طيب النفس من النعيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
روى أحمد وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ قَالَ:كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ e وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُنَا: نَرَاكَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ! فَقَالَ: أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ e: ((لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ)).
هكذا أيها الأخ الكريم يتكلم الصحابة رضي الله عنهم في الغنى وهم من هم؟ أتقى الخلق لله بعد الرسل والأنبياء، فهذه هي النفس تفكر في الغنى، فأنت الآن تفكر في الغنى، وأنتِ أيتها الأخت تفكرين في الغنى، وأنا أفكر في الغنى، نعم أفكر في الغنى، ولم لا؟ والمال عمود الحياة بعد الإيمان بالله U، فهو يساعدك على الراحة النفسية، وطاعة الله I دون شواغل وصوارف، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، كما أخبر بذلك المصطفى e، ولكلٍ من الغنى هدف، فقد يكون هدفك من الغنى أن تبني لك قصراً تسكن فيه، وتشتري لك أحدث سيارة، وتتمتع بمتاع الدنيا الزائل أنت وزوجك فقط في طاعة الله أو في غيرها، دون أن تنظر إلى أهلك وإخوانك من المحتاجين، وآخر يكون هدفه من الغنى أن يبني لنفسه مسكنا متواضعاً يسكن فيه، ولكن قبل ذلك يحب أن يبني بيتاً لله يذكر فيه اسم الله أولاً، وآخر يكون هدفه من الغنى أن يكون هو سبباً في التوسعة على الفقراء والمساكين والأيتام والمُعْوَزين المحتاجين، فينفق عليهم نفقة من لا يخشى الفاقة، وآخر يكون هدفه من المال أن يستخدمه في الدعوة إلى الله U بوسائلها المختلفة من طبع كتب وأشرطة وقفاً لله I، وكفالة دعاة إلى الله U، وعمل مشروعات تخدم دين الله، وآخر والعياذ بالله يكون هدفه من الغنى أن يُرفَع على الأعناق، وأن يشير الناس إليه بالبنان، وأن يكون أغنى رجل في بلده، وأن يتابع الفنانين واللاعبين والراقصين والمطربين ليكون على صلة بهم وليكون من علية القوم. فأنت أيها الأخ الذي تفكر في الغنى، حدد هدفك منه، هل تريده لله؟ أم لأهداف أخرى؟ وأذكرك بالحديث الذي رواه ابن ماجه بسند صحيح عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: ((مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلَا مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ))
وهكذا يذكر الصحابة الغنى فيكثرون، فيقول لهم المعلم المربي المصطفى e: (لا بأس بالغنى لمن اتقى)، قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي نَوَادِر الْأُصُول: (الْغِنَى بِغَيْرِ تَقْوَى هَلَكَة يَجْمَعُهُ مِنْ غَيْر حَقِّهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ حَقِّهِ وَيَضَعُهُ فِي غَيْر حَقِّهِ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مَعَ صَاحِبِهِ تَقْوَى ذَهَبَ الْبَأْسُ وَجَاءَ الْخَيْر) فأسأل الله أن يجعلنا من الأتقياء الأغنياء، وأذكر هذا الحديث الذي رواه مسلم عن عَامِرِ بْنِ سَعْد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ t فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ، (وفي رواية الإمام أحمد، قَالَ: يَا أَبَتِ أَرَضِيتَ أَنْ تَكُونَ أَعْرَابِيًّا فِي غَنَمِكَ وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُلْكِ بِالْمَدِينَةِ) فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)). أسأل الله أن يجعلنا من الأتقياء الأغنياء الأخفياء.
ثم بين لهم النبي e أمراً هو من الغنى لكن لا يخطر ببال فقال لهم:(والصحة لمن اتقى خير من الغنى) فَإِنَّ صِحَّة الْجَسَد تُعِينُ عَلَى الْعِبَادَة، فَالصِّحَّة مَالٌ مَمْدُودٌ وَالسَّقَمُ عَجْزٌ حَاجِزٌ لِعَمْرِ الَّذِي أُعْطِيهِ يَمْنَعهُ الْعِبَادَة، وَالصِّحَّة مَعَ الْعُمْر خَيْر مِنْ الْغِنَى مَعَ الْعَجْز وَالْعَاجِز كَالْمَيِّتِ، فلو كنت مريضاً عاجزاً فلن تستطيع أن تعبد الله بصلاة ولا بصيام ولا بحج ولا بعبادة تحتاج لجهد وطاقة، أسأل الله أن يشفي مرضى المسلمين، فالصحة تاج يتلألأ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
أقول لك أخي: الحمد لله على الصحة والعافية، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، لو طلبت منك عين واحدة مقابل مليون دولاراً، أو عقلة أصبع من أصابع يدك الجميلة التي صورها الله فأحسن تصويرها مقابل مليون جنيهاً، أو سِنَّةً من أسنانك الأمامية مقابل مائة ألف، هل سترضى؟؟؟ بالتأكيد لن ترضى ولن توافق على ذلك، فاحمد الله على ما أنت فيه، واسأله أن يرزقك رزقاً حلالاً واسعاً من فضله I، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، أسأل الله أن يغنينا من فضله، وأن ينشر علينا رحمته، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه.
(وَطِيب النَّفْس مِنْ النَّعِيم) فَلِأَنَّهُ مِنْ رُوح الْيَقِين عَلَى الْقَلْب، وَهُوَ النُّور الْوَارِد الَّذِي قَدْ أَشْرَقَ الصُّور، فَأَرَاحَ الْقَلْب وَالنَّفْس مِنْ الظُّلْمَة وَالضِّيق.
فإذا كانت نفسك طيبة مرتاحة آمنة مطمئنة وكنت مؤمناً بالله عاملا صالحاً فأنت في نعيم مقيم، لأن الحياة بالإيمان ليست بالمادة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)
قال أحد الفقراء المؤمنين المتقين الزاهدين الورعين الذي ذاق حلاوة الإيمان: نحن في حالة لو اطلع عليها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف. فهو في حياة الرضا وحلاوة الإيمان.
ويقول أحد الصالحين: إنه لتمر بالقلب أحوال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم. أسأل الله I أن يمدنا بنعيم الدنيا والآخرة، وأن يمتعنا بالصحة والعافية، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، واكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، وارزقنا المال الصالح واجعلنا من الصالحين المتقين. والحمد لله رب العالمين
تحياتي لكم جميعا