مساء التأمل*
نص للمسرحي العراقي: قاسم محمد
المكان: العالم كله.
الزمان : التاريخ كله .
مادة السيناريو مأخوذة عن:
1- مأساة الحلاج.. لصلاح عبد الصبور.
2- هاملت.. لشكسبير .
3- مقطع من مقولات تشي جيفارا .
4- مأساة كربلاء .. عن الكتاب الفارسي ( جونج –ي-شهاديت ) إعداد محمد عزيزة .
5- هكذا تكلم الحسين.. لمحمد عفيفي.
6- ثورة الزنج.. لمعين بسيسو.
عناصر الأداء :
1- ثلاثة رجال .
2- المرأة .
3- الشهيد .
4- الحاكم .
5- الرسول .
6- قائد فيلق الاستكشاف .
7- قائد الجيش .
8- مساعد القائد .
9- خمسة جنود حديديين مسلحين .
10-صوت.
المسرح فضاء . أسلحة مكسرة . جذع شجرة قاس . على جذع الشجرة رجل مصلوب .. يبرز إلى حيز النور ثلاثة رجال ..
الأول : انظر .. ماذا وضعوا في سكتنا ؟!
الثاني : رجل مصلوب .. ما أغرب ما نلقى اليوم .
الثالث : يبدو كالغارق في النوم ..
الأول : عيناه تنسكبان على صدره ..
الثالث : وكأن غلبت دنياه على جفنيه .. أو غلبته الأيام على أمره .
الثاني : فحنى الجذع المجهود ، وحدق في الترب ..
الثالث : ليفتش في موطئ قدميه عن قبره .
الأول : هل تعرف لم قتلوه ؟ .. ومن قتله ؟
الثالث : لنسأل أحد المارة .
تبرز المرأة . تحدق في المصلوب
المرأة : أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؟ ..
الثالث : من هذا الرجل المصلوب ؟
المرأة : ) مستمرة في مخاطبة المصلوب ) ..
يا صاحبي .. و حبيبي ..
قد كنت عطراً نائماً في وردته
لمَ انسكبت ؟
ودرةً مكنونة في بحرها
لم انكشفت ؟
وهل يساوي العالم الذي وهبته دمك
هذا الذي وهبت ؟
سرنا معاً على الطريق صاحبين
أنت سبقت .
أحببت حتى جدت بالعطاء
لكنني ضننت .
حين رأيت النور تقت للرجوع ..
ها أنت قد رجعت .
أعطيك بعض ما وهبت للحياة
بعض ما أعطيت .
تلقي بزهرة حمراء عند قدمي المصلوب
الثلاثة : ما القصة .. ما القصة . من قاتل هذا الرجل المصلوب ؟
تسير المرأة إلى جانب من المكان .. يلحق بها الثلاثة .. يتحلقون حولها تبدأ هي بالقصة .. ثم تعتيم
الشهيد : إلي إلي .. يا غرباء .. يا فقراء .. كسيري القلوب والأعضاء .. إلي إلي ..
المرأة : ( مواصلة القصة ) .. وقد قتله الشر ..
الثلاثة : الشر؟ .. ما معنى الشر ؟
الشهيد: الشر ..
جوع الجوعى ..
فقر الفقراء ..
في أعينهم تتوهج ألفاظ لا أوقف معناها ..
قد تدمع عيني عندئذ ، قد أتألم .
أما ما يملأ قلبي خوفاً ، يضني روحي
فزعاً وندامى
فهي العين المرخاة الهدب
فوق استفهام جارح ..
من ذا صنع الفقر ؟
كلمات تفزع من معناها ؟
إليك الجواب :
الظلم .
من ذا صنع القيد المطعون ، وأنبت سوطاً في كف الشرطي ؟
الظلم .
من ذا صنع الاستعباد ؟
الظلم ..
حدثني كيف أغض العين عن الدنيا والمسجونون المصفدون يسوقهمو شرطي مذهوب اللب .
قد أشرع في يده سوطاً لا يعرف من في راحته قد وضعه .
من قد فوق ظهور المسجونين الصرعى رفعه ؟
ورجال ونساء قد فقدوا الحرية .
الشر استولى في الدنيا
حدثني .. كيف أغض العين عن الدنيا
إلا أن يظلم قلبي ؟
إلي إلي .. يا غرباء .. يا فقراء .. كسيري القلب والأعضاء ..
تعتيم
الثلاثة : ( يعلنون ) المشهد يدور في قصر الحاكم .
