ابومريم الأسمري
طريق النجاة هو الرد إلى النصوص الشرعية، أي إلى نصوص الكتاب والسنة، فقط لا غير، لأنها هي وحدها النصوص الشرعية، والبحث فيها، للتوصل إلى حكم الله في كل مسألة، لأن النصوص الشرعية هي «سفينة نوح»، من ركبها سلم ونجا، ومن تخلف عنها غرق وهلك، مهما توهم أنه قادر على مصارعة الأمواج، والإفلات من الطوفان باللجوء إلى رؤوس الجبال.
على أن الرد إلى الله ورسوله، أي إلى النصوص الشرعية ضرورة، هو الإسلام والإيمان، وهو جوهر «العبودية» التي خلق الإنس والجن لها. فحتى لو كان البحث العقلي في ماهية الأشياء: أعياناً، وأفعالاً، وأقوالاً لمعرفة كونها «طيبة»، أو لكونها «خبيثة» أو «فاحشة»، حتى لو كان هذا ممكناً، بل وفي غاية اليسر والسهولة، لما جاز ذلك في حق من يطلب الوصول إلى الحكم الشرعي، لأن ذلك ليس رداً إلى الله ورسوله، وإن كان جائزاً في إطار الدرس الموضوعي، أو البحث الفلسفي، لمعرفة طبائع الأشياء وما هياتها، وليس لمعرفة حكم الله فيها.
هذا هو الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يجوز العمل بغيره لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: (وهذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافرو العداوة هي في حقيقتها دين آخر، جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها، والعصبية لها، حتى لقد تجرى على الألسنة والأقلام كثيراً من كلمات «تقديس القانون»، «قدسية القانون»، «حرمة المحكمة» وغير ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية، وأراء الفقهاء الإسلاميين بل هم حينئذ يصفونها بكلمات «الرجعية»، و«الجمود»، و«الكهنوت»، و«شريعة الغاب» إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية التي يكتبها اتباع أولئك الوثنيين).
ثم بيَّن، رحمه الله، أن بعض «المسلمين» إزدادوا إنحداراً فتجرؤوا على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته، وبين دينهم المفترى الجديد، قال: (وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئاً من أحكام الشريعة أو ما خالفها، وكله باطل وخروج، لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة، لا إتباعا لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله: فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار، لا يجوز لمسلم أن يخضع له، ويرضى به). وقال رحمه الله في موضع آخر: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، وهي كفر بواح لاخفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام ــ كائناَ من كان ــ في العمل بها، أو الخضوع لها، أو إقرارها، فليحذر أمرؤ لنفسه، وكل امرىء حسيب نفسه).
فليس الإسلام هو تحريم الخمر والربا والزنا، وتحريم كذا وكذا، والالتزام بكيت وكيت، ولكن الإسلام هو طاعة الله والتسليم له مطلقاً: فإن أباح الخمر استبحناها، ثم إذا حرمها حرمناها، وإذا أوجب الصلاة صليناها، وإذا نهى عنها تركناها، وإذا أمرنا بذبح أبنائنا تقرباً إليه فعلنا، وإذا نهى عن ذلك امتثلنا، وهكذا أبداً!
بل لو أمر الله بعض النساء بالامتناع عن النكاح، والترهب، والعيش في الصوامع والخلوات، لكانت تلك شعائر تعبدية وقربات في حقهن، ولو أمر أخريات بالزواج، والتفرغ للإنجاب، وعدم تعاطي موانع منع الحمل، لكانت تلك شعائر تعبدية وقربات في حقهن، وهكذا أبداً: أمر الله واجب الطاعة، مطلقاً، من غير قيد أو شرط، إلا ما شرطه هو أو قيده. هذه هي العبودية الخالصة: طاعة أمر الله والاستسلام المطلق له، مع تمام الرضا والخضوع، وكمال المحبة والتعظيم له، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
وعلى كل حال فإن الرد إلى الله ورسوله، والاستسلام لله ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الإسلام، وهي الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهي العبودية التي خلقنا من أجلها، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، (الذاريات؛ 51:56)، فالالتزام بالأحكام الشرعية هو القصد من خلق الإنسان، وهو معنى الوجود الإنساني. والعبادة هي التسليم، والخضوع، والطاعة، أي الالتزام بكل أمر ونهي، فمن لم يحقق العبودية، التي من أجلها خلق، فعدمه خير من وجوده، والبهائم السائمة، غير المكلّفة، خير منه.
بل إن الأمر أفظع من ذلك وأنكى، والخطب أمر وأدهى، لأن من لم يحقق العبودية فهو كافر، دائن بغير الدين الحق، دين الإسلام، ومن كان كذلك فهو حابط عمله، متبر سعيه، هالك في الآخرة، قال رب العزة، جل جلاله، وتباركت أسماؤه: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، (آل عمران؛ 3:85). فليس الخَطْب مجرد حياة فارغة، لا معنى لها، ووجود خاوي، لا غاية له، لو كان كذلك، على قبحه وشناعته، لهان الخطب شيئاً ما، بل هو أشد وأعظم: إنها الخسارة الأبدية، واللعنة السرمدية في نار جهنم!
منقول