لا يكاد يوجد تحدٍّ يواجه اليمن، ويُلقي بظلاله المخيفة على حاضرها ومستقبلها، يُماثل التحدي الذي يفرضه شُحّ موارد المياه واستنزاف المخزون المائي للبلاد. وبالتأكيد فإن مُشكلة المياه التي تعانيها اليمن تظل الأخطر بما لا يقاس بأي مشكلات أخرى تواجهها، إذ أن لها أبعاداً وجودية كثيرة متداخلة وفائقة التعقيد كما العواقب والتّبِعات. فهناك بُعد قِلّة المياه قياساً بعدد السكان المتزايد والاحتياجات المتواترة لهذه السلعة الحيوية المرتبطة بكل مناحي حياتهم، وهناك بُعد القدرة على الوصول بشكل مستدام إلى مياه شرب نظيفة، وهناك بُعد متعلق بمعضلة تلوث المياه والتحديات الناجمة عنها.
إننا بالطبع لا نحتاج إلى التذكير بأهمية الموارد المائية للإنسان وللحياة برمتها، فهذا من بديهيات الأمور وطبائع الوجود، لكن ما نحتاج إليه حتماً وباستمرار هو دقّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى العواقب الوخيمة الناجمة عن تجاهل مظاهر مشكلة فقدان الأمن المائي، لاسيما في بلدٍ يُصنّف ضمن أربع دول تواجه خطر الفقر المائي على المستوى العالمي ويُعدّ من بين الدول العشر الأفقر مائياً في العالم، إذ لا يتعدى نصيب الفرد، بحسب منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، 150 متراً مكعباً في السنة، بينما يحصل مثيله في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على 1250 متراً مكعباً سنوياً، وبالمتوسط العام الدولي 7500 متر مكعب. وإذا استمر تناقص نصيب الفرد من المياه بالوتيرة الحالية في ظل تنامي مضطرد لعدد السكان (يبلغ معدله السنوي 3.5%)، وذلك بالتوازي مع زيادة غير متكافئة في تنمية الموارد المائية، فإن الأمور ستسير نحو الأسوأ لا محالة.
لقد عمل اليمنيون منذ القِدم على ابتكار وسائل مختلفة تساعدهم على التكيّف مع شحّ الموارد المائية في هذه الأرجاء، ولذا ابتكروا نظام المدرجات الزراعية على سفوح الجبال ودأبوا في الحفاظ عليها من أجل استغلال مياه الأمطار بالشكل الأمثل، كما قاموا أيضاً ببناء السدود وحفر القنوات الخاصة لسحب مياه الفيضانات والسيول. لكن هذه الإستراتيجيات القديمة لإدارة المياه أصابها التصدّع في هذا العصر بسبب الزيادة غير المنضبطة في عدد السكان، ولم تعد مصادر المياه المتجددة تلبي حاجة اليمنيين السنوية من الماء، والتي زادت من 2.9 مليار متر مكعب في مطلع تسعينيات القرن العشرين لتصل إلى 3.4 مليار متر مكعب في الوقت الراهن. فضلاً عن أن التوزيع الديمغرافي للسكان لا يتوافق مع توزع مصادر المياه، حيث يتمحور التركيز الاقتصادي والأنشطة التجارية والكثافة السكانية في مناطق تفتقر إلى تلبية الاحتياجات المائية والمنزلية لسكانها، ناهيك عن متطلبات الزراعة والرعي والأنشطة الأخرى.
وعلى الرغم من سعي الحكومة اليمنية إلى القيام بواجبها تجاه مواطنيها في توفير المياه، لكنها حتى اللحظة لم تستطِع تغطية احتياجات السكان في المدن سوى بنسبة ما بين 56% إلى 60% ونسبة تصل ما بين 40% و45% من احتياجات السكان في الأرياف. وهذا لا يعني أن نسبة 40% من سكان المدن لا يحصلون على المياه، ولكن لا يحصلون عليها عبر المشاريع الحكومية وإنما عبر مشاريع للقطاع الخاص.
وتزداد قضية الأمن المائي تعقيداً في ظل تفاقم مشكلة تلوث المياه في معظم أرجاء البلاد. ويعد سوء الصرف الصحي، وعدم توفر محطات معالجة المياه العادِمة، وكثرة استعمال المبيدات والأسمدة ومخلفات المعامل والمصانع من أهم أسباب تلوث المياه في اليمن. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة عام 2008 تحت عنوان "مياه الشرب والصرف الصحي"، فإن 34% من السكان يحصلون على مياه شرب غير مُحسّنة (آبار وينابيع غير محميّة وعربات محمّلة بخزانات صغيرة وحاويات متنقلة ومياه سطحية).
وبالنظر إلى كون اليمن بلد زراعي وريفي تاريخياً، فإن مشكلة ندرة المياه فضلاً عن تلوث نسبة لا يستهان بها من الكمية المتوفرة منها، أخذت تُلقي بظلالٍ ثقيلة على مستقبل الزراعة في البلاد. فوفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، تقدر مساحة الأرض التي يمكن زراعتها في اليمن بحوالي 3.6 مليون هكتار أي حوالي 6.5% من مساحة البلاد، إلا أنه وبسبب النقص الحاد في المياه فإن إجمالي المساحة المزروعة لا تتجاوز 1.6 مليون هكتار أي حوالي 2.9% فقط من المساحة الإجمالية لليمن. ومن المعروف أن الزراعة ظلت تؤمن للأسرة اليمنية الاستقرار والأمن الغذائي، لكن النزوح المستمر وحركة الهجرة من الأرياف إلى المدن ومن أهم أسبابها ندرة المياه وشحتها، أجبرت العديد من سكان الريف على ترك النشاط الزراعي والتوجه إلى ممارسة أنشطة اقتصادية أخرى بديلة.
