الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ."
يحل موسم الحج هذا العام، والمسلمون تشغلهم همومهم في دينهم وما نزل بهم من مآسٍ ونكبات ما زال بابها مفتوحاً. ويذهب ملايين المسلمين الى الحج حاملين معهم هذه الهموم ليشكوا بثهم وحزنهم إلى الله، ليقفوا أمام باب الملتزم حيث لا يرد الله دعوة عبد وقف ببابه واحتمى بجنابه، يذهب المسلمون ولا يغيب عن بالهم إجرام أميركا بحق المسلمين في أفغانستان والعراق وفي كل مكان، ولا إجرام اليهود في فلسطين الذي غطى بحقده على كل إجرام، ولا إجرام الروس بحق مسلمي الشيشان، ولا إجرام الهندوس، عبدة البقر، بحق مسلمي كشمير... يذهب المسلمون ليشكوا إلى ربهم حكامهم الذين يشايعون أعداء المسلمين عليهم والذين يظاهرون الغرب واليهود والروس والهندوس في محاربة من يدعون إلى الإسلام ,والذين خذلوهم وجرعوهم غصص الظلم والذل وجعلوهم أدنى الأمم .
وفي هذه الايام المباركة تكثر وسائل الإعلام وخصوصا الفضائيات من استضافة العلماء والخطباء والوعاظ ، ويكثرون من الحديث عن الحج ومناسكه وشعائره والصفات الواجب توفرها فيمن سُمح له بالحج، ويتكلمون في كل أمر من شأنه أن يمكن الحاج من أداء حجه على الوجه الأكمل، ولا عجب، فهو مُقْدِم على عمل جليل وشعيرة مباركة إن وفقه الله لأدائها فهو على خير عظيم. فنجدهم يسمونه موسم الطاعات، ويحضون الحاج على الإخلاص فيه، ويحذرونه من الرياء، وأن يستحضر النية، وأن يجاهد نفسه، وألا يكون من أولئك الذين خرجوا إلى الحج رياء وسمعة، حتى يقال لأحدهم: إنه حجّ بيت الله الحرام، وأن ذلك رياءً، والرياء محبط للعمل. ويشدد العلماء والخطباء والوعاظ والمدرسون بأن أيام الحج هي أيام تلبية ودعاء فليغتنمها الحاج، خصوصاً يوم عرفة.
الا ان الأمر الأهم الذي تغفله وسائل الاعلام وتتعامي عنه عن سبق اصرار وترصد ,ويغفله علماء وخطباء ووعاظ هذه الفضائيات – إلا من رحم الله - هو تبصيرهم بأحوالهم وأحوال المسلمين، وعقد مقارنة ولو بسيطة بين حجاج اليوم وحجاج الأمس.
تلكم التبصرة وهذه المقارنة تستوجب بيان الأمور التالية:
1. إن الذي حج بالناس أول مرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً ليعلمهم المناسك، وليرعاهم بصفته رئيساً لدولة الإسلام الأولى، في إشارة واضحة إلى وجوب وجود أمير للمسلمين يحج بهم كل عام، أو ينيب عنه أميراً للحج يتولى هذه الولاية العظيمة. وكذا فعل الخلفاء من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما كان للناس جماعة وإمام. وأما اليوم فلا جماعة للمسلمين ولا إمام.
2. كانت خطبة حجة الوداع بياناً سياسياً شاملاً لكافة القضاية المهمة، مما يدل على أن خطبة عرفة ينبغي أن تتناول أهم القضايا التي تواجه المسلمين في كل عام، فكيف بالله عليكم ترون خطبة عرفة منذ أن ولي السفهاء أمر المسلمين؟
3. لم نسمع ولم نقرأ في كتب التاريخ المعتمدة أو غير المعتمدة عن نفر من المسلمين أرادوا الحج فمُنعوه، وإن أُعطوه عجزوا عن تكاليفه ورسومه, ولم نسمع أو نقرأ في تاريخنا عن تخصيص عدد معين من الحجاج لكل مجموعة من الناس يعيشون في قطر من الأقطار، واستثناء آخرين من ذلك النظام القاصر المبتدع. لأن تجمع المسلمين في حجهم، في مكان واحد، أصبح يقض مضاجع الكفار وعملائهم ووسائل اعلامهم، يخشون هذا التجمع في شكله كما يخشونه في مضمونه. لذلك عمدوا إلى كل وسيلة في جعبتهم لوضع العراقيل أمام من أراد الحج، فحددوا نسبته، وتحكموا في أعمار طالبي الحج حتى صار، في كثير من بلاد المسلمين، لا يسمح بالحج إلا لمن بلغ من العمر عتياً، وهم لا زالوا يبحثون عن معوقات للحج ما وسعهم إلى ذلك سبيلا.
