بريطانيا والخلافة الإسلامية
الكاتب: الدكتور ماهر الجعبري
المتتبع للتغطية الإخبارية لما تزمع عليه الحكومة البريطانية من تضييق على المسلمين ومن إرهاب لهم وتخويف من حمل الإسلام حملا حضاريا كمشروع بديل عن الحضارة الغربية، في إستراتجيتها الجديدة التي ستعلنها الشهر المقبل، يلفت نظره مقال رئيس تحرير جريدة القدس العربي (الأستاذ عبد الباري عطوان) بعنوان "ترهيب المسلمين في بريطانيا" بتاريخ 2009/02/18. فيبدو أن المقال ذكر ما لم تنقله كافة الفضائيات العربية. وجاء صريحا مباشرا وجريئا في طرح المسألة بأبعادها الحقيقة، على خلاف العديد من الفضائيات التي تطرح شعار الرأي والرأي والآخر، أو شعار الصورة الكاملة، أو غيرها من الشعارات الإعلامية والمهنية.
تلك الفضائيات التي سلّطت الضوء، في ظلال الخبر، على شخصية إسلامية واحدة وعلى موضوع ترحيلها من لندن إلى الأردن، وكأن كل الموضوع محصور في تلك الشخصية. ولم تجرؤ على مقارنة المشروع الإسلامي الحضاري مع المشروع الحضاري الغربي.
رئيس تحرير القدس العربي قال ما لم تقله تلك الفضائيات، إذ جهر بالحديث عن صفة المتطرف حسب تصنيف الحكومة البريطانية بأنه "كل من يطالب بإقامة الخلافة الإسلامية أو توحيد الأمة الإسلامية تحت راية دولة واحدة. وينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية ويروج لها. ويؤمن بالجهاد، أو المقاومة المسلحة في أي مكان في العالم بما في ذلك الكفاح المسلح لتحرير فلسطين في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة". إضافة إلى المناداة بالقيم الإسلامية الاجتماعية من مثل تحريم الشذوذ الجنسي.
هذه هي الموضوعية في نقل الخبر، دون إخفاء بعضه، وبعيدا عن منهج ذكر نصف الحقيقة.
ثم كان المقال مباشرا في ربط الحاضر بالتاريخ إذ استدعى "محاكم التفتيش في أوروبا" كشاهد على حرب قديمة لمحو الإسلام كنظام حياة. ومن ثم كان جريئا في طرح مشروعية الخلافة الإسلامية كنظام سياسي وحدوي، عندما قال فيه: "ولا نفهم لماذا يعارض مسئولون بريطانيون مسألة المطالبة بالخلافة الإسلامية، ويعتبرونها دعوة للتطرف، فبريطانيا نفسها عضو في الاتحاد الأوروبي، ويمثلها نواب في برلمانه، مثلما هي عضو في حلف الناتو، فلماذا تحرّم على مواطنيها المسلمين ما تحلله لنفسها ولمواطنيها المسيحيين؟ فهل الوحدة الأوروبية حلال والوحدة الإسلامية كفر وزندقة؟"
بل وتحدث عن مشروعية الجهاد في قوله: "والجهاد فريضة على كل مسلم إذا تعرضت أراضيه للاحتلال من قبل قوات أجنبية غازية".
هذا هو الانحياز لثقافة الأمة لدى التعليق على الأحداث، مما هو مفتقد لدى الإعلام العربي.
من الممكن أن تصنيف هذا المقال يندرج لدى المتابع الإعلامي في خانة "المقالات المتطرفة"، لأنه يطرح أدبيات الإسلام السياسي والجهادي طرحا مباشرا، ولا يلتزم ثقافة الانحناء للمشروع الغربي المحارب لفكرة الخلافة والجهاد: ففي زمن صارت الموضوعية الإعلامية فيه تعني الانبطاح للغرب ولمشروعه الحضاري، صار لزاما أن ننظر لمثل هذا المقال وكأنه تغريد خارج سرب الإعلام العربي، وصار ذكر الخلافة والجهاد على لسان إعلاميّ يعني جرأة إعلامية، وصار الدفاع عن مشروعيّتها يوجب التقدير. خصوصا عندما تحدد بريطانيا أن الدعوة للخلافة تعتبر تطرفا.
ويا ليت أمر هذا التصنيف يقف عند حد بريطانيا، فهي التي قضت على دولة الخلافة العثمانية وهي تدرك تماما أن عودة الخلافة تهديد لمصالحها ومصالح حلفائها في العالم، إلا أن هذا التصنيف بالتطرف هو أكثر حدة لدى الأنظمة العربية، حتى تلك التي تدّعي أنها تستند إلى الإسلام.
إذا كان دين الدولة هو الإسلام في تلك الدول العربية، فلماذا تجرّم الدعوة للخلافة وهي النظام السياسي الوحيد لذلك الإسلام ؟
ومن ثم لماذا تخرس الأبواق الإعلامية عن عرض الصورة البريطانية كاملة في مواجهتها للدعوة للخلافة ؟
ولماذا لا تحس تلك الفضائيات بوجود "رأي آخر" ؟ هل لأنه يقض مضاجع الأنظمة العربية التي تنطق تلك الفضائيات باسمها ؟
هل ثقلت استضافة متحدث حول الخلافة من لندن في معرض مناقشة هذا الخبر ؟
أم أن تلك المنابر مستباحة للناطقين الإعلاميين باسم الجيش "الإسرائيلي" وحكومة الاحتلال بينما هي حرام على كل من يتلفّظ بلفظ الخلافة ؟
طبعا، هذا ليس غريبا على فضائيات تقشعرّ أبدان الأنظمة التي ترعاها من ذكر الإسلام السياسي الحضاري الذي يطرح نفسه كبديل (بل أصيل) حضاري عن حضارة الغرب التي تجتاح العالم اليوم مخلّفة الجوع والدمار وأزمات المال والأخلاق والسياسة.
وإنما الغريب أن يذكر الإعلام الخلافة ويدافع عن مشروعيتها فطوبى للغرباء، وكان حقا على المتابع أن يسجّل كلمة تقدير لهذا المقال الإعلاميّ (الغريب).
وهذه المقالة إذ تأتي تعقيبا على مقال رئيس تحرير القدس العربي لا تعني التوافق مع الصحيفة في تغطياتها الصحفيّة، إنما هذا الطرح الإعلامي الموضوعي من حيث وصف الحقائق وعرض الأخبار، والمنحاز للأمة من حيث الموقف منها، هو ما تحتاجه الأمة من الإعلام لإيجاد الوعي السياسي.