معاملة الناس بالظاهر وترك سرائرهم لله
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني
رحمه الله تعالى عند شرحه لحديث ابن عمر : "فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر" وهذا هو الأصل في ديننا أننا نقبل الأعمال الظاهرة، ونحكم على الإنسان بها، حتى وإن كان لدينا ظن راجح بأن مظهر هذا العمل أو فاعله لم يفعله عن إيمان وحقيقة، ونستشهد على ذلك بما وقع لـأسامة حين ظن أن الرجل عندما قال: لا إله إلا الله أنه قالها خوفاً من السيف وليس عن إيمان ويقين، فقتله أسامة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: {أقتلته بعد أن قالها؟ فما تصنع بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذا بها من السيف } فالقرينة واضحة والظن راجح أو غالب أن الرجل لما رأى السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ لعلمه أن المسلمين يكفون عمن يتلفظ بها، ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أسامة أشد الإنكار ؛ حتى قال أسامة : {تمنيت أني أسلمت حينئذ } وبقي أسامة رضي الله تعالى عنه خائفاً من هذا الحديث، حتى إنه لم يشارك في قتال بين المسلمين أبداً، حتى إن علياً كان بينه وبين أسامة محبة وأخوة، وكان أسامة يقول: [والله! لقد علم أنه لو كان في شدق الأسد لوددت أني معه ] أي: يعلم أن من محبتنا له أنه لو كان في شدق الأسد، أي: في أي مصيبة وفي أي كرب فأنا معه، إلا في هذا، فبعد ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأسامة في تلك الحادثة، كيف يستطيع أن يرفع سيفه في وجه مسلم؟!!
فإذاً: نحن نجري الأحكام على ظاهرها، كما فهم ذلك الصحابي.
وننبه هنا إلى أن حديثنا عمن أظهر الشهادتين، أما من نقض شهادة أن لا إله إلا الله فهذا شيء آخر.
الاكتفاء في الحكم على المرء بما يظهر من قوله وفعله
ثم قال الحافظ رحمه الله: "وفيه -أي الحديث- الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة" وفي هذا رد على أهل الكلام الذين يقولون: يجب على الإنسان كي يكون مسلماً أن يقول ولو مرة واحدة في عمره: هذا العالم حادث، والحادث لابد له من محدث، إذاً: الله موجود، ولكن نقول:
أولاً: الفطرة موجودة في الإنسان وهو لا يزال طفلاً، ففي فطرته أن لكل شيء من هذه المخلوقات خالقاً وصانعاً، فإذا قلت له: الله هو خالق هذه المخلوقات ؛ فيبقى في شعوره أن الله سبحانه وتعالى هو أقوى من كل أحد، وأكبر وأعظم من كل أحد؛ بل كل الأسباب تنتهي إليه: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] فمهما قلت من أسباب، وأنها أسباب، وللأسباب أسباب، فكلها تنتهي إلى الله سبحانه، فالفطرة موجودة، والنظر الفطري موجود، فالإنسان إذا رأى الكون وتفكّر فيه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] إذا رأى ذلك يقول: لا إله إلا الله، فينطق بفطرته بالإيمان.
فهذا غاغارين لما أرسلوه إلى الفضاء لأول مرة، نسي أنه شيوعي، وأن الحزب يراقبه في الأرض! نسي كل شيء وقال: لابد أن لهذا الكون خالقاً، فالفطرة تنطق وتزيل الغشاوات التي تغشى عليها، إذاً المقصود بالاكتفاء هنا: أي: الاكتفاء بأن يظهر ما يدل على صدق إيمانه واعتقاده لنحكم له بالإيمان، ومن آمن إيماناً صادقاً فإنه سبحانه وتعالى يقبل إيمانه وإن لم يأت على طريقة المتكلمين، ورحمة الله تعالى أوسع من أن يحجر الناس على أن لا يؤمنوا إلا على طريقة العلاف أو النظام أو أمثالهما من المبتدعين.