سبق وأن قام أمارتيا صن ، الفيلسوف الهندي الذي قابل العنف وهو في سن الحادية عشر في جريمة قتل ، والحائز على نوبل 98 ، الهوية بالعنف . الهوية كاطار للذات الجمعية ، الإعتراف بوجود انتماءات - خارجة عن هذه الذات - منافسة ، سبباً لولادة مفهوم كالعنف في المجتمع البشري ، ويذهب ليقول في احدى مؤلفاته التي ابتدأها بمقولة أوسكار وايلد : " معظم الناس هم أناس آخرون " بأن : " يمكن لشعور قوي بانتماء يقتصر على جماعة واحدة أن يحمل معه ادراكاً لمسافة البعد البعد والإختلاف عن الجماعات الأخرى ، فالتضامن الداخلي يغذي التنافر الخارجي بينها وبين الجماعات الأخرى " .
قد تكون هذه خير فاتحة في وجهة نظري ، لبداية التعريف في أحد المشكلات الأزلية التي تواجه النظرية الإجتماعية ، والتي تختصر في مفردة : " العنف " ، الذي تناوله كلٌ بأيدلوجيته ، ومرجعيته الدينية ، أو الإجتماعية بالتفسير وعرض الحلول النظرية . ومع استمرار الصراع الذائم الذي ما يزال يتجدد من حيث الدوافع ، تحت غطاء السياسة في بعض الأحيان ، أو الدين في أحيان أخرى ، أو حتى في الأدبيات وفي الوسط المثقف كما سأتناول ، وانبثاق مفاهيم عديد من مفردة العنف كالإرهاب ، أو الجريمة أو العنف السياسي ، وباقي أشكال العنف ، ضمن التغيرات الإقتصادية ، الإجتماعية ، السياسية .. الخ) بقيت تاريخيته مجهولة ، ولا يشبع روح الباحثين كم الفرضيات المتعددة .
ثمة نظرية عمل على نقدها الكثير من المفكرين ، والتي هي نظرية E. Duhring التي تأول ظهور العنف تاريخياً كـ " عنف سياسي مباشر " ، أو من حاول الإفتراض على أنه موقف / منطق القوة " ذو الأهمية العظمى من أجل فرض السلام ، أو نظريات حيكت لتنسج عبارات أخرى كـ : " توازن الخوف " وهذه الصناعات للفرضيات التي تناولها الناقدون ، توافقاً مع تياره الإجتماعي ، ليظهر التفسير الإشتراكي للعنف الذي يفسره على أساس الصراع الطبقي ذو البعد الإقتصادي ، والشرح الديالكتيكي - المادي للطبيعة الطبقية تاريخياً ، والذي ذهب للقول بأن التفسير المثالي والميتافزيقي له لا يعد سوى : " امتزاج مشوش من العنف اللامعقول الذي يدينه المنطق الفلسفي الناضج والذي من الأفضل نسيانه بأسرع ما يمكن " كما ذكر انجلز في المطبوعات الإجتماعية ، او ما ذكره حول بعض الآراء التي كانت تعتني بكونه الحل الحاسم لصفة موضوعية مصاحبة لتطور المجتمعات .
ويبدو من الضروري التفريق فيما بين : " العنف الفردي " : الذي يتميز بالصبغة الشخصية لدوافع عديدة كالشرف ، العادات ، التقاليد ، العصابات ..ألخ) ، وما بين " العنف الجماعي " الذي يعد صفة اجتماعية أو سياسية أو طبقية ، والذي يفسره لينين بقوله : " تمارس سلطة القمع في كل جماعة بشرية " ، موضحاً في موضع آخر أنها " وجود لطبقة خاصة من الأفراد الذين يمسكون بالسلطة " ، وبهذا ترابط دائم فيما بين العنف الإجتماعي والسياسي على الأغلب ، وقد يفترقا لنتيجة كـ خصوصية الموضوع ، فيما لو كان إجتماعياً لا ينتمي للسياسة ، وهذا قلّما وجد . فمن حيث الولادة ، العنف الإجتماعي والسياسي كل منهما وليد الظروف الإجتماعية والإقتصادية لمجتمع متناقض ، بمتطلبات العلاقات الملموسة والتناقضات والصراع الطبقي خصوصاً بعد ولادة " الملكية الخاصة " المستعبدة لطبقة من المسحوقين ، والمالكة للشرعية كذلك كما يؤخذ ما ذكره لينين حول ذلك : " كل الطبقات القامعة تحتاج إلى وظيفتين اجتماعيتين : الجلاد ، الكاهن .. كي تحافظ على سيطرتها " ، وهذا لكي : " تستعمل العنف بصورة تلقائية ، وترغم الناس في نفس الوقت على الخضوع إليها " . وقد نأتي لما ذكره ماركس حول الجانب السياسي من العنف / الصراع ، لظهور الطبقات والدولة بأن : " السلطة السياسية ، بالمعنى الخالص للكلمة ، وسمت العلاقات السياسية للمجتمع المتناقض ، وهي السلطة المنظمة لطبقة من أجل قمع طبقة أخرى " ، كما ذكره في بيان الحزب الشيوعي .
