لماذا هذه المذاهب الأربعة؟
تأليف الشيخ علي آل محسن
تمهيد:
لقد اختلف أهل السنة إلى مذاهب كثيرة في الفروع والأصول، كمذهب سفيان بن عيينة بمكة، ومذهب مالك بن أنس بالمدينة، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة، ومذهب الأوزاعي بالشام، ومذهب الشافعي والليث بن سعد بمصر، ومذهب إسحاق بن راهويه بنيسابور، ومذهب أحمد بن حنبل وأبي ثور ببغداد... وغيرها.
إلا أن أكثر تلك المذاهب انقرض بين الناس، وظلّت آراء أصحابها مدوَّنة في بطون الكتب عند أهل السنة، وبقيت من تلك المذاهب: الأربعة المعروفة، وهي مذهب أبي حنيفة النعمان، ومذهب مالك بن أنس، ومذهب محمد بن إدريس الشافعي، ومذهب أحمد بن حنبل.
وهذه المذاهب صارت هي المذاهب التي عليها أهل السنة في كافة الأمصار منذ أن حُصر التقليد فيها إلى عصرنا الحاضر.
وهنا نسأل: هل يجوز التعبّد بهذه المذاهب الأربعة، وهل تبرأ الذمة باتباع واحد منها أم لا؟
هذا ما سنكشف عنه النقاب في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى:
نشأة المذاهب الأربعة:
كان الناس في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) يلجأون في معرفة أمور دينهم إليه (صلى الله عليه وآله) وإلى مَن جعلهم النبي (صلى الله عليه وآله) من قِبله كأمراء أو رُسُل إلى البلاد الأخرى، وبقي الحال على ذلك إلى أن قُبِض النبي (صلى الله عليه وآله).
وأما بعد زمانه (صلى الله عليه وآله) فكان الناس يسألون الخلفاء خاصة والصحابة عامة لمَّا تفرَّقوا في سائر البلدان، لأنهم كانوا أقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأعرفهم بأحكام دينه.
ولما جاء عصر التابعين وتابعي التابعين انقسم العلماء إلى قسمين: أهل الحديث، وأهل الفتوى. وكثر المفتون في المدينة ومكة والشام ومصر والكوفة وبغداد وغيرها من بلاد الإسلام، فكان العامة يسألون مَن يظهر لهم علمه ومعرفته، دون أن يتمذهبوا بقول واحد بعينه.
إلا أن المهاترات التي وقعت بين أهل الحديث وأهل الفتوى وبالأخص أهل الرأي منهم من جهة، مضافاً إلى تقريب الخلفاء لبعض العلماء دون البعض الآخر من جهة أخرى، وَلَّد روح التعصّب عند الناس لبعض الفقهاء، والحرص على الالتزام بآرائه الفقهية وطرح آراء غيره.
ولما ظهر أبو حنيفة كفقيه له آراؤه الفقهية، استطاع أن يستقطب له تلاميذ صار لهم الدور الكبير بعد ذلك في نشر تلك الآراء، ولا سيما القاضي أبو يوسف(1) الذي نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين، فتولى منصب القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد، فنشر مذهب أبي حنيفة بواسطة القضاة الذين كان يعيّنهم هو وأصحابه.
ولما بزغ نجم مالك بن أنس أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما في الموطأ، وأمر من ينادي في الناس: (ألا لا يُفتينَّ أحد ومالك بالمدينة). وحظي مالك بمكانة عظيمة عنده وعند مَن جاء بعده من أبنائه الخلفاء، كالمهدي والهادي والرشيد، فسبّب ذلك ظهور أتباع له يروّجون مذهبه، ويظهرون التعصب له.
ثم تألَّق الشافعي وبرز على علماء عصره، وساعده على ذلك تتلمذه على مالك في المدينة، ونزوله ضيفاً لما ذهب إلى مصر عند محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كانت له في مصر مكانة ومنزلة علمية، وكان مقدَّماً عند أهل مصر، فقام هذا الأخير بنشر علم الشافعي وبث كتبه، مضافاً إلى ما لقيه الشافعي في بادئ الأمر من المالكية في مصر من الإقبال والحفاوة، بسبب كثرة ثنائه على الإمام مالك، وتسميته بـ (الأستاذ).
ولما وقع الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، وضُرب وحُبس، مع ما أظهر من الصبر والتجلد، جعل له المكانة عند الناس، ولاسيما بعد أن أدناه المتوكل العباسي وأكرمه وعظَّمه، وعني به عناية فائقة.
هكذا نشأت هذه المذاهب وانتشرت دون غيرها.
ثم إن الأغراض السياسية والمآرب الدنيوية كانت وراء دعم الخلفاء لهذه المذاهب، فإن خلفاء بني العباس أرادوا أن يلفتوا الناس إلى علماء من أهل السنة، لتكون لهم المكانة السامية عند الناس، باعتبارهم أئمة في الدين، ليصرفوا الأنظار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين كانت نقطة التوتر بينهم هي الأولوية بالخلافة.
ولهذا كان شعراء بني العباس يثيرون هذه المسألة في مناسبات كثيرة، يُعرِّضون فيها بأبناء علي وفاطمة (عليهم السلام)، ويحتجون بأن الخلافة ميراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وعلي (عليه السلام) ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله)، والعباس عمّه، وابن العم لا يرِث مع وجود العم.
قال مروان: فعَقَد لي على البحرين واليمامة، وخلع لي أربع خلع، وخلع عليَّ المنتصر، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار، فنُثرت عليّ(2).