الحاكم : يا قادة الجيش .. لقد جمعتكم هاهنا ، كي أطلعكم على أحداثٍ خطيرة .. لقد اكتشفنا مؤامرة .. والقي القبض على رجل من أتباع الثائر وقد أعدمناه .. ولقد اعترف الرجل قبل موته أنه كان مبعوثاً إلى هنا ، كي يختبر عواطف السكان تجاه مطامع سيده الثائر .. ونتيجة لذلك فقد أرسل إلي مولانا الملك أمره ، بأن أبدد موكب الثائر الذي يتجه نحو مدينتنا ، وأن أمنعه بكافة الوسائل من الوصول إلى هدفه وعلي أن أقتل كل من يقاومني ، وأن أوقف النساء والأطفال والشيوخ .. وأن أقودهم أسرى إلى سجون الملك .. ( إلى أحد القادة ) إني أسميك قائداً للكتيبة .. ( إلى قائد آخر ) وأسميك مساعداً له .. ( لآخر ) وأما أنت فأسميك قائداً لفيلق الاستكشاف .. اذهبوا ونفذوا الأوامر بسرعة .. فمصير المملكة الحاكمة بين أيديكم .
تعتيم
المرأة : في الجبال .. في الصحاري .. في المدن .. في كل مكان ..
عبر الزمان كله ..
أنا المرأة ..
الأم .. الزوجة .. الأخت .. الحبيبة ..
فقدت أبنائي .. وأحبائي .. وأخوتي ..
واحداً إثر واحد ..
ولم تزل المسيرة في الطريق .. يقودها واحد آخر ..
وهنا في المكان الجديد ، توقفت القافلة الجديدة، توقفت القافلة الجديدة ..
حيث حتم الحتم .. أن أفقد الثائر الجديد ..
الشهيد : ( يقف في وضع صامت معبر ) .. طويلة كانت مسيرتنا .. وكبير تعبنا .. أيها السلام .. يا سلام العالم .. لا تهجر معسكرنا في مساء التأمل هذا .
في المكان يمر جنود الملك.. الحديديون.. كأنهم على ظهور الخيل.. في طريقهم إلى المعركة.
الثلاثة : إن وردة الرمال .. تنغلق على بلورها .. والبوم الخائف يمسك نعيبه .. أي نبوءات قاتمة تجعلك ترتجف .. يا سلام العالم الحزين ؟.
الشهيد : تعال أيها الصمت .. غلف أجسادنا بلمساتك العريضة .
الثلاثة : الصمت لبى نداءك .. ولكن لمساته ليست إلا خفقات أجنحة تبعث فينا العذاب .
يدخل رسول
الرسول : السلام عليكم جميعاً .. أيمكن لأحدكم أن يبلغ الثائر بمقدمي ؟
الشهيد : أنا هنا .. ماذا تريد أن تخبرني ؟
الرسول : إن الأخبار التي أحملها من المدينة مفزعة .. لقد قبض على رسولك وأعدم .. والحاكم أرسل جيشه كي يسد أمام موكبك الطريق .
الشهيد : والناس ؟
الرسول : يلزمون الصمت .. استبد بهم الخوف .. وما من أحد منهم يجرؤ على مساندتك .. تجنب المدينة .. تجنب هذه المدينة المتغيرة ذات النزوات .
يخرج الرسول
الشهيد : ( وحده ) ..
في هذه الساعة البعيدة عن الثبات ،
التي تنقلب فيها الأشياء ..
أي اضطراب يمسكك يا نفس ؟
هل أتابع الطريق رغم العقبات ؟
هل أقود هذا الشعب نحو أجله من أجل أهداف ؟
هل أسبابي نقية حقاً ؟
أم أنها الكبرياء التي تدفعني ؟
ولكن .. كيف يمكن للرجل الفاضل أن يقبل دون نقاش إهانة المتسلطين في هذا العالم ؟
أيمكن لأكثر الأهداف عدلاً أن تدفن في التراب عاراً أو خوفاً ، أمام البربرية المتسلطة ؟
يا نور القرار الصائب ..
أنت تتخلى عني بقسوة ..
الثلاثة : في قلب الرجل العادل .. الظل ، يحارب الضياء .. !
مشهد صامت يمثل تقدم جيش الملك الحديدي
الشهيد : ( يلقي خطبة ) ..يا أصدقائي .. لقد استمعتم إلى الأنباء المشئومة .. والقرار الذي سيتخذ يتعلق بكم ، كما يتعلق بي .. ساعدوني إذن .. علي أن أنطق بالكلمات التي .. تحرر قدرنا ..
حين يصير السوط هو المحراث ..
يفتح أخدوداً في الظهر أو الصدر ،
فعلينا أن نلقي ببذور الدم .
وعلينا أن نجمع قطرات الدم ..