من جانب آخر ، وفي التفسير الإشتراكي للعنف يجدر بالذكر أن العنف الإجتماعي لا يوجد أبداً خارج العلاقات الطبقية ، ولا خارج السياسة أيضاً ، بل يرتكز الإرادة الرئيسة للكفاح ، مستخدمة مختلف الوسائل وأشكال الضغط لتحقيق التوازن الفعلي للقوى الذي ينهي هذا العنف ، كما ذكر لينين :" انتقال السلطة من طبقة الى أخرى " ، بل ويذكر في موضع آخر بأن غير ذلك من تفسير هو مغلوط وعقيم : " توجد هناك حروب وحروب ، يجب أن نعرف كيف نحدد الظروف التاريخية التي تنتج منها الحرب . والطبقات التي تقودها والغاية التي تهدف إليها .. وإلا فإن كل اعتباراتنا حول الحروب ستكون مجادلات عقيمة " .
أما لدى التفسير البرجوازي الذي يذهب على لتفسير ارتقاء ونمط ونمو العنف على أنه تمايز طبقي واجتماعي يولد مظهراً للعنف ، فثمة العنف " الآتي من الأعلى " والذي تستخدمه السلطة القانونية داخل مؤسسة الدولة الديمقراطية ، و" العنف المشروع " المستند على مبررات حقوقية نتيجة وقوع مصادرة الحقوق للعامة ، بيد أن هذا العنف الآتي من الأعلى في واقع الأمر ملاذ توسع للمزيد من السلطة ، وبالتالي توليد المزيد من تأصل فكرة العنف كذلك ، وهو دعوة للدخول الى عنف العالم المعاصر والحياة القائمة ، فهو لدى بعض المنظرين البرجوازيين : القلق الذي تحدثه الحركات الثورية للأوساط الإمبريالية ، أو كراهيتهم - الإمبرياليون - للفتن الشعبية التي استدعتهم لابراز اصطلاح " العنف الآتي من الأسفل " والذي يجيز لهم بأن يصفوه اعتداء . ولفارق الوعي والنضوج في الطبقات الدنيا ، بأن يكون في نظرهم سبب الويلات والأزمات الداخلية والدولية ، ولوجود هذه الأمور يقول سكوت نيرنج : " ان العنف والضغط أصبحا شيءاً اعتيادياً في المجتمع البرجوازي " .
ثمة أيضاً من أسقطوا الداروينية على العلوم الإجتماعية ، ونظرية العنف تحديداً ، ويذهب البعض منهم لأن يفسر ذلك كـ " زمرة اجتماعية " ، أو " الإصطفاء الطبيعية " الذي أتى بفكرة كالفاشية على سبيل الذكر ، وقد نأتي لذكر بعض الآراء كما هي لدى راتزنهوفر في وصفه للحرب بأنها " الشكل الأساسي لتطور المجتمع البشري " تأكيداً على " القيمة الإجتماعية للعنف " وتحققها . كذلك ما لدى سبنسر من مفهوم الصراع الذي يعتبر في الحياة الإجتماعية على أنها نتيجة أوضاع متناقضة وصراع بين الأفراد والجماعات مثلاً ، وكذلك ما لدى غميلوويكز الذي حاول ارجاع كل التناقضات والصدامات الى التناحر القديم بين القبائل والدوافع العرقية كما أشار : " صراع الأجناس من أجل السيطرة ، والسلطة ، هو المبدأ الدافع للامام ، وعلى وجه التحديد هو القوة المحركة للتاريخ " . عدا عمّن غالوا في تعميم العلوم البيلوجية للتفسير ، أمثال ثورب في قوله : " لا يوجد علمياً أي شكل للسلوك الحيواني لا يمكن أن يكون له علاقة ما مع قضايا السلوك البشري " .
وبعيداً عن هذا الخضم ، ثمة من يقول بـ " التعطش للعنف " لدى بعض الفئات والأفراد ، واضفاء علوم النفس بظلالها لتشمل تعريف العنف ، الذي يمثل غريزة البقاء ، ومقاربتهم بين باقي الغرائز وبروز الغريزة العدوانية ، والتنافس على اعتباره بأنه رد فعل " طبيعي " قابل للاحتداد في الصدام ، والإختفاء في عدم وجوده - الصدام - أو اختفاء المحرض الشرطي لبروز الشخصية العدائية على السطح . ولعلنا نجد في بريد اليونسكو ما يشرح أكثر هذا الأمر : " أعط بندقية لصبي فيذهب للصيد ، إنه لشيء طبيعي في أنفسنا .. من السهل على الإنسان أن يكون للغاية " . وفي مقالة تحت عنوان " تشريح العنف " نشرها معهد علم النفس الإجتماعي في أميركا يذكر : " العدوان هو الوسيلة الطبيعية لتخطي العراقيل على طريق ارضاء حاجات معينة للإنسان الفرد ، وسيلة ليست فطرية وطبيعية ولكنها أيضاً عضوية من جملته العصبية ، يتألف عملها من تحريك طاقة الطاقة البشرية للوصول لغايات ملموسة ، كما أنها - تناسباً مع الصعوبات التي تظهر - تزيد من حجمها كطاقة تدفعه ليحقق ما يرجو " .
__________________
منقول