بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ وبعد :
لا يخفى أن عداوة إبليس لبني آدم قديمة قدم النوع الانساني في الوجود، فبعد أن رفض إبليس السجود لآدم بدأ يكيد له، وبعد اللقاء في الجنة التي كان يسكن فيها آدم استطاع ابليس أن يوسوس له بالأكل من الشجرة المحرمة، وبعد توبة آدم أضمر الشيطان العداوة لكل أبناء النوع الانساني والى قيام الساعة. قال تعالى:{ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} الأعراف 16.
في هذا الكتاب يسرد الامام محمد متولي الشعراوي خواطره حول هذه العداوة القديمة، وسبل الوقاية منها، والتحصن بما جاء في الكتاب والسنة من همزات الشيطان، وكل ذلك بأسلوبه الممتع الشيق.
ودار القلم إذ تقدم هذه الرسالة ضمن مجموعة "إمام الدعاة" نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، إنه سميع مجيب.
بيروت في 29 ربيع الثاني 1421 هـ
الفصل الأول : من هو الشيطان؟
سؤال طالما دار في عقولنا.. دون أن نجد له جوابا.. إن الشيطان غيب عنا.. يرانا ولا نراه.. يهمس في آذاننا ويوسوس لنا دون أن نعرف أين هو؟ ولا ماذا يفعل؟ ولذلك يبقى السؤال.. من هو الشيطان؟
الله سبحانه وتعالى ـرحمة منه بعقولناـ أعلمنا من هو الشيطان.. وما هي قصة عداوته للانسان.. وكيف نشأت.. وكيف نواجهه ونتغلب عليه وعلى كل القوى الخفية والظاهرة في الكون..
الله تبارك وتعالى يأمرنا أن نستعيذ به.. ذلك لأن الله جل جلاله.. قاهر فوق كل خلقه.. المؤمن منهم والكافر.. والطائع منهم والعاصي، والذي له اختيار، والمقهور على الطاعة.. كل هؤلاء مقهورون لله سبحانه وتعالى فلا شيء في الكون يخرج عن مشيئته.. ولذلك يقول سبحانه وتعالى:
{وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير}. الأنعام 18.
الله سبحانه وتعالى.. لا يخرج في كونه عن مراده الفعلي، ولكن يخرج الذين أعطاهم الحق جل جلاله الاختيار عن مراده الشرعي.. أو منهجه في "افعل لا تفعل".. وهم يخرجون عن هذا المنهج باختيار الله سبحانه وتعالى.. لأنه جل جلاله..هو الذي خلقهم قادرين على الطاعة.. وقادرين على المعصية.. ولو أنه تبارك وتعالى.. أراد أن يخلقهم مقهورين على الطاعة؛ لفعل.. وهذا المعنى تجده في قول الحق تبارك وتعالى:
{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظللت أعناقهم لها خاضعين} الشعراء 3،4.
وهذه الآية خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. الذي كان يحز في نفسه.. أن هناك من يرفضون الايمان، وكان هذا الحزن والأسى.. لأنه كان يعرف ما ينتظرهم في الآخرة من عذاب مهين خالد باق...
ولذلك ـ ولأنه رحمة للعالمين ـ كان يريد أن ينقذهم من المصير الذي ينتظرهم.
الله سبحانه وتعالى يخبره هنا بأن هؤلاء وإن خرجوا عن مراد الله الشرعي الذي أراده لهم بالايمان به، واتباع منهجه، فانهم لم يخرجوا عن مراد الله الفعلي.. لأن الله سبحانه وتعالى.. أراد لهم أن يكونوا مختارين.. في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.. يطيعوا أو يعصوا.. فأعطاهم الاختيار في أن يفعلوا أو لا يفعلوا.. هذا الاختيار نابع عن إرادة الله سبحانه وتعالى.. ولولا تلك الارادة ما كان هؤلاء مختارين في أن يطيعوا أو يعصوا.. إذن فلا شيء في الكون يخرج عن إرادة الله سبحانه وتعالى.