من هذا الجرح ومن ذاك الجرح ..
علينا أن نتبع خيط الدم ..
أن نتبع هذا النجم ..
علينا أن نغرس الخنجر في طبل الظالم ..
علينا أن نضرب بالصدر العريان ..
جدار الزنزانة ..
على أقدامنا العريانة ..
أن نترك آثاراً فوق بساط الظالم
ترصعه بالوحل ..
حين يكون هناك رجل واحد
يملك كل الدنيا
لا بد وأن تحمل كل خلاخيل امرأتك
أقراط امرأتك
أن تحمل لحمك
أن تحمل عظامك
أن تحمل أغلالك للحداد
كي يطرقها لك سيفاً
حين يكون هناك رجل واحد
يملك كل الدنيا
لا بد وأن تشهر سيفك
أو تبتلع السيف
المرأة : إن دم آبائك وأخوتك ينادي .. الانتقام ، فلا تضعف
الأول : بني .. الحق إلى جانبنا .. ومن واجبنا امتهان السلطة ، فلا تضعف
الثاني : أخي .. إني أتحرق للمناداة بحقي .. على سنان رمحي .. لنتابع .
الثالث : أبي .. الرجل الملوث وحده .. يخشى المعركة العادلة .. لنتابع .
المرأة : أنا الأم .. الزوجة .. الأخت .. الحبيبة .. أناديك أن تسمعهم .. إنهم يتكلمون باسمنا فلا تخيب حماسهم .. وانتظارنا .
الشهيد : ما دامت هذه رغبتكم .. لنتابع مسيرتنا ..
تعتيم
المرأة : ( تواصل روايتها ) .. وفي الصحراء .. كان فيلق الاستكشاف قد ظل الطريق وتشتت جنده .. والكثير من رجاله قد ماتوا عطشاً ، أما من بقي منهم على قيد الحياة فيزحف وقد نفدت قواه .. مر موكب الشهيد في نفس المكان الذي كان ينازع فيه قائد فيلق الاستكشاف .
الثاني : أخي .. عثرنا على رجل من الجيش .. إنه يموت من الظمأ .. ماذا نفعل ؟!
الشهيد : أريد أن أراه .. آتوا به إلي .. ( يجلبون القائد ) يبدو هذا هو قائدهم .. قربوه مني .. أريد أن أكلمه .. من تكون أيها الغريب؟!
القائد : أنا قائد فيلق الاستكشاف في الجيش .. لقد ضللت ورجالي الطريق في الصحراء وكان علينا أن نعين مكان موكب الثائر .
الشهيد : لم تفشل في مهمتك .. أنا الثائر .. وها أنت ذا في قلب موكبي ..
القائد : يا للقدر المعاكس .. ها أنذا في قبضة أعدائي.. طر بعيداً أيها الأمل العذب .. ! .. كتب عليّ أن أموت ظمأً في هذه الصحراء الملتهبة.. !
الشهيد : ( يسقيه ماءاً ) إذا كان الماء الزلال يميت الظامئ .. إذن ستموت .
القائد : ( يشرب الماء ) أهذا ممكن ؟ .. أتيت إليك لأقتلك ، فإذا بك ترد إليّ الحياة ؟ .. آه .. ه .. ه .. ! .. يا ضميري .. إن حيرتي كبيرة ..
الشهيد : لقد أعدت الحياة إليك .. لأن عينيك كانتا تنادياني في عذابك يا أخي .. رأيت عذاب كل الذين يتألمون : الطير الجريح ، والطفل المنزوع عن أمه .. وقبضة البرئ المغلقة .. نعم يا أخي .. لماذا شاءت الأقدار أن تكون عدوي ؟
المرأة : ( تواصل الرواية ) .. هكذا يكلم العادل الرجل الضال .. وصوته بات مسموعاً وطلب الضال من الرجل العادل .. أن يقبله في صفوف رجاله .. وأجابه العادل إلى طلبه .. فطاش صواب الضال ، وكان يجهل سعيد الحظ أنه عما قريب سيكون أول شهيد .. في السهل الحزين .
الثلاثة : ( يعلنون ) في معسكر الجيش العدو ..
مساعد القائد : إن موكب الثائر أصبح على مرمى البصر أيها القائد .. لنقم بهجوم ، وليكن الهجوم الأول والأخير .. وبين اصطدام السيوف والسلاح نبيد مرة واحدة أنصار الثائر أجمعين .
قائد الجيش : ( بعد تفكير ) خير لنا أن نقطع عليهم طريق الماء والطعام .. لنحرمهم من الماء والغذاء فنجبرهم على الاستسلام .. ونتجنب بذلك الكثير من الخطايا .