قال ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام):
وليعلم مَن قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة ـ نعني التقليد ـ إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتوا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.
ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.
نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه، وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح(3).
وسواء كانت هذه المذاهب سبقت هذا الزمان قليلاً أو كثيراً فهي على كل حال لم تكن في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما استُحدِثت بعد أكثر من قرن من وفاته (صلى الله عليه وآله).
فرض المذاهب الأربعة مذاهب رسمية:
بقي العمل بالمذاهب المتعدّدة عند أهل السنة، الأربعة وغيرها، إلى أن جعل الخلفاء المدارس وقصروا التدريس في هذه المذاهب، كما أن مناصب القضاء حُصرت أيضاً في القضاة الذين يقضون بفتاوى الأئمة الأربعة، واستمر الحال على ذلك إلى أن أمر السلطان الظاهر بيبرس الذي كان له النفوذ والسلطان على مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام بجعل قضاة أربعة في مصر: لكل مذهب قاض خاص، وكان ذلك في سنة 663هـ، ثم جعل بعد ذلك بعام في بلاد الشام قضاة أربعة أيضاً، وعلى ذلك استمر الحال، فانحصرت المذاهب عند أهل السنة في هذه الأربعة منذ ذلك الوقت إلى زماننا الحاضر.
قال المقريزي: فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولَّى بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665هـ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعُودي مَن تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه، ولم يولَّ قاضٍ ولا قُبِلت شهادة أحد، ولا قُدِّم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها(4).
قال ابن كثير في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة، استهلَّت والخليفة: الحاكم العباسي، والسلطان: الملك الظاهر، وقضاة مصر أربعة، فيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول... وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم، واستقرت الأحوال على هذا المنوال(5).
وذكر ذلك أيضاً: الذهبي في كتابه (العبر) في حوادث سنة 663هـ. وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب، وتغري بردي في النجوم الزاهرة وغيرهم(6).
وقال السيد سابق: وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله، ولا يُعتد بفتاواه.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم!!
سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وإن خرج عن ذلك لم ينله شيء، وحُرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونُسبَتْ إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك(7).
أصحاب المذاهب الأربعة:
1 ـ أبو حنيفة النعمان:
هو النعمان بن ثابت بن زوطي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة، أصله من كابل، وُلد بالكوفة سنة 80هـ ونشأ فيها، رأى أنس بن مالك، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء، وهو إمام أهل الرأي.
روى له الترمذي والنسائي في سُنَنهما، من أشهر تلاميذه القاضي أبو يوسف، ومحمد بن حسن الشيباني، له كتاب (المسند) في الحديث، جمعه تلاميذه، و (المخارج) كتيب صغير في الفقه، رواه عنه تلميذه أبو يوسف.
ضربه أمير العراقيين عمر بن هبيرة ليتولّى قضاء الكوفة فامتنع، وأراده أبو جعفر المنصور بعد ذلك للقضاء ببغداد، فامتنع أيضاً، فحبسه إلى أن مات ببغداد سنة 150هـ، وله مزار معروف بالقرب من بغداد في محلّة تعرف بالأعظمية نسبة إليه، وقد بنى ذلك على قبره محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي سنة 459هـ(8).
2 ـ مالك بن أنس:
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري، أبو عبد الله المدني. ولد سنة 93هـ ، وقيل غيرها، وقيل: حملت به أمّه سنتين، وقيل: ثلاث سنين، لُقِّب بإمام دار الهجرة.
روى عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ونافع وابن المنكدر وغيرهم، وروى عنه الإمام الشافعي والسفيانيان والأوزاعي وغيرهم.
له كتاب الموطأ في الحديث. قال الشافعي: ما في الأرض كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك، وقال البخاري: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. مات بالمدينة سنة 179هـ وعمره تسعون سنة، وقيل: خمس وثمانون، ودُفن بالبقيع(9).
3 ـ محمد بن إدريس الشافعي:
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب القرشي المطلبي المكي. وُلد في غزة بفلسطين سنة 150هـ، وقيل: باليمن، مات أبوه وهو صغير وحملته أمّه إلى مكة وهو ابن سنتين. فنشأ بمكة، ثم انتقل إلى المدينة وقرأ الموطأ على مالك.
روى عن ابن عيينة ومالك وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو ثور والمزني وغيرهم. اعتبره بعضهم هو المجدد على رأس المائتين، له كتاب (الأم) وفيه آراؤه الفقهية الجديدة، وكتاب (المسند) في الحديث، و(أحكام القرآن) وغيرها، وله شعر جيد، ومنه:
ما حَكَّ جلدَك مثلُ ظفركْ فتولَّ أنت جميعَ أمـرِك
وإذا بُليتَ بحاجـــــــــــةٍ فاقصد لمعترِفٍ بفضلكْ
وله أشعار جيدة في حب أهل البيت (عليه السلام)، زار بغداد سنة 195هـ فاجتمع به أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما، وأقام بها حولين وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة، ثم رجع إلى بغداد سنة 198هـ، ومكث فيها شهراً، ثم قصد مصر سنة 199هـ، وصنف بها كتبه الجديدة كالأم، والأمالي الكبرى، ومختصر البويطي، ومختصر المزني، ومات فيها سنة 204هـ وعمره 54 سنة، وقبره معروف بالقرب من المقطم(10).
يتبع