وصف الشيطان
إننا قبل أن نمضي.. لا بد أن نبين الفرق بين وصف الشيطان.. وبين الشيطان نفسه.. الشيطان كوصف عام معناه كل من يبعد الناس عن طاعة الله وعن منطق الحق، وكل من يغري بالمعصية، ويحاول أن يدفع الانسان الى الشر.. كل واحد من هؤلاء هو شيطان.
ويجب أن نعلم أن هناك شياطين من الجن.. وشياطين من الانس.. يجمعهم وصف واحد، كما يجمعهم الاتحاد في المتعة التي هي نشر المعصية والافساد في الأرض.. شياطين الجن هم العصاة من الجن الذين يصدون عن الحق ويدعون الى الكفر، وشياطين الانس يقومون بنفس المهمة..
إذن فاللفظ هنا وصف لمهمة معينة.. وليس إشارة الى شخص بإسمه، فكل من دعا الى الكفر والشرك والعصيان هو شيطان..
أما إبليس فهو ـ شيطان ـ من الجن.. وكانت له منزلة عالية.. حتى قيل إنه كان يعيش مع الملائكة.. إبليس هذا هو خلق من خلق الله، ولكنه يختلف عن الملائكة في أنه خلق محتارا.. وهو لا يستطيع أن يتمرد على (أمر ) الله وإن أعطي حق الاختيار، وإنما يستطيع بما له من إختيار.. أن يتمرد على ( الطاعة) لهذا كان خروج إبليس عن طاعة الله.. ليس تمردا على أمر الله.. ولكنه عدم طاعة الله بمشيئة الله سبحانه وتعالى التي شاءت أن يخلقه مختارا.. قادرا على الطاعة..وقادرا على المعصية.
هذه المشيئة هي التي نفذ منها إبليس.. وينفذ منها كل عاص بعدم طاعة الله.. وهذه نقطة لا بد أن نفهمها.. قبل أن نمضي في الحديث عن الانس والشيطان.. فلا شيء في كون الله سبحانه وتعالى.. يتمرد على أمر الله، ولكن الله خلق خلقا مقهورين على الطاعة (هم الملائكة)، وخلقا مختارين في أين يطيعوا ويعصوا (الإنس والجن) ومن خلال هذه الارادة. إرادة الله سبحانه وتعالى في أن يخلق خلقا قادرين على الطاعة، وعلى المعصية.. جاءت المعصية على الأرض.
على أن هناك حديثا طويلا عن معصية إبليس.. بعضهم يقول كيف يحاسب إبليس لأنه رفض أن يسجد لغير الله؟.. والله أمر إبليس أن يسجد لآدم.. وإبليس رفض أن يسجد لغير الله!!.
الذين يشيعون هذا الكلام، من الملحدين وغيرهم. نقول لهم: إنكم لم تفهموا معنى العبادة.. فالعبادة هي إطاعة المخلوق لأوامر خالقه.. ومن هنا فإننا عندما يقول الله سبحانه وتعالى لنا أن نصلي خمس مرات في اليوم.. فالصلاة هنا تكون عبادة وطاعة لله.. وكذلك كل ما أمر الله به.. عبادة الله هي طاعته.. وعصيان أمر الله هو معصيته.
ونحن لا نناقش الأمر مع الله سبحانه وتعالى.. وإنما نطيعه. فلا نقول مثلا لماذا نصلي خمس ركعات.. ولا نصلي أربعا أو ثلاثا أو اثنتين.. لا نرد أبد الأمر على الله.. ولكننا نطيع حتى ولو لم نعرف الحكمة. حتى ولو لم ندرك السبب.. لأن العلة في العبادة هي أنها من الآمر.. أي من الله سبحانه وتعالى.