مساعد القائد : إن فتورك يغضبني .. ولكني أطيع ، ولن يضيرهم الانتظار بشئ .
القائد : أي شيطان أنت .. ما سر تعطشك للدماء ؟
مساعد القائد : إني رجل كامل يريد أن يذهب إلى أبعد مراحل نفسه .. وأنا لا أكره شيئاً قدر ما أكره هذه التنازلات والمهازل المزيفة التي نلعبها على أنفسنا ..
موسيقى حربية .. أصوات صهيل .. ضجة كبيرة .. حركة صامتة .. تمثل تقدم الجنود بحركات المعركة
تعتيم
المرأة : ( تواصل الرواية ) وبعد مضي أيام من المعركة .. تشتت شمل موكب الثائر .
الثلاثة : آه .. ه ... ه ... أيتها الأيام المشئومة .. يا أيام العذاب .. يا مذاقها ، مذاق الدم .. الظمأ يحاصرنا .. والموت .. هذا الفارس .. دون رحمة ينهب دون توقف .. من صفوفنا أجمل وخير الثمار .. من نبكي ؟ .. وأي من شهدائنا .. أكثر استحقاقاً لدموعنا ؟
الشهيد : قد خبت إذن .. لكن كلماتي ما خابت .. فستأتي آذان تتأمل إذ تسمع .. تنحدر فيها كلماتي في القلب .. وقلوب تصنع من ألفاظي قدرة، وتشد بها عصب الأذرع .. ومواكب تمشي نحو النور ولا ترجع إلا أن تسقي بلعاب الشمس .. روح الإنسان المقهور .. الموجع .
الثلاثة : آه .. ه .. ه .. لنبكِ الشجاعة التي نقصت .. لنبكي الذين سقطوا صرعى .. في نشوة معركتهم الأولى .. لنبكِ الشباب الذي ذبل .
المرأة : لنبكي الحب الذي لم يتم .. لنبكِ .. لنبكِ .. انتصار الظلم .
تعتيم
الثلاثة : ( يعلنون ) المشهد يدور في معسكر الجيش الذي يضرب الحصار حول الثائر .
مساعد القائد : لم يبق منهم إلا الثائر وحده .. أما الباقون فقد سقطوا صرعى بعد أن صرخوا أيمانهم .. صرعهم السيف والخنجر .. لقد حان الآن دور الذي يدعونه منقذ الدنيا ومخلصها .. ليسقط تحت ضربات سيوفنا ، ولنضع في الأسر كل ذويه .. وعندئذ نذهب وقد ملأتنا النشوى ، لنخبر الملك بموت الثائر .
القائد : ما تقول أيها الشقي ..! .. ألا يكفي هذا الذي ارتكبناه ؟ .. إن هذه المقتلة جعلت الشمس تكسف .. ما أبرد هذا الصباح .. ! ؟
مساعد القائد: إن موت هذا الثائر تطلب مطلق وضرورة لا غنى عنها .. وإذا جبنت فما عليك إلا أن تعود ، وتترك لي أمر قيادة الجيش .
القائد : إن كراهيتك العمياء تفقدك صوابك .. لنكف عن هذه الحرب الظالمة .. ولندع هذا الرجل يعود أدراجه من حيث أتى .
مساعد القائد: ما دام هذا الرجل لم يسقط بعد .. ما دام دمه لم يرو ظمأ هذه الأرض الجافة .. فإن عيني وقلبي لن يرتويا من القتل والمذابح .. وإن كنت لا تملك الشجاعة اللازمة لذلك فسأقتله بنفسي .. إني أتجاوز القوانين .. وأتحدى المعقول .. لأن موته وحده هو الذي سيسكن هذه العاصفة التي تزمجر في قلبي .
تعتيم
الشهيد في وضع صامت .. مفكر.. معبر ..
الثلاثة : ها أنت وحيد .. مجهد .. أضناك التطواف في أرجاء الدنيا .. وأتيت لتلقى الحمق يسود بكل مكان .. يتحرش بك .. آلاف الحمقى .. آلاف الآلاف !! .. أعداؤك كثر.
الشهيد: لكن صحابي أكثر من أعدائي .. أصحابي أكثر من أن تحصيهم .. أصحابي .. كلمات المحزون المهجور .. أصحابي .. أحياء الأموات .. الشهداء الموعودون .. أصحابي .. فرسان الخيل البلق ذوو الأثواب الخضراء .. أصحابي .. آلاف المظلومين المنكسرين .. ( صمت ) ..
قد يفاجئنا الموت ..
فلنرحب به بعد أن تكون صرختنا القتالية هذه قد وصلت بعض الآذان الصاغية .