4. كان الحاج يسير من بلاده ولو كانت بالفج العميق إلى البيت العتيق يتنقل بحرية تامة، لا يوقفه أحد ليسأله عن جواز سفره، أو يفتش أمتعته، أو يخضعه للاستجواب الطويل إذا قال كلمة تفيد من قريب أو بعيد أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر. كان يمر من القرى عزيزاً مكرماً، آمناً على نفسه ومتاعه، يلقى على طول الطريق تكايا وخانات تطعمه إذا جاع، وتؤويه إذا نزل، وتؤمنه إذا خاف، يستريح فيها من عناء السفر وطول المسير، فكانت استراحات حقيقية غير مزيفة، لا تشبه استراحات اليوم على نقاط الحدود إلا في الإسم والرسم، وما هي إلا مراكز إذلال تكرس التجزئة المقيتة بين بلاد المسلمين، وتذر قوافل الحجيج كمّاً مهملاً عند نقاط قطع الطريق، يتحكم فيهم موظفو تلك المراكز الجائرة كيف يشاؤون.
5. كان المسلمون في أزمنة العز والسؤدد يعظمون حرمة الدماء والأموال والأعراض أكثر مما يعظمون حجارة الكعبة وكسوتها وسدانة البيت وسقاية الحاج، مع أنهم يعظمونها أيضاً، ولكنهم اليوم قلبوا الموازين، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. فدماء المسلمين تسيل أنهاراً في العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان وتايلند وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين، ولا يأبه أحد بها، ولا يذكرونها إلا لماماً، وأما حجارة الكعبة فمعظمة، وكسوتها فخمة، وفناؤها أبيض نظيف، غير أن قلوب حكامها سوداء، وبطونهم جرباء، وعقولهم خربة، أن حكموا بغير ما أنزل الله، ووالوا أعداء الله، وعادوا أولياءه.
6. كان الحجيج يسيرون في بلاد المسلمين تحت راية العقاب ليس لكافر سلطان عليهم، يحملون تابعية واحدة مهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم، وأما اليوم فما من حاج إلا ويخضع لنوع من أنواع السلطان الكافر من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، تظله رايات سايكس بيكو الكافرة، ويحمل وثيقة سفر صادرة من جهات معادية للإسلام والمسلمين، يُلزم بتعريف نفسه بها، والتجمع في المشاعر على أساسها، فهؤلاء حجاج فلسطينيون، وآخرون مغربيون، وأولئك حجاج أردنيون، وسوريون ومصريون وعراقيون وأندونيسيون وصينيون وما شاكل ذلك من قوميات ووطنيات... إن هي إلا أسماء سماها الحكام وأسيادهم ما أنزل الله بها من سلطان.
7. كانت إدارة الحج ولاية من ولايات الحكم والسلطان، وكان القائمون عليها موظفي دولة، واليوم أصبح القائمون عليها من القطاع الخاص، وصار الحج تجارة يستأثر بربحها المقربون من سلاطين الجور والمقاولون، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك.
فلماذا تصر وسائل الاعلام على قلب الموازين في هذه الايام المباركة ؟! و لماذا لا تكون هذه المسائل المصيرية والقضايا الجوهرية هي محل اهتمام وسائل الإعلام والعلماء والخطباء والوعاظ ، حتى يكون الناس ومنهم الحجاج على بينة من أمرهم، ولا يكون أمرهم عليهم غمة، فيهبوا إلى العمل لإنهاض أمتهم من كبوتها، ويكون موسم الحج بحق مؤتمراً عاماً مفيداً للمسلمين، تعالج فيه القضايا المهمة إضافة إلى أداء المناسك؟
إن الحج من شعائر الله التي تجمع المسلمين كلهم على صعيد واحد، وتتجلى فيه وحدة المسلمين بكثير من المظاهر: وحدة في الشعائر، ووحدة في المشاعر، ووحدة في الهدف، ووحدة في الحال، فلا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، فالرب واحد، والدين واحد، والقبلة واحدة والأمة واحدة مهما حاول الاعلام أن يغرس بينها من عوامل التجزئة لتفريقها، ومهما ُنصب عليها من حكام ظلمة لا يرعون فيها إلاً ولا ذمة.