مهمتنا أن نستوثق أن الأمر من الله.. وما دام الأمر من الله.. فالعلة في تنفيذ الأمر.. أو السبب في تنفيذه أن الله هو الذي قال.. أما غير ذلك فليس موضوعا للمناقشة.
ومهمة العقل البشري هي الاستدلال على أن لهذا الكون الها خلقه وأوجده.. وأن هذا الاله هو الذي خلقنا.. وخلق نظاما غاية في الدقة والابداع.. وكونا غاية في الاعجاز لا يمكن أن يوجد الا بخالق عظيم..
فإذا وصلنا الى هذه النقطة يكون هذا بداية الايمان.. ولكن عقولنا القاصرة.. وقد وصلت الى هذا الحد.. لا يمكن أن تتجاوزه.. وهي لا يمكن أن تعلم مثلا.. من هو هذا الخالق العظيم؟ وما اسمه؟ وماذا يريد منا؟ ولماذا خلقنا؟
وهنا يأتي دور الرسل ليكتمل كل شيء.. يرسل الله سبحانه وتعالى رسولا.. مؤيدا بمعجزة من السماء.. تخرق قوانين الكون، التي تفوق قدرات الانسان ملايين المرات.. كالشمس مثلا والبحار والنجوم وغير ذلك.. كل هذه القوى مسخرة لخدمة الانسان.
الشمس تشرق كل صباح لا تستطيع أن تعصي.. ولا أن تقول لن أشرق اليوم.. والبحار يتبخر منها الماء الذي ينزل منه المطر.. فلا هي عصت يوما.. وقالت إن مياهي لن تتبخر.. ولا هي تستطيع أن تمنع تبخر مياهها.. ليمتنع المطر عن الأرض.
إذن مهمة الرسل.. هي إخبارنا بأن الله خلق كل هذا الوجود وسخره لنا.. وأنه يريد منا أن نعبده.. ونفعل كذا وكذا..
أي أنهم يحملون إلينا منهج عبادة الله.. والله سبحانه وتعالى يؤيدهم بمعجزات.. نعلم جميعا أنها فوق قدرات البشر.. كل البشر.. حتى نتأكد من أنهم فعلا رسل الله. وحتى لا يأتي مدع أو شيطان
ان يدعي الرسالة ليضل الناس.
فإذا عرفنا ما يريده الحق جل جلاله منا، فإن علينا السمع والطاعة.. والسمع والطاعة هما سببهما أن الأمر صادر من الله جل جلاله.. فهو بعلمه يعلم ونحن لا نعلم.. وبحكمته يعرف صلاح كونه، ونحن بحمقنا قد نفعل الشر ونظن أنه خير.
الله سبحانه بكل صفات كماله.. واجب العبادة.. والانسان إذا ناقش.. فإن من البديهي أن يناقش مساويا له في علمه.. فالطبيب يناقش طبيبا.. والمهندس يناقش مهندسا.. ولكن الطبيب لا يناقش في الطب نجارا مثلا أو سبّاكا.. فإذا كان النقاش ـلكي يكون مجدياـ يجب أن يتم بين متساويين، فمن منا يساوي الله جل جلاله في علمه أو في قدرته... أو في أي علم من العلوم حتى نناقشه فيما أمر أو نهى؟! واقرأ قول الله عز وجل في كتابه الكريم:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب36.
واقرأ قول الحق سبحانه:
{آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفراتك ربنا واليك المصير} البقرة 285.
بداية المعصية
إذن فعبادة الله هي طاعة أوامره.. ومخالفة أوامر الله تعالى هي المعصية وهي الفسوق.. وهي الطريق الى الكفر والعياذ بالله.. ومن هنا فإن العبادة هي إطاعة المخلوق لأوامر خالقه. وإبليس عصى أمر الله.. فلا تكون تلك عبادة.. ولكنها معصية وكفر.
ويروي لنا الله سبحانه وتعالى.. في القرآن الكريم بداية معصية إبليس.. فيقول جل جلاله:
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} البقرة 34.