وبعد أن تكون يد أخرى قد امتدت لتحمل سلاحنا .. وبعد أن يكون رجال آخرون قد تهيأوا لأن يرفعوا الترنيمة الجنائزية بأصوات من السلاح وصرخات القتال الجديدة .. وصرخات النصر .
موسيقى
مساعد القائد : اخبروا القائد أن يظهر لي .
المرأة: اخفض الصوت يا خائن .. اخفض الصوت .. فالشهيد نائم .. اخفض الصوت .
مساعد القائد: اذهبي وأخبريه أنها ليست ساعة النوم .. أخبريه أن الساعة قد حانت .. هذه الساعة التي عليه أن يواجه فيها الموت
المرأة : إنه ينام .. يا من عدمت الحياء .. فلا تصرخ بالصوت .. سأنقل إليه كلماتك الوقحة .. أخفض الصوت ودعني أوقظه .. ( تذهب إلى الشهيد ) استيقظ .. أتوسل إليك .. لقد اسود وشاحي باقتراب أجلك .. استيقظ .. إن جيش الأعداء هنا .. يا ملكاً دون فرسان .. استيقظ !.. نومك هادئ .. ولكن مملكة الأحلام خداعة .. استيقظ !.. فنحن محاصرون في اعماق شقائنا .
الشهيد: حلمت حلماً .. كان السهل فيه أخضر .. ولكنك لم تدعيني أكمله .. الماء رقراقاً والنبع نقياً .. ولكنك لم تدعيني أكمله .. وخيل إلي أني أميز والدتي .. وقد ارتدت السواد كلها .. وأشارت إلي بيدها إشارة خفيفة .. وابتسمت ابتسامة عذبة كأنها تريد مني أن أجتاز المياه .. وأن أصل إليها .. ولكنك لم تدعيني أكمله .
المرأة: كنت نائماً .. وفي هذه الأثناء وصل العدو وصرخ بنا .
الشهيد: ( ينهض ) لقد أكملت شمس الشقاء السوداء دورتها إذن .. لقد أخذ مني هذا الفارس المتعطش للدم .. خير ما كان مني من أعوان .. وهاهو يطمع الآن بسلبي حياة لم تعد ذات قيمة وأن يجعلك – أيتها المرأة .. أيتها الأم .. أيتها الزوجة .. أيتها الأخت .. أيتها الحبيبة – أن يجعلك تتحملين أهوال أسر مخجل .. آه .. لقد كتب عليّ ألا أرى الدنيا إلا وعيناي مليئتان بالأشواك .
المرأة: كيف لا يمكنني أن أموت لأجلك يا نور عيني .. فأنقذك وأجنب نفسي شقاء أسر أكثر هولاً من الموت ؟
الشهيد: لقد حانت الساعة التي لا مفر منها .. والتي عليّ فيها أن أواجه رياح القدر المعاكسة .. آن أوان الرحيل .. آه ... لقد كان الحلم .. نبوءة .. !
المرأة: لن ترضى السماء بأن يقع مثل هذا الظلم .. إذا مت أيها الملك .. فلن يبقى أمامي إلا أن أضع حداً لحياتي بيدي هاتين .
الشهيد: لن ترتكبي هذا العمل الأحمق أبداً .
تعتيم
المرأة والشهيد في وضع صامت .. معبر ..
المرأة : أنا ظمأى .. أتوسل إليك .. نقطة ماء .
الثلاثة : على شفتيها المشققتين تقف روحها التي عذبها الظمأ .. تنتظر الرحيل .. انظري يأس الرجل الذي يعجز عن إنقاذ أحبائه .. كفي عن الأنين .. آن الأوان كي يستعد لمعركته الأخيرة .
المرأة : أيها الملك الشقي .. كيف يمكننا تحمل الحياة من دونك ؟ .. لا تذهب إلى حقل المعركة.
الشهيد : وما يمكنني أن أفعل سوى ذلك .. أنت تعرفين أن زمرة الكلاب الهائجة التي تحاصرنا لا تدع لنا مجالاً للإفلات. إذن فخير لنا أن نموت بشجاعة وسلاحنا في يدنا بدلاً أن نذبح على سرير وثير. ( يتحرك .. ثم يقف .. ) كم أحببتك ..؟
يخرج
المرأة: الشقاء الكبير يخرس اللسان .. ويجفف الدمع أيتها الشمس ..
أيتها الشمس الوقحة ، كيف يكون بوسعك أن تتوهجي وأن تضيئي بأنوارك هذا الكفر الذي لا يطاق ..؟
تعتيم
أمام معسكر الأعداء
الشهيد: نادوا لي القائد، وليأت وحده .
