ثقافة الإتقان !
ما زال اليابانيون يتبوأون أعلى مناصب الإتقان في نظر الكثيرين ، وحينما تذكر أن البلد المصنع لهذه السلعة أو تلك هو اليابان ؛ فكأنك أعطيت المشتري شهادة ضمان على جودته ، حتى وإن كان ثم ما هو أجود منه ، ولكنها السمعة التراكمية والمستحقة لهذا البلد جعلته يغرد خارج السرب وحده ، ولا غرو فهم ينشرون ثقافة "الكايزن " وهو مبدأ يرسخ مفهوم "التحسين المستمر" ، لذا كانوا ومازالوا سادة الإتقان في هذا الزمان ، وقد انتشر في الثقافة العملية المعاصرة فن جديد يسمونه "الجودة الشاملة" وهو مفهوم يسعى باختصار لإتقان العمل ، وما زالت الدول العربية –ممثلة بالحكومات- تسير في مؤخرة الركب ، وليتها تسير بانتظام لكان الأمر مقبولاً ، ولكنها شوهت مسيرة كل ما هو جميل وجيد في كل مجال ؛ وهي لم تتقن شيئاً سوى إخضاع المواطن واستعباده !
ولو تأملت حال العظماء في كل عصر ومصر ، لوجدت أن الإتقان هو منهجهم ، والجودة هي غايتهم ، إذ لولا إتقانهم لعملهم لما عاش ذكرهم ومات غيرهم ، ولولا الإتقان لما كان لعامل من فضل على آخر ، بل حتى في مهاوي العلوم ستجد أن المتقنين قد خلدوا أسماءهم في سجل التاريخ ؛ ففتش في عالم الموسيقى والرقص والتمثيل والكرة وغيرها ستجد أنك لا تذكر إلا المتقنين فقط !
كثيرا ما نجد ثقافة الإتقان في عالمنا غائبة ، ولو قلبت طرفك فيمن حولك باحثاً عن المتقنين لانقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ، مع أن صغيرنا قبل كبيرنا يعرف الحديث القائل : إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ! ، ولكن هل ثم ثقافة للإتقان وفقه له ؟!
بل حتى في الثقافة التي يفرضها علينا "الوليدان" : وهي ثقافة مشوهة تثير القرف والاشمئزاز لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ فالموسيقى قبل أن تحتكرها الشركات وتدخلها إلى عالمها المادي أخرجت لنا عظماء – بغض النظر عن شرعية فعلهم – ولكنهم أبدعوا وأتقنوا فنهم واحترموا من يستمع إليهم ، بخلاف مطربي روتانا هذا الزمان الذين ظهرت عوراتهم - حساً ومعنى- لمن ابتلاه الله بالاستماع إليهم وكان يملك القليل من الذوق الفني الأصيل !
وقل في التمثيل مثل ذلك ، فلو تأملت حال السينما– وهي حديث الناس هذه الأيام – لوجدت أن المناحة التي ناح بها علينا "مناحي" هي عمل أقل مايوصف به أنه مهزلة ، إذ لو شاهد أحدهم فيلم "القلب الشجاع" أو "التايتنك" أو غيرهما مما أتقنته استديوهات هوليوود ؛ لما قبل أن ينزل إلى هذا المستوى من المشاهدة ! ، وليس الحديث هنا عن المناحات إذ غالب أفلامنا مناحة ، ولكن الحديث عن ثقافة الإتقان حتى في الدرك الأسفل من الفنون !
ولو أخذت عالم الروايات –أيضاً- لما اختلف عليك الحال ، فحين يقرأ العاقل رواية كرواية "اسم الوردة" للإيطالي "إيكو" أو " اسمي أحمر" للتركي "باموق" أو " الإخوة كارامازوف " للروسي "ديستوفسكي" وغيرها من روائع الأدب العالمي ، فهل سيحترمه عقله حين يستهلك قدراً من طاقاته في قراءة ترهات "بنات الرياض" أو مغامرات عجوز الشميسي الجنسية ؟!
بعد متابعات كثيرة تولدت عندي قناعة : أن فن التمثيل والرواية والرسم : فن غربي ، وأن العرب لا يملكون منه إلا الفتات فهل في الفتات نفع ؟! ولن أخبرك بجديد لو قلت لك : أن الأمر في البرامج الفضائية ليس ببعيد ، ففي حين يستنسخ المنسلخون برامج على غرار "ستار أكاديمي" و "سوبر ستار" والبرامج الفضائحية ، وهي مسخ – لا نسخ – لبرامج غربية معروفة للمتابع ، لا نجد من يقوم باستنساخ برامج مبدعة مثل "أميريكان انفينتور" أو حتى "بريتينز قوت تالنت" فما السر يا ترى ؟
الإتقان عند العرب : أن تكون مبدعاً بعمل لا شيء !
الإتقان عند الغرب : أن تكون مبدعاً بعمل أي شيء !