وكانت هذه هي بداية المعصية.. بداية كفر إبليس. إنه وفض إطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى.. ولم يسجد لآدم.. إنه لم يرفض السجود لغير الله.. ولكنه رفض السجود لأمر الله.. وهذا هو الفرق.. لأن رفض إطاعة أمر الله معصية وكفر.
إن البعض يثير.. أن الأمر هنا صدر للملائكة.. ولم يصدر لإبليس.. فكيف يحاسب الله تبارك وتعالى إبليس على أمر لم يصدر اليه؟
نقول إنه وإن كان إبليس من الجن.. إلا أنه رفض الأمر.. وفي ذلك يخبرنا الحق سبحانه وتعالى في قوله:
{فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف 50.
وفي قوله تبارك وتعالى موجها حديثه الى إبليس:
{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} الأعراف 12.
وقوله سبحانه:
{ قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين} ص 75.
وهكذا نرى بنص القرآن الكريم.. أن الأمر قد صدر الى إبليس بالسجود، وأن الأمر قد شمله، وذلك حتى لا يقال: كيف يحاسب الله إبليس على أمر لم يشمله؟!.
حقيقة إبليس
نأتي بعد ذلك لنكمل الحديث ـ عن من هو إبليس ـ إن إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة.. لأن الملائكة لا يعصون الله. ولأن الجن لهم اختيار كالانسان تماما.
إن بعض العلماء.. يقسمون الأجناس المختارة الى ثلاثة أقسام: الشياطين، والجن والانس.. ونقول لهم: إن هذا التقسيم غير صحيح.. لأن الجنسين المختارين من خلق الله.. هما الانس والجن.. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
{سنفرغ لكم أيه الثقلان} الرحمن 31.
وفي سورة الجن نقرأ قول الحق سبحانه:
{ وأنّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} الجن 14ـ15.
وهكذا نرى أن الجن منه من هو صالح، ومن هو فاسق.. وأن فسقة الجن هم الشياطين.. أما ما يقال عن أن هناك جنسا ثالثا أو رابعا مما أخبرنا الله عنه.. فنقول لهم:
لا.. ليس هناك الا الانس والجن مختارين.. وكما أخبرنا الله سبحانه وتعالى..
إذن إبليس من الجن.. عصى الله سبحانه وتعالى في أمر السجود لآدم.. وفي ذلك نقرأ قول الحق جل جلاله:
{ فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف 50.
وهكذا كانت معصية إبليس.. برفضه أمر الله سبحانه وتعالى في السجود لآدم. ولكن هذا الرفض من إبليس مجرد سهو أو خطأ ندم عليه؟.. أم كان رفضه استكبارا بالغرور الذي دخل نفسه؟.. والكبر الذي ملأ صدره؟.
لقد كانت معصية إبليس غرورا وكبرا وإصرارا على المعصية.. فهو ـ لكبره وغروره ـ رد الأمر على الآمر.. وهو الله سبحانه وتعالى.. كما يروي لنا القرآن الكريم:
{أءسجد لمن خلقت طينا} الاسراء 61.
وقال كما يحكي القرآن:
{ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} الأعراف 12.
فكأن إبليس رد الأمر على الله سبحانه وتعالى بقوله: كيف تريدني أن أسجدلإنسان مخلوق من طين. وأنا مخلوق من نار إنه يريد أن يبرر معصيته وفسوقه بأن النار عنصر أرقى من الطين.. لأن فيها شفافية.. والمخلوق من نار يمتاز عن المخلوق من الطين بأشياء كثيرة.. إنه يمتاز عليه بسرعة الحركة وخفتها، ويمتاز عليه أيضا بأنه يستطيع أن يصعد الى مسافات عالية.. وأنه يخترق الجدران.. ويدخل الأماكن المغلقة.. التي لا يستطيع أن يدخلها الانسان.