جندي: يا قائدي.. الثائر يرغب بمحادثتك .
القائد: ما يمكنني من أجلك ؟
الشهيد: في بلاد الشقاء هذه .. هناك ماءٌ كثير ، للعصافير والحيوانات المتوحشة ، ومع ذلك تموت نسائي عطشاً .. أعطني قليلاً من الماء .
القائد: لا يمكنني أن أجيبك على هذا الطلب. إن أوامر الملك قاطعة في هذا الشأن .. بايع الملك وأنا أعطيك ماءً وأفتح لك الطريق.
يختفي
الشهيد: ( وحده ) أيتها السماء .. لم تتخلين عني ؟!
صمت
ينهار في مكانه جالساً
صوت : السلام أيها الغريب .. السلام عليك أيها القائد في الصحراء الذي يعذبه الظمأ .. السلام عليك أيها المهجور .
الشهيد: ( يفيق ) من ؟ من يناديني .. ؟ ( صمت ) كم هو عذب أن نسمع صوت صديق ونحن في أعمق أعماق الوحدة .. هناك من يناديني ..؟ أم هي صورة من صنع مخيلتي المتوحدة ..؟ ( صمت ) آه .. ه .. ه .. وكما تذوب الشمس الغاربة في أمواج المحيط الحمراء .. وتتدثر منتشية بردائها السائل .. أحس أن عليّ أن أسير وحيداً لأواجه نهايتي .. إن تعبي كبير .. أيها النداء الصديق. وكبير هو إغراء النعاس الذي يحل المشاكل كلها .. أن أنام .. أنام .. أنام .. !.. ربما استطعت أن أعثر وراء النوم على هذه الراحة التي يهبها مصيرٌ قبلنا به .. دعني .. أيها النداء الصديق .. أنهي وحدي ما بدأت .. هنا تنتهي الدورة .. هنا أغلق دائرة مصيري .. الوداع .. أيها الظل العذب ، وشكراً لك على هذا النداء الأخير
صمت .. فترة .. يظهر إلى حيز النور مساعد القائد
مساعد القائد: أيها الـ ... ثائر .. مهمتي اللذيذة هي أن أجعلك تعترف وتبايع بسلطان الملك .. فنهبك الماء والحياة والطريق .. أو أن تتهيأ للموت .
الشهيد : أبايـــــــع ؟! ..
مساعد القائد : نعم .. تبايع .. فتحيا .
الشهيد: ( ينهض .. فترة ) أبايع ؟ .. أبايع ؟.. ( صمت ) أن تكون .. أو لا تكون .. تلك هي المسألة .. أي الحالتين أمثل بالنفس ؟ أتحمل الرجم بالمقاليع وتلقي سهام الحظ الأنكد ؟ أم النهوض لمكافحة المصائب ولو كانت بحراً عجاجاً ؟ وبعد جهد الصراع إقامة حد دونها ؟ .. الموت .. نوم ، ثم لا شئ .. إن عقدة المسألة إنما الخوف .. الخوف هو الذي يقف دونه العزم .. ثم هو الذي يسومنا عذاب العيش ، وما أطول مداه .. ! إذ لولا هذا الخوف .. لما صبر أحد على المذلات والمشقات .. ولا على بغي الباغي .. ولا على تطاول الرجل المتكبر .. ولا على إبطاءات العدل .. ولا على سلاطة السلطة وقحة القدر .. ولا على الكوارث التي يبتلي بها الحسب الصحيح والمجد الصريح ، بفعل جهل الجهلة وتهجم السفلة .. في وسع المرء أن يترخص في الابتعاد .. فيسلم من كل هذه الرزايا بطعنة واحدة من خنجر في يده .. من الذي يرضى بالبقاء رازحاً تحت الحمل دائم الأنين ؟ .. مستنزفاً ماء الجبهة من الإعياء ؟ .. لولا أنه يتقي أمراً وراء الحياة ، البلد المجهول الذي لم يستكشفه باحث ، ولم تتخط تخومه قدم سائح ، يحدونا أن نؤثر الصعب بين أهلنا على السهل بين قوم لا نعرفهم .. من ثم قوي الضمير وجعلنا كلنا جبناء .. من ثم تحول الزهو في لون العزيمة إلى شحوب بفعل التفكير .. من ثم صودم التصميم على كل أمر عظيم .. فانحرف عن طريقه .. ثم بطل ولم يجدد باسم العمل ..( فترة ... ثم يتوجه إلى مساعد القائد ) اعلم أني لن أعترف بسلطان رجل حقه في الملك لا المبايعة الشعبية ، وإنما الظلم والاغتصاب .
