق والعناية، وتواترت جماهير علماء الأمة على تنقيحها ودراستها، بخلاف غيرها من المذاهب التي لم تلق هذه العناية. وللتأكيد فإن المذاهب الأربعة وغيرها مذاهب اجتهادية في مسائل الشريعة الفرعية، وهي جميعها لا تختلف في أصول الدين، وإنما الخلاف بينها محصور في دائرة الأدلة الظنية، التي تختلف فيها أنظار العلماء.
الأئمة الفقهاء الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام كالأوزعي والسفيانين والحمادين والليث بن سعد وغيرهم، مجتهدون مخلصون لا مبتدعون، وكانوا يعلمون صحيح الحديث من ضعيفه، إلا أنهم كانوا يتفاوتون في ذلك، ويختلفون في صحة بعض الأحاديث وضعفها نظراً لاختلافهم في راو معين، هل هو مقبول أم لا، أو لقيام شاهد للحديث الضعيف سنداً في نظر بعضهم دون بعض، أو اختلافهم في قبول المرسل أو رده، واختلافهم في قبول الحديث الذي خف ضعفه إذا لم يكن في الباب غيره ونحو ذلك مما هو معروف لدى المشتغلين بهذا الفن، وأما الذين جاؤوا من بعدهم من المحققين كالحافظ ابن عبد البر والحافظ المزي والحافظ ابن حجر والذهبي والسبكي وغيرهم، فإنهم ساروا على منهجهم ورجحوا بين أقوالهم حسب ما رأوه صواباً عندهم، وهكذا من جاء بعد هؤلاء كالسيوطي والمناوي والهيتمي وهكذا إلى يومنا هذا. فإذا تبين هذا فمن سلك منهج هؤلاء فلا تثريب عليه، وأما من خالفه وانتهج منهجاً آخر ينقض به منهجهم وقواعدهم ويخالفهم في أحكامهم على الأحاديث فهو مبطل أياً كان، وفي أي زمن وجد.
هؤلاء الأئمة هم من أعلام أهل السنة، فمن اتبع أحدهم فهو على خير ما دام في مرحلة التقليد. أما من كان في المراحل الأخرى فلذلك حديث آخر في ما هو قادم من مواضيع إن شاء الله. كذلك فإن الاتباع لهذه المذاهب إنما هو اتباع لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في سورة الأعراف: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون.
ومما يذكر في هذا الموضوع أن بعض العلماء قد ذهب إلى عدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة لا عملاً ولا فتوى ولا قضاءً، وبالغ بعض العلماء حتى نقل الإجماع على وجوب اتباع المذاهب الأربعة دون غيرها، متعللين بعدم حفظ مذاهب غيرهم لموت أصحابها وعدم تدوينها. لكن هذا الإجماع غير مسلم، وقد رده غير واحد من أهل العلم.
لذلك فلا يجب التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة ولا غيرها، رغم ما لهذه المذاهب وأصحابها من الفضل، وإنما الذي يجب أن يلتزم هو الكتاب والسنة وحيث ظهر الدليل فهو المعول، ولا يجوز العدول عنه إلى قول أحد كائناً من كان، فلا يدفع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد، ولا عذر لأحد عند الله في اتباع قول يعلم أن الدليل ثابت بخلافه.