6- أحكام الصيام:
للصيام أحكام وآداب واجبة ومستحبة، فمن أحكام الصيام:
1- أنه يحرم الصيام قبل رمضان بيوم، أو يومين بقصد الاحتياط لرمضان، لكن من وافق عادة له بصيام أيام يصومها لا يقصد الاحتياط لرمضان فلا بأس بصيامه، كمن يصوم الاثنين والخميس فوافق ذلك آخر الشهر، وكمن يصوم صوما واجبا كصوم نذر، أو كفارة، أو صيام قضاء رمضان السابق، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم هذا لفظ البخاري .
ولفظ مسلم لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه . قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان: قال الترمذي لما أخرجه: " العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجَّل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان " ا هـ.
ومن صام الذي يشك فيه فقد عصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر - رضي الله عنه - فأتينا بشاة مصلية، فتنحى بعض القوم فقال إني صائم، فقال عمار - رضي الله عنه -: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-. . ولا يعارض حديث أبي هريرة ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه سأله رجل، أو سأل رجلا وعمران يسمع فقال: يا فلان: أما صمت سَرَر هذا الشهر؟ قال: أظنه قال: يعني رمضان، قال الرجل: لا، يا رسول الله، قال: فإذا أفطرت، فصم يومين لم يقل: الصلت أظنه يعني رمضان، قال أبو عبد الله وقال ثابت عن مطرف عن عمران عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: من سرر شعبان هذا لفظ البخاري .
ولفظ مسلم بسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه . وفي لفظ آخر عن عمران بن حصين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا - يعني شعبان- قال: لا، فقال له: إذا أفطرت رمضان فصم يوما، أو يومين شعبة الذي شك فيه، قال: وأظنه قال: " يومين" .
قال العلماء وجمهور أهل اللغة والحديث الغريب: المراد بالسرر هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين، وتسع وعشرين وثلاثين، وقيل السرر وسط الشهر؛ لأن السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص، وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان، وقيل: سرر الشهر أوله. والصواب الأول، وهو أن المراد بالسرر آخر الشهر، ويؤيده ما جاء عن أحمد - رحمه الله- من وجهين بلفظ: "سرار الشهر" وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها "سرر"، وفي بعضها "سرار"، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، قال القاضي: والأشهر أن المراد آخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون.
قلت:، وهو اختيار البخاري حيث ترجم على هذا الحديث: باب الصوم من آخر الشهر، قال الزين بن المُنيِّر أطلق الشهر، وإن كان الذي يتحرر من الحديث أن المراد به شهر مقيد، وهو شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختص بشعبان، بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر، ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم، أو يومين لقوله فيه: إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه ا هـ .
فحديث عمران هذا لا يعارض حديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين؛ لأن حديث عمران بن حصين محمول على أن هذا الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر، فلما سمع نهيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم، أو يومين ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما اعتاده من ذلك، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقضائه، لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، ويؤخذ من الحديث مشروعية قضاء صوم التطوع.
وعليه فيجمع بين الحديثين بحمل النهي في حديث أبي هريرة عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر في حديث عمران بن حصين على من له عادة، فتتفق الأحاديث، ولا تختلف.
قال القرطبي "الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير، حتى لا يقطع، قال: وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان، وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره، أخذا من قوله في الحديث: فصم يوما مكانه يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان. ا هـ .
قال النووي " وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم، أو يومين، ويجاب عنه بما أجاب المازري وغيره، وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر، أو نذره، فتركه لخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما نهي عن غير المعتاد والله أعلم ا هـ.
ولا يعارض أيضا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان .
وأخرج مسلم بسنده عن أبي سلمة قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، وكان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا .
وأخرج مسلم أيضا بسنده عن أبي سلمة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشهر من السنة أكثر صياما منه في شعبان .
فحديث عائشة هذا لا يعارض حديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، فإن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كان عادة له، والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين لمن لم يكن له عادة، بدليل قوله في آخر الحديث: إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه وصيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كان عادة له، فهو داخل في المستثنى في حديث أبي هريرة إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه .
وفي حديث عائشة دليل على فضل الصوم في شعبان، وقد اختلف العلماء في معنى قول عائشة - رضي الله عنها- "كان يصوم شعبان كله"، "كان يصوم شعبان إلا قليلا"، وقول أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان .
فقيل المعنى:
1- أنه كان يصوم معظمه وغالبه،، ويكون قول عائشة "كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا"، يكون الثاني تفسيرا للأول، فتكون الجملة الثانية مفسرة للأولى مخصصة لها وأن المراد بالكل الأكثر، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
2- وقيل المعنى: أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه تارة أخرى، فيصوم شعبان كله في سنة، ويصوم معظمه في سنة أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وهذا المعنى وجيه، وهو الأقرب عندي.