مساعد القائد: بايع .. قل نعم .
الشهيد : لا ..
مساعد القائد : نعم . فلتقلها .. آه ما أيسرها ... ! .. نعم . إن هي إلا كلمة .
الشهيد : أتعرف ما معنى الكلمة ؟
الكلمة لو تعرف حرمة ..
زاد مذخور ..
الكلمة نور ..
بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي
بالكلمة تتكشف الغمة
الكلمة نور و دليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم !
الكلمة زلزلت الظالم ..
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الله هو الكلمة
كلا .. لن أبايع .
مساعد القائد : لم أنتظر غير ذلك منك .. أيها الكريم .. يا أيها المثالي .. أيها النقي الجميل ، يا كثير النقاء .. يا شهيد .. يا لعظمتك .. كم هو مؤسف أن تتفسخ هذه العظمة في لهيب الشمس .. في أرجاء هذا السهل الكئيب .. حياً، كنت تتحدى الملوك.. ميتاً، ستكون عطية للغربان الجائعة. تدثر بكبريائك أيها الثائر الذي سقط . فحد سيفي سيعرف كيف يتلقى بريق نظراتك.
الشهيد: أي قلق عميق أحسه في قرارك المذكور .. لماذا يدفعك عذاب روحك إلى ظلمات غرائزك الدنيا ؟
مساعد القائد: لا تكلف نفسك جهد إقناعي أيها الرجل النبيل .. إن إغراء طيبتك العذبة لا تمس روحي الصلبة .. إنني اكره الضعف الإنساني ، وأكره صوت التفاؤل الراضي عن نفسه .. إني استخلص القدرة القاطعة .. من هذا الذي تدعوه حباً .. أريد أن أكون السنديان الذي لا ينثني ، والصلب الجامد .. إذن فكفانا مزاحاً .. بايع الملك أو تهيأ للموت .
الشهيد: إني أرضى بموتي الذي لا مفر منه .. ولكن أخبرني .. لماذا تكرهني إلى هذا الحد ؟ .. ما الذي أمثله وتحتقره ؟
مساعد القائد : ما يعذبني فيك ، ليس عظمتك أو عذوبتك .. وليس نقاؤك .. وإنما هذا الطابع المطلق لعواطفك .
الشهيد : أي ثأر لي أن أعرف أنك أنت جلادي ، تقتلني لأنك لا تستطيع أن تكون مثلي .
مساعد القائد: كفانا ثرثرة ، تهيأ للموت .
الشهيد: سأكون مستعداً بعد أن أودع أهلي الوداع الأخير .. أيمكنني ؟؟
مساعد القائد: اذهب .. وأعلن أني بانتظارك .
الشهيد: ( يتجه إلى مكانه ) ها قد حانت ساعة الفراق والتمزق. أيتها النساء الثكالى .. أنت يا شقيقتي المفضلة ، يا صورة أمي الحية .. وأنت أيها الحبيبة .. يا رفيقة شبابي العذبة .. يا رفيقات انهياري. اعلمن أني لا أفارقكن غلا مرغما. لأن قلبي لم يرغب أبدأ بأن يتحرر من تلقاء نفسه من القيود العذبة التي تربطنا معاً. اعلمن أن الحديد عندما يتغلغل إلى لحمي المدهوش ستكون آخر أفكاري متجهة نحوكن. أما أنتم أيها الشيوخ .. وأنتن أيتها الأرامل الغارقات في الدموع .. يا أرق الأيتام .. أنتم يا من سأترككم على حافة الشتاء الحادة. أيها الضعفاء الناجون من الموت .. فكنتم أعذب الشهود .. عندما يحين الوقت وينضج .. اذكروني بتسامح .. وارووا بكثير من الاعتدال قصة الرجل الذي أراد أن يحقق حتى النهاية قدراً صلباً .. وأنتم يا أشباح أحبائي الغائبين .. يا من تهيمون حول نيران المعسكرات .. تسلحوا بشئٍ من الصبر .. فقريباً ستفارق روحي التي تحررت جسدي .. الوداع يا أصدقائي .. سأموت .. ولكني لن أترككم .
يعود إلى الجند
المرأة: ( تندب ) الشهيد يذهب .. والأرض تتابع دورانها .. يا لجنون العالم .. !
الثلاثة : في سهل الظلم .. النقي يتقدم ..
المرأة : الشهيد يذهب .. والنجوم ما زالت تتلألأ .. يا لصمم العالم .
الثلاثة : إلى لقاء موته .. النقي يتقدم .
المرأة : الشهيد يذهب .. والأنهار تتابع مجراها .. يا لصمم العالم !