لا فضل لعنصر على آخر
إبليس أخذ من هذه العناصر ـبكفره وغروره ـ حجة أنه هو الأعلى.. هكذا صور له غروره.. فاعتقد أنه هو الأفضل، ونسي أن هذه الميزات كلها لم يحصل عليها بذاته ولا بنفسه بل الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع هذه الميزات في المادة التي خلق منها الجن، ولولا أن الحق سبحانه وتعالى أوجد هذه الميزات في المخلوق من النار.. ما كانت قد وجدت.
إن فالفضل في ذلك ليس للعنصر الذي خلق منه إبليس، ولكن الفضل للذي أوجد هذه المواصفات في عنصر النار.. وأن الله تبارك وتعالى.. إن شاء سلب النار كل هذه العناصر.. فيصبح إبليس أحط خلق الله.
وكانت هذه أولى درجات الكفر والغرور والكبرياء من إبليس. أنه نسب الفضل لذاته.. بأنه مخلوق من عنصر أعلى من الطين.. وهو النار.. تماما كما فعل قارون حين قال كما يروي القرآن الكريم:
{إنما أوتيته على علم عندي} القصص 78.
فكان جزاؤه أن خسف الله به وبداره الأرض.
وتمادى إبليس في معصيته كما يروي لنا القرآن الكريم:
{قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم} الأعراف 16.
وهنا لنا وقفة ثانية ـ في قول إبليس كما روى لنا القرآن الكريم ـ {فبما أغويتني} فكان الغواية حدثت من الله سبحانه وتعالى.. فكيف يحاسب إبليس مع أن الله جل جلاله هو الذي أغواه؟.
نقول: إن أبليس استحق الغواية لما كسبت يداه، ولقد دخل الكبر الى نفسه.. واعتقد أنه قد أخذ كل ما أخذه.. سواء من عناصر تكوينية أو على علم من ذاته، فتركه الله سبحانه وتعالى لغروره.. فغوى. فكأن البداية كانت من الشيطان.. فاستحق أن يتركه الله لنفسه ولغروره.. فوقع في الكفر.. ذلك أن الحق جل جلاله يقول لنا في القرآن الكريم:
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} المائدة 108.
وقوله تعالى:
{ إن الله لا يهدي القوم الكافرين} المائدة 67.
وإبليس فسق وكفر.. فسق بأنه عصى أمر الله في السجود، والفسوق معناه البعد عن المنهج.. يقال فسقت الرطبة عندما يصبح البلح رطبا.. البلح وهو أحمر تلتصق قشرته بالثمرة.. فلا تستطيع أن تنزعها.. فإذا أصبح رطبا ابتعدت القشرة عن الثمرة.. وأصبح من السهل نزعها.. وهنا يقال فسقت الرطبة أي انقطعت قشرتها عن قمرنها.. والفسوق ابتعاد عن المنهج. والله سبحانه وتعالى أبلغنا أن إبليس فسق وكفر.. في قوله جل جلاله:{ إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}.
والله تبارك وتعالى ترك إبليس لنفسه.. فغوى وسقط في المعصية والكفر..ذلك أن الله لا يظلم أحدا.. ولكن الظلم يأتي من النفس. وعندما يظلم المخلوق نفسه.. ويتخذ طريق الكفر.. فإن الله يتركه للطريق الذي اختاره.. فما دام قد اختار الكفر.. فالله غني عنه.. لأن الله غني عن خلقه جميعا.
ما بعد الغواية
عندما سقط إبليس في الغواية.. وعرف أنه بكفره قد طرد من رحمة الله.. وأصبح محكوما عليه بالعذاب الأبدي.. طلب من الله أن يمهله الى يوم القيامة.. وألا يقبض روحه إلا ساعة أن ينفخ في الصور.. وقال كما يروي لنا القرآن الكريم:
{ قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون} ص 79.
