تقسيمات اللبرالية
د. عبد الرحمن الحبيب
يكثر استخدام مصطلح اللبرالية وأفكارها في العالم العربي بالمرحلة الراهنة، ومعها كثير من الخلط واللغط حولها، وقد تعرضتُ في مقالات سابقة لتعريف وتاريخ اللبرالية، وعلاقتها مع المفاهيم الأخرى، هنا سأتعرض لأنواع وتصنيفات اللبرالية الموجودة في عالم اليوم.
رغم أن اللبرالية تمتد على مدى واسع من الأفكار والنظريات المتفاوتة من اليمين إلى اليسار، إلا أن كافة اللبراليات تتفق على مبادئ أولية حقوقية. هذه الحقوق هي: الحرية الفردية (خاصة حرية التعبير والتفكير)، الملكية والحرية الاقتصادية، تكافؤ الفرص والمساواة، المشاركة في القرار. وكذلك تتفق على تقليل تدخل الدولة في حياة المجتمع والأفراد، خاصة في المسألة الاقتصادية، حيث تؤمن إما بالاقتصاد الحر (اقتصاد السوق) أو الاقتصاد المختلط الذي تتدخل فيه الدولة لحماية الأفراد من الاحتكارات والظلم، مثل زيادة الضرائب لدعم الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي..
ومن هذه الأخيرة (المسألة الاقتصادية) يبدأ الاختلاف الأساسي بين اللبراليات المتعددة، أي إلى أي مدى يحق للدولة أن تتدخل في الاقتصاد والتجارة.. كذلك يترادف مع هذا الاختلاف اختلاف آخر في مسألة حدود الحريات الخاصة والعامة.. فاللبرالية التقليدية أول ما ظهرت بشكلها السياسي الواضح في الغرب (ق 18) كانت مذهباً يشدد على الحرية الفردية وتقليل تدخل الدولة إلى أدنى حد، متضمنة مجموعة مبادئ هي العقلانية وحقوق الملكية الفردية وحقوق الإنسان الطبيعية والسوق الحر والحقوق المدنية، كما في كتابات أهم مفكريها مثل ديفيد ريكاريو، منتيسكيو، آدم سمث، ديفد هيوم، فولتير، روسو، كانت.. مع العلم أنها ظهرت فكرياً بشكلها الواضح مع كتابات جون لوك في القرن17 .
وكانت الفكرة اللبرالية التقليدية تتلخص في أن اقتصاد السوق الحر والتنافس الطبيعي ينظم نفسه تلقائياً ليصب بالنهاية في منافع المجتمع ككل بعيداً عن فساد البيروقراطية واستبداد الدولة، ولكن بعد التطبيق العملي لهذه الفكرة وظهور أزمات مثل البطالة والكساد والظلم الاجتماعي (الفقر والجهل والمرض)، ظهرت في القرن 19 وأوائل القرن العشرين لبرالية جديدة متأثرة بالأفكار الاشتراكية وتميل لتدخل الدولة.. والفكرة هنا أنه إذا كان هدف اللبرالية الأسمى هو حقوق الفرد خاصة حريته وكرامته ورفاهيته، فإن هذه الحقوق لا يمكن تحقيقها بدون رعاية اجتماعية من الدولة تزيل عن الأفراد المظالم التي نشأت من السوق الحر (الرأسمالية). وسُميت هذه اللبرالية باللبرالية الاشتراكية متمثلة بكتابات مثل جون ستوارت مل، توماس هل جرين، ليونارد هوبز..
إذن أصبح لدينا في لبرالية اليوم تياران أساسيان مختلفان وأحياناً متصادمان، الأول هو اليمين اللبرالي والثاني هو اليسار اللبرالي، ومنهما تفرعت العديد من اللبراليات في الوسط تميل بعضها لليمين وبعض آخر لليسار.. وهذان الفرعان يطلق عليهما أسماء عديدة في الزمن الحاضر.. فللأول تطلق اللبرالية التقليدية أو القديمة أو المحافظة أو القومية، وللثاني يطلق عليه اللبرالية الاشتراكية أو الاجتماعية أو الديموقراطية أو الحديثة أو التقدمية أو الراديكالية..
ويرى بعض المفكرين المعاصرين أن اليمين اللبرالي لم يعد لبرالياً، لسبب بسيط وهو أنه أصبح محافظاً، أي يحافظ على الوضع الحالي وراضياً به ويدافع عن بقائه، ولم يعد إصلاحياً كاللبرالية، ومثال ذلك الأحزاب التي بدأت لبرالية ولكنها تحولت إلى محافظة، كالحزب الديموقراطي اللبرالي في اليابان وحزب المحافظين في بريطانيا والحزب الديموقراطي في أمريكا، وكلها أحزاب رئيسية في دولها، يضعها الكثيرون تحت مظلة اللبرالية العامة..