3- وقيل المراد بقوله: (كله) أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخر تارة أخرى؟ من أثنائه تارة، فلا يخلي شيئا منه من صيام، ولا يخصّ بعضه بصيام دون بعض.
واختلف العلماء في الحكمة في تخصيص شعبان بكثرة الصوم منه -صلى الله عليه وسلم- فقيل:
1- كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر، أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان.
2- وقيل إن نساءه كنّ يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم لذلك، وهذا عكس ما ورد عن عائشة أنها تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لشغلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصوم.
3- وقيل الحكمة في ذلك أن شعبان يعقبه رمضان، وصومه مفترض فكان يكثر الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره، لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.
4- وقيل: لأنه شهر يغفل الناس عنه، وهذا هو الأرجح لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان. قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم .
وأما ما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا وفي رواية: "فلا يصومن أحد". وفي رواية: إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان .
فقد اختلف العلماء في تصحيحه، وتضعيفه، فضعفه أحمد وقال: ليس هو بمحفوظ، وقال الخطابي هذا الحديث كان ينكره عبد الرحمن بن مهدي وحكى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر، قال:، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن فإن فيه مقالا لأئمة هذا الشأن، وأنكره أيضا أبو زرعة الرازي والأثرم وقالوا: الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان ووصله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيوم، أو بيومين.
وصحح الحديث آخرون من أهل العلم منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي والشافعي وابن عبد البر قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال: هو ليس بمحفوظ. قالوا: والعلاء بن عبد الرحمن وإن كان فيه مقال، فقد حدث عنه الإمام مالك مع شدة انتقاده الرجال، وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وذكر له أحاديث انفرد بها رواتها، وكذلك فعل البخاري أيضا، وللحفاظ في الرجال مذاهب، فعلى كل منهم ما أدّى إليه اجتهاده من القبول والرد.
والذي يظهر لي أن الحديث صحيح، وأنه لا تعارض بينه وبين صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان، وكذلك سؤاله -صلى الله عليه وسلم- للرجل عن صومه سرر شعبان، وكذلك نهيه عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، إذ الجمع بينهما ممكن بحمد الله تعالى، وذلك بأن يحمل فعله -صلى الله عليه وسلم- وصيامه شعبان بأن ذلك عادة له وكان يصل النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول، وكذلك سؤاله -صلى الله عليه وسلم- للرجل عن صومه سرر شعبان أي آخره بأن ذلك عادة لهذا الرجل أن يصوم آخر شعبان، والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين محمول على من ليست له عادة بالصيام، أو كان يصوم قضاء من رمضان الماضي، وهذا الحديث، وهو النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، وإن كان مفهومه جواز الصيام إذا بقي أكثر من يومين إلا أنه يقدم عليه منطوق حديث العلاء بن عبد الرحمن إذا انتصف شعبان فلا تصوموا لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو مقرر عند أهل الأصول.
وعليه: فيكون النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان يتناول من يصوم نفلا مطلقا، أما من له عادة بصيام شيء كالاثنين والخميس، أو وصله بما قبل النصف الأول، أو يكون يصوم نذرا، أو كفارة، أو قضاء رمضان الماضي فلا يتناوله النهي، ويكون هذا الحديث موافقا لحديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، والنهي في الحديثين للتحريم؛ لأنه الأصل فيه، وقد ذكر بعض أهل العلم أن معنى هذا النهي للمبالغة في الاحتياط لئلا يختلط برمضان ما ليس بغيره، وهو توجيه حسن.
وقد جمع ابن قدامة - رحمه الله - في المغني بين حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان وبين حديث عائشة في صلة شعبان برمضان فقال: "ويمكن حمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر، وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله، فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر، فلا تعارض بين الخبرين إذن، وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم" .
وقد جمع البيهقي بينهما فيما نقله الحافظ ابن حجر بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم وحديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان .
وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان، وضعفوا الحديث الوارد فيه، وقال الإمام أحمد ويحيى بن معين إنه حديث منكر. والراجح فيما يظهر لي أن الحديث صحيح وأنه لا منافاة بينه وبين صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان وكذلك سؤاله للرجل عن صوم سرر شعبان، وكذلك نهيه عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، وأن النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان وكذا النهي عن تقدم رمضان بيوم، أو يومين محمول على من ليست له عادة كما سبق. وأن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان وكذا صيام سرر شعبان محمول على من كان الصيام عادة له، أو وصل صيام النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول كما جمع بذلك المحققون من أهل العلم مثل: محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم والحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود والقرطبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر
أما جمع ابن قدامة في المغني بأن حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان محمول على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر، فليس بوجيه فيما يظهر لي، وكذا جمع البيهقي بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم فليس بوجيه أيضا.
