د. تيسير الناشف
توجد جهات رسمية وغير رسمية فاعلة في الغرب تريد السيطرة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية والنفسية على العالم أجمع، ومنه البلدان العربية والإسلامية. والماضي القريب والوقت الحاضر حافلان بالشواهد الساطعة على هذه الإرادة الغربية. ويمكن التصدي لهذه الإرادة عن طريق تاكيد أي شعب مستهدف لوجوده ولذاته. ويمكن تحقيق هذا التاكيد بطرق منها إزالة العيوب من قبيل الطغيان والقمع والقهر والكبت، واكتساب وسائل القوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية ونشر العلم والمعرفة وتخليص الإنسان من الحاجة الاقتصادية وإتاحة الفرصة لانبثاق الفكر الخلاق المبدع وانطلاقه والتخلص من قيود فكرية كثيرة لا حاجة إليها في شتى المجالات وإشاعة الديمقراطية وتثبيت مفهوم المواطنة وإيجاد نظام تمارس فيه التعددية الفكرية.
والغزو الثقافي، الذي هو ظاهرة قديمة، يسهل السيطرة الثقافية. ويمكن أن يكون نتيجة تخطيط وإرادة أو نتيجة تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية غير مخططة أو نتيجة مزيج من الأمرين. إنه ينطوي على اتصال بين طرفين، بين "الأنا" و "الآخر". من المعروف أنه عن طريق الاتصالات الجارية بين الثقافات يحدث تفاعل بينها. وتختلف الثقافات بعضها عن بعض في مدى قابليتها للتأثير والتأثر. وبعد حد معين من التأثير والتأثر الثقافيين المتبادلين تتعزز في العلاقة بين ثقافتين علاقات القوة، فيها يكون تأثير ثقافة واحدة في الأخرى أكبر من تأثير الثقافة الأخرى في الأولى، أو يكون تأثر ثقافة واحدة بالأخرى أقل من تأثر الثانية بالثقافة الأولى. وإذا كان تأثير ثقافة في أخرى يبلغ من القوة ما يؤدي إلى إضعاف الثقافة الأخرى وإلى طمس معالمها يحدث ما يسمى الغزو الثقافي.
والغزو الثقافي يؤدي إلى إضعاف الثقافة المغزوة واضطرابها وإلى التبعية الثقافية أو التقوقع الثقافي. ويمكن أن يؤدي إلى زوال الثقافة المغزوة. والتبعية الثقافية هي عملية تمثل الآخر الجغرافي ثقافيا، أي أن يتثقف الداخل بقيم الخارج وأن يصبح ذلك الآخر محورا ثقافيا. وعملية التقوقع تؤدي إلى انقطاع وقطيعة عن ثقافة الحاضر. و "الأنا" و "الآخر" يمكن أن يحددا جغرافيا أو سياسيا أو حضاريا. بيد أنه من منطلق تعريف التبعية الثقافية بمعنى أنها "تثقف الداخل بقيم الخارج" يكون تحديد "الأنا" و "الآخر" أقرب إلى التحديد الجغرافي.
وفي الوقت الحاضر تتعرض شعوب العالم النامي للغزو الثقافي الغربي. وعملية الغزو هذه لا تفتقر إلى عامل التخطيط السياسي الذي يهدف إلى تحقيق أهداف لدول غربية. ومن هذه الأهداف تسهيل الهيمنة الغربية على بلدان العالم الثالث، فالدولة المتبوعة ثقافيا تسهل عليها السيطرة على البلد التابع ثقافيا. وتسهل الهيمنة قيام الدولة المتبوعة بتحقيق مآربها الاقتصادية والاستراتيجية.
ومن المؤسف أنه توجد حالة تبعية ثقافية وحضارية عربية للغرب. ولهذه التبعية تجلياتها منها استيراد قسم من العرب لنظم الغرب وأفكاره ومنتجاته في أحيان كثيرة على نحو تلقائي مندفع. ولكن يبدو أن ذلك القسم لم يتعلم المنهج العلمي الذي أنتج تلك النظم والمنتجات.
وحتى يكون لنا إسهام ذو شأن في الحضارة العالمية ينبغي لنا أن نكف عن التقليد وأن ننتهج المذهب النقدي إزاء الأفكار والمذاهب الأجنبية.
ويسهل حدوث الغزو الثقافي في المجتمعات التي ليس لديها حضارات عريقة وتراث فكري قوي. والعرب بوصفهم شعبا ذا حضارة عريقة وأصيلة وقوية تتجلى في الفكر والأدب والفن والفلسفة من الأصعب على الثقافة الغربية أن تغزوهم غزوا كاسحا ساحقا لو عرفوا أن يطوعوا حضارتهم اتقاء لذلك الغزو. وهنا يمكن للتمسك بالتراث الفكري والحضاري العربي الإسلامي وبالذاكرة الثقافية التاريخية وللوعي بتاريخ الآباء الأولين أن يؤديا دورا بالغ الأهمية في حشد مقومات هذه الحضارة في مواجهة الغزو الفكري الغربي وفي نشوء قدر لا يستهان به من المناعة في وجه ما لا نريد تبنيه من جوانب الثقافة الغربية. دون هذا التمسك والمناعة يسهل على الحضارة الغربية القوية طمس الخصائص الثقافية العربية، مما يسهل على القوى الغربية جعل العرب والمسلمين ينقادون لها وسيطرتها عليهم والتحكم بهم وبمقدراتهم.