ويلاحظ هنا أن إبليس استخدم كلمة ربي.. ولم يقل الهي.. لأنه خاطب الله سبحانه وتعالى بأنه رب العالمين.. أي رب كل من خلق.. المؤمن منهم والكافر..
إن الله سبحانه وتعالى له عطاءان: عطاء ربوبية في أنه رب للجميع.. هو الذي خلقهم واستدعاهم للوجود.. ولذلك فإنه يعطي عطاء ربوبيته للمؤمن به والكافر والعياذ بالله.. وهذا عطاء في الدنيا فقط.. يرزق المؤمن ويرزق الكافر.. ويد الله الممدودة بالأسباب أعطته الأسباب.. فالذي يحسن زراعة الأرض بأحسن الوسائل، تعطيه محصولا وفيرا، سواء كان مؤمنا أو كافرا.. والذي يأخذ بأسباب التقدم؛ ويدرس ويبحث.. تعطيه الأسباب في التقدم الذي عمل من أجله.. هذا في الدنيا فقط.
أما عطاء الالوهية .. فهو لمن آمن بالله سبحانه وتعالى هو واحد أحد لا شريك له.. هذا هو عطاء الالوهية الذي يعطيه الله تبارك وتعالى للمؤمنين به في الآخرة.. حيث تنتهي دنيا الأسباب.. ويصبح كل شيء م المسبب مباشرة.. من الله لعباده المؤمنين.. بمجرد أن يخطر الشيء على بالهم يجدونه أمامهم.. بلا أسباب وبلا عمل.
إن الشيطان.. هو كل من يدعو الى البعد عن عبادة الله.. والبعد عن منطق الحق.. ويحضص على المعصية مهما كان جنسه.. إن إبليس خلق من خلق الله.. تمرد على منهج الله.. بما أعطاه الله من حرية الاختيار في أن يطيع أو يعضي، وفي أنه رد الأمر على الآمر وهو الله سبحانه وتعالى.. فكفر بذلك العصيان، ثم تمادى في الكفر.. وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يبقيه حتى تقوم الساعة.
ولكن لماذا طلب إبليس هذا الطلب؟ وما الذي كان يجور في عقله بالنسبة للإنسان؟
الفصل الثاني : معصية الشيطان
معصية إبليس
قبل أن أذكر قصة عداء إبليس لآدم وذريته.. وكيف يوسوس لهم ويغريهم بالسوء.. لا بد لنا من وقفة عند معصية إبليس.. تلك المعصية التي استحق عليها لعنة الله الى يوم القيامة.
إبليس عندما رفض طاعة أمر الله بالسجود لآدم .. لم يحاول التوبة أو الرجع الى الحق.. لم يقل يا رب إن قولك حق.. وأمرك حق.. ولكني يا رب لم أقدر على نفسي فسامحني.. لم يفق لنفسه ويخرّ ساجدا.. بل إن الكبر كان قد ملأه.. فمضى في المعصية. يقول الحق سبحانه كما يروي لنا القرآن الكريم:
{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} الأعراف 12.
وهكذا رد الأمر على الله سبحانه وتعالى.. وكأن الله جل جلاله قد غاب عنه أنه خلق الجان من نار، وخلق الانسان من طين.. وكان هذا كافيا لطرد إبليس من رحمة الله.. وطرده من المكان الذي كان يعغيش فيه مع الملائكة.. وهنا قال الحق سبحانه وتعالى:
{ قال فاهبط منها ما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج فإنك من الصاغرين} الأعراف13.
وقول الحق سبحانه {فاهبط منها} معناها أن إبليس.. كان في مكان عال قبل المعصية.. فلا يكون الهبوط الا من مكان عال الى مكان منخفض..