بل الذي يظهر أن النهي للتحريم كما هو الأصل فيه لمن ليس له عادة، أو كان يصوم صوما واجبا عليه كقضاء رمضان، أو صيام نذر أو كفارة.
وقد نقل الحافظ ابن رجب - رحمه الله- الخلاف في ذلك فقال: " واختلف العلماء في صحة هذا الحديث - يعني حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان - ثم في العمل به, فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم: الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا هذا حديث منكر منهم: عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم وقال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه- يشير إلى أحاديث صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كله ووصله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين- فصار الحديث حينئذ شاذ مخالفا للأحاديث الصحيحة، وقد أخذ به آخرون منهم الشافعي ونهوا عن ابتداء التطوع بالصيام بعد النصف من شعبان لمن ليس له عادة ".
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- على حديث أبي هريرة لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين قال: " وفيه منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز، وقيل يمتد المنع لما قبل ذلك, وبه قطع كثير من الشافعية وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقديم بالصوم، فحيث وجد منع, وإنما اقتصر على يوم، أو يومين؛ لأنه الغالب ممن يقصد ذلك,
وقالوا أمد المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: "ولا تعارض بين هذا - يعني الإكثار من صوم شعبان - وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين, وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني, فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده اهـ.
وقال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود "قال الحافظ في الفتح: قال القرطبي لا تعارض بين حديث النهي عن صوم نصف شعبان والنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين, وبين وصال شعبان برمضان: والجمع ممكن بأن يحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، ويحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطبة بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع" انتهى ملخصا .
وقال النووي - رحمه الله- على حديث: لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه قال: "فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم، ويومين لمن لم يصادف عادة له، أو يصله بما قبله, فإن لم يصله، ولا صادف عادة فهو حرام, هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره: إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فإن وصله بما قبله، أو صادف عادة له - إلى قوله - فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث .
وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود ( الذين ردوا هذا الحديث لهم مأخذان - أي حديث العلاء في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان -.
أحدهما: أنه لم يتابع العلاء عليه أحد، بل انفرد به عن الناس, وكيف لا يكون هذا معروفا عن أصحاب أبي هريرة, مع أنه أمر تعم به البلوى، ويتصل به العمل.
والمأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضا لحديث عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما- وفي صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- شعبان كله، أو إلا قليلا منه, وقوله: إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه وسؤاله للرجل عن صومه سرر شعبان، قالوا:، وهذه الأحاديث أصح منه، وربما ظن بعضهم أن هذا الحديث لم يسمعه العلاء من أبيه.
وأما المصححون له فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، وهو حديث على شرط مسلم فإن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة وتفرد به تفرد ثقة بحديث مستقل, وله عدة نظائر في الصحيح.
قالوا والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها, وأما الثقة العدل إذا روى حديثا، وتفرد به لم يكن تفرده علة, فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عملت بها الأمة؟
قالوا: وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان, فلا معارضة بينهما, فإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني, وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف, لا لعادة، ولا مضافا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التقدم.
وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه, فهذا لم نعلم أن أحدا علل به الحديث فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه, وفي صحيح مسلم عن العلاء عن أبيه بالعنعنة غير حديث, وقد قال عباد بن كثير لقيت العلاء بن عبد الرحمن وهو يطوف, فقلت له: برب هذا البيت, حدثك أبوك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا فقال: ورب هذا البيت سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره) اهـ.
وبهذا يتبن أن الصواب في هذه المسألة أنه لا يجوز الصوم بعد النصف من شعبان لمن يصوم نفلا مطلقا لحديث العلاء بن عبد الرحمن في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان ولحديث أبي هريرة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم، أو يومين، ويجوز الصيام بعد نصف شعبان لمن كان يصوم عادة له كالاثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم، أو صيام آخر الشهر وكان يصل صيام النصف الثاني من شعبان بالنصف الأول، أو كان يصوم صوما واجبا كقضاء رمضان الماضي، أو صيام نذر، أو كفارة, وبهذا الجمع بين الأحاديث يزول ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث، ويعمل بالأحاديث كلها, فلله الحمد على ما ألهم، وعلم وفتح من الخير وفهّم، وهو أهل الحمد والشكر، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة
الشيخ بن باز رحمه الله