وأظن أن كثيرا من العرب لا يدركون ما يمكن أن يكون للحضارة العربية الإسلامية من أهمية في ردع ورد الغزو الثقافي الغربي. ومنهم من يستخف بدور هذه الحضارة وليسوا على استعداد لقبول إمكانية أن تؤدي هذه الحضارة هذا الدور. وموقفهم هذا نابع من اسباب منها أنهم لا يعرفون مضامين هذه الحضارة في شتى مجالات المعرفة والفلسفة البشرية. وبالتالي لا يصح أن يحكموا على قيمتها وعلى الدور الذي يمكن أن تؤديه دون أن يعرفوا مضمونها. ومن هذه الأسباب أيضا تنشئتهم المنزلية والمدرسية والاجتماعية المفتقرة إلى التوازن. ويتجلى هذا الاختلال في نفي بعضهم للجانب الحضاري العربي الاسلامي المشرق في شخصيتهم وفي نفورهم منه وفي عدم فهمهم له وفي تحيزهم ضده. فالشخصية المتزنة تتيح على الأقل داخلها هامشا ليقين أو احتمال صحة وأهمية البعد الفكري والحضاري التاريخي للشعب الذي ينتمي ذلك الشخص إليه.
ولا يمكن أن يجري حوار بين طرفين، مثلا بين الغرب والعرب شعبا ودولا، أو بين الغرب وشعوب العالم النامي، دون التعادل او شبه التعادل السياسي والاقتصادي والعسكري والحضاري بين الطرفين. لا يجري الحوار بين طرفين تقوم بينهما فجوة قوة في هذه المجالات. لإجراء الحوار بين طرفين يجب أن تتوفر شروط معينة، ومن الشروط الأهم استعداد جهتين لإجراء الحوار. ولا يتوفر هذا الاستعداد لدى جهة تقوم بينها وبين جهة أخرى مثل هذه الفجوة وخصوصا إذا كانت شديدة العمق كما هي الحالة في الوقت الحاضر بين الدول الغربية والدول غير الغربية. وجود هذه الفجوة يقصي لدى جهة من الجهات الاستعداد لإجراء الحوار. وعدم وجود الفجوة عامل هام في توفير الاستعداد لأن تكون جهة طرفا في الحوار. والجهة التي لديها التفوق العسكري والاقتصادي والسياسي والتكنولوجي ليست على استعداد لأن تتخذ موقف المحاور رغم أنها قد تعلن مرارا عن استعدادها لإجرائه. تلك الجهة لا ترى أن من مصلحتها، وهي تتمتع بذلك التفوق، أن تكون طرفا في الحوار. تلك الجهة ترى واقعيا أنها تستطيع بذلك التفوق أن تؤدي دورا أشد تأثيرا من دور المشارك في الحوار.
والجهة التي لا تتمتع بذلك التفوق قد تميل إلى إجراء الحوار مع الجهة المتمتعة بذلك التفوق حتى تغير تلك الحالة. ولا ترى الجهة المتمتعة بالتفوق أن من مصلحتها تغيير تلك الحالة. وبالتالي فتلك الجهة ليست على استعداد للدخول في الحوار. وفي حالة التعادل أو شبه التعادل بين جهتين ينتفي أحد الدوافع إلى عدم المشاركة في الحوار أو ينشأ دافع إلى المشاركة فيه لأنه لا يترتب ضرر بطرف على المشاركة أو لا تترتب منفعة لطرف على عدم المشاركة، إذ بالقوة التي تمتلكها الجهتان كلتاهما تمكنهما المحافظة على مصالحهما. وفي حالة التعادل يتعزز الدافع إلى المشاركة لأن عدم المشاركة قد يضر بمصلحة إحدى الجهتين أو الجهتين كلتيهما. وبالتالي فإن من قبيل الوهم من جانب أية جهة - من جانب حكومة أو جماعة أو فرد - أن تعتقد وهي ضعيفة أن جهة اخرى أقوى منها تقوم بإجراء حوار معها. وقد تظن الجهة الضعيفة أنها تجري حوارا مع الجهة الأقوى أو قد توهم نفسها بأنها تجري ذلك الحوار. وتدرك الجهة الأقوى أنها لا تجري حوارا مع الجهة الضعيفة حتى لو أطلقت على عملية الاتصال بالجهة الضعيفة عبارة الحوار. وبالتالي، لا يؤدي ذلك الاتصال إلى الهدف الذي تتوخاه الجهة الضعيفة، بينما قد تنجح الجهة القوية، عن طريق هذا الاتصال، في تحقيق هدفها، هدف تعزيز الآثار المترتبة على تفوقها السياسي والعسكري والاقتصادي.