بعض الناس يأخذ الهبوط على أساس أنه يعني المسافة.. ولكن الهبوط قد يكون معنويا.. فلانسان مثلا.. إذا كان رئيسا أو حاكما.. ثم أقصي عن مكانه.. فقد هبطت منزلته..رغم أنه ما زال يعيش في البيت الذي عاش فيه.. أي أنه لم يهبط من أعلى الى أسفل من ناحية المسافة، ولكن مكانه هبط.. وبعد أن كان مقامه عاليا.. أصبح لا يساوي شيئا ولا قيمة له..
ويمكن أن يكون الهبوط من ناحية القيمة. أي أنك تؤمن أن إنسانا ما ذو قيمة عالية.. تراه يحترم نفسه.. لا يقل إلا الحق.. مهاب الجانب.. وفجأة يرتكب عملا شائنا. يجعله يسقط في نظرك.. فلا تحترمه ولا تقيم له وزنا.
إذن الهبوط ليس بالضرورة.. هبوطا ماديا في المسافة.. ولكنه قد يكون هبوطا في القيمة، في المكانة، ولذلك فإن إبليس ليس من الضروري أنه كان يعيش في الجنة وهبط منها كما يقول بعض المفسرين.. أو أنه كان يعيش في مكان عال من السماء.. بل من الممكن أن يكون نزولا معنويا.. بحيث أصبح لا يساوي شيئا.
الكبرياء لله وحده
الله سبحانه وتعالى حين قال له:{فاهبط منها..} أعطانا سبب هذا الهبوط في قوله تعالى:{ فما يكون لك أن تتكبر فيها..} أي أن السبب هو أن إبليس قد ملأه الكبر والغرور.. والله سبحانه وتعالى لا يحب المتكبرين.. وكل من أخذه الكبر.. ويعتقد أنه بذاته ونفسه يستطيع أن يحقق شيئا بعيدا عن قدرة الله سبحانه وتعالى. يناله غضب شديد من الله.. لماذا؟
لأن الفعل في هذا الكون كله لله جل جلاله.. فلا أحد يملك قدرات الفعل الا الله.. فلكل فعل ظرف زمان، وظرف مكان لا بد أن يقع فيهما.. وأنت لا تملك الزمان ولا المكان، فلا أحد يملك القدرة ليبقي حياته ولو دقيقة واحدة.. ولا أحد يملك القوة ليتحرك من مكان الى آخر.. إلا بإذن الله وأمره,, وقد ياتيه الأجل قبل أن يتحرك.. وقد ياتيه المرض ليشل قدرته عن الحركة.. فكيف يتكبر الانسان.. أو أي مخلوق من مخلوقات الله وهو لا حول له ولا قوة الا بأمر الله؟!.
الله سبحانه وتعالى طرد إبليس من المكان أو المقام الذي كان فيه.. لأنه تكبر واغتر.. واعتقد أنه يملك القوة الذاتية والقدرة الذاتية.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{ فاخرج إنك من الصاغرين..} أي أنه إذ كان لك كبر أو قوة أو ذاتية.. فابق في مكانك.. ولكنك ستخرج وأنت صاغر.. ستخرج رغما عن أنفك.. لا تستطيع المكابرة.. ولا يمكنك أن تدعي أن لك قوة تحميك.. أو تجعلك تستطيع أن تخالف أمر الله، بل ستخرج ذليلا صاغرا مهينا.
عندما أدرك إبليس أن الكبر الذي ملأ نفسه هو كبر زائف.. وأنه في الحقيقة لا يساوي شيئا في ذاته.. امتلأ قلبه بالحقد على آدم.. لأنه اعتقد أنه السبب في كل ما حدث له.. في طرده وفي هبوطه الى أسفل السافلين.. وفي غضب الله سبحانه وتعالى عليه.. والحقد الذي ملأ قلب إبليس دفعه الى محاولة الانتقام من آدم وذريته.. فكما قاه عدم إطاعة أمر الله بالسجود لآدم الى النار.. ثأرا منهم لما حدث له.. وكما طرد إبليس من رحمة الله.. إنه يريد الانتقام من آدم.. لأنه كان السبب في كل ما حدث.. من لعن وطرد لإبليس وكل من تبعه، إنه لا يريد أن يدخل الى النار وحده! وإنما يريد أن يحشد فيها من يستطيع اغواءه من الناس. ولذلك عندما خرج إبليس.. صاغرا ذليلا.. من المقام الذي كان فيه.. توجه الى الحق سبحانه وتعالى كما يروي لنا القرآن الكريم:
{قال أنظرني الى يوم يبعثون} الأعراف 14.
