المقال لـ الكاتب :فهد عامر الأحمدي
رغم أنني لستُ ممن يختصر شعوب وثقافات العالم بكلمات (مسبقة الصب) إلا أنني طلبت من الدكتور عصام بخاري (ملحقنا الثقافي في اليابان) فعل ذلك.. فبهدف سماع السمات الأبرز - والأقرب لذهنه - طلبت منه اختصار الشخصية اليابانية بأربع كلمات فقط فقال: "الانضباطية والعمل بروح الفريق"..
ابتسمت حينها لأن هذا ما لمسته فعلًا في آخر عشرة أيام - ولاحظته في آخر عشرة أعوام رافقت فيها السياح اليابانيين في الخارج-.. فالانضباطية أساس العمل بروح الفريق.. والعمل بروح الفريق يقتضي الولاء والإخلاص.. والولاء والإخلاص لا يجتمعان مع تبجح الانسان بإنجازاته الفردية..
فالثقافة الأمريكية مثلا تمجد الفردية والاستقلالية وبالتالي لايجد المواطن الامريكي حرجاً في رفع رأسه وقول: "أنا اخترعت كذا" أو "ابتكرت كذا" بمعزل عن شركته وبقية زملائه.. أما الياباني فينحني بتواضع وهو يقول: "نحن اخترعنا كذا" أو "طورنا كذا وكذا" رغم أنه صاحب الإنجاز الحقيقي..
حتى المواطن السعودي لا يتحرج - لا هو ولا أهله - من تقديم نفسه بصفته "الدكتور فلان" أو "المهندس فلان" دون ذكر جهة العمل..
أما المواطن الياباني فيغلب عليه الشعور بالانتماء ويكتفي بقول: "موظف في هيتاشي" أو "أعمل في توشيبا" .. وحين تتفحص كرته لاحقا تضرب جبهتك حين تكتشف أنه رئيس المهندسين في هيتاشي، أو مدير الأبحاث في توشيبا !!
..أيضا؛ اليابانيون مهووسون بدقة الوقت وضرورة التأكد والتأكيد على كل شيء.. فحين حجزت مثلًا رحلة الى جبل فوجي اتصلت بي الشركة أربع مرات لتخبرني بأن "الباص سيكون أمام الفندق في تمام الثامنة وسبع عشرة دقيقة ".. وفي المرة الخامسة والسادسة لم أرد على التلفون..
وحين ركبنا الباص في اليوم التالي كان المرشد السياحي يؤكد - قبل كل محطة نتوقف بها - على موعد العودة للباص بصيغ مختلفة: "أرجو العودة للباص الرابعة والنصف" ، "بعد 30 دقيقة يعود جميعنا للباص"، "لن ينتظر الباص أحداً بعد: ويرسم في الهواء أربعة ونصف"، ولضمان فهم أمم الأرض لما يعنيه بالضبط يسحب ورقة كبيرة ويكتب عليها : "العودة للباص 4:30" !!
.. وبدون شك فاليابانيون شعب مؤدب لدرجة تثير إعجابك وحنقك وضحكك على حد سواء..
تثير إعجابك لأنك تصادف مظاهر الأدب والتعامل الراقي في كل مكان من خلال كلمات الترحيب والانحناءات والابتسامات التي توزع بلا تفرقة أو عنصرية.. ولكن بعد يومين فقط تكتشف أنها تصرفات آلية بُرمجوا عليها منذ الصغر، ثم تصاب بالحنق حين تضطر للمرور بالكثير منها قبل أن تحصل على طلبك البسيط..
وفي المقابل لا تملك أحيانا غير الضحك بسبب مبالغتهم في الأدب وإدراكك أنهم يتصرفون (فعلا) بشكل مبرمج.. فحين ركبت القطار من طوكيو الى كيوتو مثلا دخلت "المضيفة" لجمع أي نفايات محتملة. وحين همت بالخروج من العربة التفتت إلينا وركعت مرتين لتحيتنا وسماحنا لها بأخذ الزبالة .
والمضحك هنا أنه لم يكن في العربة أحد غيري (وما استعمالي صيغة الجمع إلا بسبب شعوري بالأهمية)!!
وحين زرت أوساكا رأيت لأول مرة سيارة إطفاء تحاول الانطلاق بسرعة في شارع مزدحم.. وما أضحكني ليس فقط صوتها النسائي المنخفض (كي لا تزعج الناس) بل في أن من يجلس بقرب السائق كان فاتحاً نافذته وضامّاً يديه وينحني باستمرار معتذراً للناس على مضايقتهم..
وهذا كما ترى يختلف بشكل جذري عن الصوت الجهوري الذي نسمعه دائماً في السعودية:
.. وقّف على جنب يا صاحب الكامري !