وفي ذات الإطار، يبرز انتشار القات وزراعته كمشكلة وطنية كبرى تساهم بقوة في استدامة حالة الفاقة المائية التي تعاني منها اليمن وتجذّرها. فالقات، وهو من الزراعات المروية من المياه الجوفية والذي يزرع 85% منه في محافظات صنعاء وعمران وذمار وإب وحجة، يستحوذ على ما يقرب من 30% من كمية المياه المستخدمة في الزراعة على مستوى البلاد. وقد ارتفع الطلب على القات في العقود الثلاثة الأخيرة بسبب الارتفاع النسبي للدخول والتوسّع في حفر الآبار الجوفية؛ وتبعاً لذلك توسعت المساحة المزروعة بأشجار القات عاماً بعد آخر وهي تنمو حالياً بين 10% و15% سنوياً، وطبقاً لبعض المصادر، فإن عدد أشجار القات في اليمن يصل إلى حوالي 260 مليون شجرة تقطف في السنة الواحدة بين 3 و4 مرات مع ما يستهلكه هذا من كميات مياه مُعتبَرة في كل مرة.
والمؤسف حقاً أن الحكومات المتعاقبة، وباعتراف كبار مسئوليها، ساهمت في تقديم معونات لاستغلال المياه لزراعة القات عن طريق بيع وقود الديزل بأسعار منخفضة، وبتكلفة سنوية تقدر بـ 3.5 مليار دولار أو بنسبة 14% من إجمالي الناتج المحلي، والذي بدوره أثر في نضوب المياه في أراضيها الجوفية، وكانت النتيجة مدمرة في صنعاء وما حولها. فقد كان المزارعون قبل أربعة عقود يستخدمون المعاول لحفر آبار المياه، لكنهم الآن يستخدمون الحفارات لتحفر أكثر من ألف قدم في باطن الأرض قبل أن تصل إلى المياه الصالحة للشرب دون معالجة ارتفاع الطلب. فضلاً عن أن الحكومة، كما أعترف وزير المياه والبيئة في أحاديث صحفية مؤخراً، لا يمكنها تطبيق قوانين استخراج المياه والري على كبار المستهلكين، مثل زعماء القبائل والمشايخ وضباط الجيش والأثرياء حتى إن حاولت، مؤكداً أن 99% من عمليات استخراج المياه تتم من دون ترخيص.
باختصار، فإن اليمن تعاني من انكشاف مائي يبعث على القلق بالفعل، وهذا الانكشاف لابد من معالجته بأسرع وقت ممكن؛ فهناك قليلٌ من المياه يقابله انفجار سكاني كبير، ولا شك في أن آخر قطرة ماء ستصبح قيمة للغاية. لقد عملت السياسات الحكومية جاهدة خلال السنوات الماضية على ردم الفجوة المائية التي تعاني منها البلاد، لكنها لم تعدُ - في المحصلة - أن تكون حلولاً مؤقتة، وفي أحيان كثيرة عقّدت المشكلة عوضاً عن حلّها. فعلى سبيل المثال، لجأت الحكومة وما تزال إلى بناء السدود في الكثير من المناطق بالرغم من أن سياسة بناء السدود - كما تبين للمسئولين أخيراً - ليست مجدية في بلد حار وجاف مثل اليمن، وحيث ينتهي الحال بالمياه إلى التبخّر. والحقيقة الجديرة بالإشارة، في هذا السياق، أن ما تحتاجه البلاد ليس بناء المزيد من السدود بل إقامة منشآت مائية تتولى تحويل المياه دون التفريط بحقوق الملكية في المناطق المستفيدة.
ويجادل البعض بأن مشكلة المياه في اليمن تتمثل في الزراعة، وأنه إذا استطاع كل من الحكومة وعموم أفراد المجتمع ترشيد استخدام الماء في الزراعة ستكون البلاد قد قطعت شوطاً كبيراً في حلّ هذه المشكلة, فالمهم هنا - كما يعتقد هؤلاء - هو كيف نُدير الطلب والعرض على المياه بطريقة صحيحة تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للمياه. وحيث أن حوض صنعاء هو المهدد الأول بالجفاف، فإن هناك من يرى أن أفضل طريقة للتعامل مع أزمة المياه في الحوض تكمن في تخفيض استهلاك المياه قدر الإمكان، والحدّ من التوسع الزراعي، لاسيما في الزراعة المروية. وقد استبعد العديد من الخبراء خيار تحلية مياه البحر ونقلها إلى صنعاء كحل للمشكلة، لأنه في نظرهم خيار مستحيل فنياً واقتصادياً، لكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أنه قابل للتحقيق بالنسبة للمدن الساحلية كالمكلا وعدن والحديدة وتعز.
وفي اتجاه موازٍ، تركز توصيات خبراء الموارد المائية والخاصة بطرق مواجهة أزمة المياه في اليمن على تولي الحكومة إدارة الموارد المائية المتوفرة بكفاءة أكبر، واعتماد اللامركزية في إدارة هذه الموارد، والاستفادة من مياه الصرف الصحي بعد معالجتها، والاهتمام بالزراعة المطرية والحفاظ على المدرجات الزراعية، واختيار محاصيل زراعية تتناسب مع مخزون المياه المتوفرة في كل حوض، مع ضرورة إدخال التقنيات الحديثة في الرّي الزراعي لتقليل الهدر، والسيطرة على العوامل الملوثة للمياه، وتوظيف البعد البيئي في التخطيط الحضري، ووضع تشريعات تلزم المباني الإنشائية بمعايير ومواصفات تراعي البعد البيئي وتستغل مياه الأمطار. وأخيراً وليس آخراً، رفع الوعي المجتمعي بمشكلة المياه من خلال وسائل الإعلام.