هكذا عاد إبليس الى المذلة.. يطلب من الله سبحانه وتعالى... أن يبقيه حيا الى يوم القيامة.. وقد كان يملؤه الكبر. ولو أن كبره كان حقيقيا ولبيس زيفا.. ولو أنه كانت له أي قوة ذاتية.. لما طلب الى اله سبحانه وتعالى أن يبقيه الى يوم القيامة.. ولأبقى نفسه.. ولكن لأنه لاةحول له ولا قوة الا ما شاء له الله.. فإنه اتجه الى اله سبحانه وتعالى ليبقيه حبا الى يوم القيامة.
ولكن لماذا استجاب الله تبارك وتعالى لدعاء إبليس.. وكان من الممكن أن يهلكه في التو واللحظة؟. لماذا قال الله جل جلاله:
{قال فإنك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم} الحجر 37 ـ37.
لقد استجاب الله دعاءه ـوهو المطرود من رحمته ـ لأن حكمة خلق الدنيا.. لا تكتمل الى بهذا.. فاله سبحانه وتعالى.. خلق الدنيا كدار اختيار.. وجعل الآخرة دار الجزاء.. والله جل جلاله يريد أن يمر عبده باختبار في الحياة الدنيا.. أن يمتحن قبل أن يجازى.. أن يكون شهيدا على نفسه يوم القيامة فيما فعل.. زاقرأ قول الحق تبارك وتعالى:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}آل عمران 142.
وقوله جل جلاله:
{ ولبيتلي الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور} آل عمران 154.
ولو أراد الله سبحانه وتعالى خلقا مقهورين على الطاعة كالملائكة.. لاستطاع أن يخلقهم.. ولو أراد الحق سبحانه وتعالى.. أن يطيع أهل الأرض جميعا منهج الله.. وأن يكونوا جميعهم مسبحين وعابدين لاستطاع أن يفعل ذلك.. ولكن الله جل جلاله اختار أجناسا تأتيه عن قهر كالملائكة وغيرها من خلق الله.. واختار أجناسا تأتيه عن قهر كالملائكة وغيرها من خلق الله.. واختار الانس والجن دون غيرهم من الأجناس ليأتوه عن حب ورغبة.. يكونون قادرين على المعصية.. ولكنهم لا يفعلونها حبا لله، ويكونون قادرين على عدم الطاعة.. ولكنهم يطيعون قربا لله.. إنه سبحانه وتعالى يريد خلقا يأتيه عن حب.. في فترة اختبار محدودة بعمر كل إنسان.
إننا بعد حلول الأجل سنكون مقهورين لارادة الله سبحانه وتعالى.. ذلك أن الانسان وهو يحتضر تنتهي ارادته البشرية تماما.. ولا تصبح له إرادة حتى على جسده.. لأن الارادة كانت في الدنيا.. أما ساعة الموت.. وفي حياة البرزخ.. بين الموت والبعث.. ويوم القيامة، فلا توجد إرادة لأحد.. فالكافر يقاد الى النار.. ويحاول أن يوقف قدمه عن السير فلا تقف، ويحاول أن يدفع النار بيديه فلا تندفع، ويحاول أن يهرب من الوقوف أمام الله، ومن العذاب.. فلا يستطيع.. كل ما كان في الدنيا.. من حول وقوة؛ قد انتهى.