وعلى النقيض يرى بعض منظري اللبرالية التقليدية الحاليون أن اليسار اللبرالي هو مجرد شكل من أشكال الاشتراكية وليس لبرالياً.. وهذا الفرز داخل اللبرالية الذي يضع بعضها خارجها يعتمد على مفهوم مصطلح اللبرالية المختلف بين البلدان.. فهو في أمريكا يشير إلى الرادكاليين الأقرب للاشتراكية، بل وللاشتراكيين أحياناً، بينما في شمال أوربا (ألمانيا، هولندا، سويسرا، الدنمرك..) يشير إلى التيارات الأقرب لليمين، أما في بريطانيا فهو غالبا مرتبط بالجناح اليساري.. وفي فرنسا فهو حديثاً يرتبط بالتيارات التي تدافع عن الاقتصاد الحر والرأسمالية..
ولمزيد من التوضيح نأخذ مثال بريطانيا باعتبار أن أول مفكر لبرالي بالمفهوم الحديث ظهر منها والتي تسمى لبرالية تقليدية، ومع تطور الفكر والأحداث ظهرت أول لبرالية غير تقليدية في بريطانيا أيضاً وهي اللبرالية الاشتراكية.. ففي بريطانيا المعاصرة، هناك حزبان رئيسيان: حزب المحافظين (يمين) الذي يحافظ على المفهوم القديم للبرالية، ويعتبر نفسه حالياً كمحافظ لبرالي، وحزب العمال (يسار) الذي يؤمن بطروحات اللبرالية الاشتراكية.. وبينهما تنامت قوة حزب ثالث في يسار الوسط وهو الديموقراطي اللبرالي (حصل على 22% في آخر انتخابات) وهو يجمع بين ضرورة أن يكون الاقتصاد حراً (كما يقول المحافظون)، مع إمكانية تدخل الدولة في هذا الاقتصاد لرعاية المواطنين (كما يقول العمال)..
ومن المهم في ظل هذه التسميات الحالية أن نميز بين اللبرالية الحديثة (new liberalism) واللبرالية الجديدة (Neoliberalism) حيث يظهر لبس هائل في كتابات كثير من المفكرين والكُتاب والمثقفين نتيجة عدم التفريق بينهما لتشابه المسميين، فالأولى تنضوي تحت اليسار اللبرالي الذي أشرت إليه، فيما الثانية حركة اقتصادية ظهرت في ثمانينات القرن العشرين (التاتشرية والريجانية) في أقصى اليمين، وتظهر هذه الأيام مع توجهات الإدارة الأمريكية التي يقودها الحزب الجمهوري.. هذه اللبرالية الجديدة (رغم اسمها) هي خارج دائرة اللبرالية العامة لأن سياستها الاقتصادية رأسمالية حادة، وأكثر من ذلك أن دعاتها أنفسهم يزدرون اللبرالية باعتبارها نوعاً من الاشتراكية..
ومن المهم أيضاً التفريق بين اللبرالية الاشتراكية (الديموقراطية الاشتراكية) وبين الاشتراكية الديموقراطية. فالأولى لبرالية تؤمن باقتصاد السوق الحر وحق الملكية الخاصة وتُدخل عليها إصلاحات اشتراكية، مثل الضمان الاجتماعي والصحي والإسكاني والحد الأدنى من الأجور وحق العمل للجميع والتعليم الإجباري ومكافحة البطالة والاحتكار.. ومثال ذلك الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية وأحزاب العمال في غرب أوربا وشمالها (الدول الاسكندنافية، بريطانيا، إيطاليا، أسبانيا..). أما الثانية فهي اشتراكية تؤمن بالاقتصاد الموجه من الدولة والتأميم وزيادة الملكية العامة وتُدخل عليها إصلاحات ديموقراطية، مثل الانتخابات البرلمانية وتداول السلطة.. ومثال ذلك الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في أوربا، خاصة في شرقها وفي روسيا..
الخلاصة أن الفرق الرئيس بين التيارين الأساسيين للبرالية يتمثل في مكونات مبدأ الحرية؛ فالأول التقليدي (اليميني) يؤمن أن الحرية الحقيقية هي التحرر من الإكراه والإجبار، ويرى أن تدخل الدولة في الاقتصاد هو قوة إجبار تقيِّد حرية الأفراد التجارية ومن ثم تقيد الإبداع والتقدم، لذا يفضل سياسة الاقتصاد المتحرر من تدخل الدولة، بينما يرى الثاني الحديث (اليساري) أن على الدولة ضرورة التدخل لضمان حرية المواطنين، لأن الحرية الحقيقية لا يمكن وجودها إلا إذا كان المواطنون أصحاء ومتعلمين ومتحررين من الفقر، لذا يفضل سياسة دولة الرعاية مع دعم اقتصاد السوق الحر.. وبين هذين التيارين تتفرع لبراليات عديدة..