الثلاثة: تأوهي يا قبة السماء الزرقاء .. فالنقي يتقدم !
المرأة: الشهيد يذهب .. والنهار يتبع الليل .. يا لبعدك عن المنطق أيها العالم .
الثلاثة: في سهل الظلم .. النقي يتقدم ..
المرأة : وأنا أواصل الحياة .. يا لضياع روحي .. !
تعتيم .. الشهيد أمام الجند ينتظر نهوض الشمس
الشهيد: ها أنت أخيراً ، أيها الصبح الصغير الأبيض
يا معلن اليقظة
الديك يصرخ في الضياء المظلم
والأرض تنفخ بثقل أحلامها البشعة
وتتهيأ نشوى لاستقبال النهار ..!
عما قريب سيتورد الأفق ..
وعما قريب .. ستدفئ الشمس الهضاب
وعما قريب .. سيأتي صباحي الأخير .
أيتها السماء الصامتة ، لم تتركينني ؟.. آه ..ه...ه .. إن شقائي لكبير ! .. يا زهرة النسيان .. أيتها الكلمات .. لم لا تستطيعين أن تحلي مكان الحقيقة السامة ؟ ( إلى الجند ) اعلموا أني مازلت مصمماً أن أهب حياتي تكفيراً عن خطايا البشر .. نادوا لي قائدكم .. أريد أن أكلمه .
القائد: ما تريد مني؟
الشهيد: أن أخبر للمرة الأخيرة نواياك .
القائد: إن خجلي عظيم .. وفي أعمق أعماق قلبي أحترمك .. وأجلك كرجل .. ولكني مع ذلك عزمت أن أترك جيشي يقتلك .. في هذه الليلة نفسها أبلغني الملك أنه يهبني ولاية مقابل رأسك.. إن خجلي عظيم.. ولكن قراري قد اتخذ .
الشهيد: إني أشفق عليك أيها الرجل الجشع.. أيمكن لأموال الدنيا أن تضل الضمير هكذا؟ .. تقدم إذن ، ما دام قرارك قد اتخذ .. حز رأسي بنفسك ، ولا تضف إلى جشعك جبناً مخجلاً .. تعال إلي واتمم ما عزمت عليه .
القائد: كلا .. كلا .. لن أجرؤ أن أقتلك بنفسي .. ( إلى الجند ) من يرغب بترقية كبرى .. يقدم لي رأس هذا الرجل .
لا يتقدم أحد
القائد: يا جبناء .. يا أشباه النساء .. ألا يريد أحد منكم تنفيذ أوامري .
مساعد القائد: لا يستبد بك الغضب يا سيدي .. ما من أحد غيري سيقتل هذا الرجل .. هو وأنا نعرف ذلك منذ بدء المعركة .. ألا تعرف ذلك يا رجل ؟.. كما يفعل البازي ذو العين الثاقبة عندما ينقض على الحمامة ويهشم رأسها يستمتع به.. كذلك أنا، الذي لا أخاف، يمكنني وحدي أن أظلم الضياء المنبعث من وجهك .. بالدم الذي سأجعله يتدفق من جراحك الواسعة .
الشهيد: أعرف ذلك أيها المتشدق الوقح .. تعال إلي وانه مهمتك القذرة يا جزار .. تعال وليسقط ليل الظلم على هذا العالم .
مساعد القائد: نعم .. سأعرف كيف أظلم بريق نظراتك .
يتقدم مساعد القائد إلى الشهيد .. يرفع سيفه ، في هذه اللحظة ينبعث صوت عاصفة آتية من بعيد.. يهوي السيف على جسد الشهيد .. وفي نفس اللحظة ينبعث صوت طفل صغير حديث الولادة .. يمتزج بكاء الطفل بصوت العاصفة .. يعلو الصوت .. يفزع المساعد .. ويعلو الصوت .. ويعلو .. ويعلو .. ثم تعتيم ..
القائد ومساعده ينظران إلى جذع الشجرة ، حيث الشهيد مصلوب .. المرأة والرجال الثلاثة في الناحية الأخرى حيث المرأة كانت تروي القصة .
مساعد القائد: لقد صلبت الثائر .. هيا املأ جيوبي بالجواهر والأحجار الكريمة ، جزاء لي على عظمة المهمة التي أسديتها لك .
القائد: الآن أصبح العالم كما يشتهيه الملك .. ( يقترب صوت العاصفة ) .. ما أبرد هذا الصباح ..! .. وما أحر بريق نظرة الشهيد ..!!!
تتجمد الحركة.. طبول النهاية
* عن مجلة الأقلام ( العراقية ) العدد السادس – السنة التاسعة – 1974 م