قصيدة البحر التي ألقاها الشاعر السعودي جاسم الصحيح في برنامج " أمير الشعرا ء" في أبو ظبي
...
يا بحرُ.. كُلُّكَ في مسامرتي فَمُ=فافتحْ زُجاجةَ ما تُكِنُّ وتكتـــــمُ
وأَدِرْ أساطيرَ البدايةِ بينَنــــــا=سِيَّانِ: شَهْدُ حديثِها والعلقـــمُ
سِيَّانِ: فَرَّ من الزجاجةِ ماردٌ=أمْ رَفَّ منها نورسٌ مُتَرَنِّــــــمُ
يا بحرُ.. يا شيخَ الرُّواةِ على المَدَى=مُتَعَوِّذاً من موجةٍ تَتَلَعْثَــــــــــــــــمُ
حُرِّيَّةُ الكلماتِ فيكَ.. تقاصَــــــرَتْ=عنها اللغاتُ ولم يَسَعْهاَ المعجـــــمُ
هذا لسانُكَ هادرٌ بِحكايـــــــــةِ الـ =إنسانِ يختزلُ المدى ويُحَجِّــــــــــمُ
فالمدُّ والجزرُ اختصارُ عوالِـــــــــمٍ=في الأرضِ.. تبنيها العصورُ وتهدمُ
فكأنَّما في الموجِ ربٌّ غاضـــــــــبٌ=يمحو، وربٌّ في الشواطئِ يرســـمُ!
وكأنَّما لُجَجُ المياهِ خلائــــــــــــــقٌ=تنمو على شطِّ الحياةِ، وتُعْـــــــدَمُ!
وكأنَّما التيَّارُ - وَهْوَ مُجَـــــــــــــدَّلٌ=في الرَمْلِ - أعمارُ الذينَ تَصَرَّموا!
يا بحرُ.. مادامَ الطريقُ يُعيدُنــــــا=لِلبِدْءِ من حيث النهايةُ تجثُـــــــــمُ
حَطِّمْ ضلوعيَ في ضلوعِكَ، إِنَّنا =مُتَوحِّدانِ بِقَدْرِ ما نَتَحَطَّــــــــــــمُ
يا بحرُ.. قالوا عنكَ : نبعُ أرومةٍ=للكائناتِ وللبدايـــــــــــــــــةِ توأمُ
ويُقالُ: كنتَ هناكَ أوَّلَ عاشـــقٍ =فَهِمَ الغرامَ فذابَ فيما يفهـــــمُ
هيمانُ تصهركَ المراهقةُ التي=تَخِذَتْ ملامحَ زُرْقَةٍ تَتَضَــــرَّمُ
حتَّى إذا اكتَمَلَ انصهارُكَ في الهوى=صلَّى عليكَ العاشقونَ وسَلَّمــــــــــوا
وجمعتَ كلَّ صلاتِهِمْ وسلامِهِــــــــــــمْ=دُرَراً أضاءَ بِها القرارُ المُعْتِـــــــــــــمُ
يا بحرُ.. هذي الشمسُ تنصبُ عرشَها=فوقَ الشواطئِ ، والهجيرُ يُخَيِّـــــــــــمُ
والصيفُ جاءَ كَ عارياً وكأنَّــــــــــــــــهُ=عاصٍ يُصَرِّحُ بالذنوبِ وينــــــــــــــــدمُ
والمبحرونَ على امتدادِكَ حينمَــــــــــا=رضعُوا المسافةَ ما اشْتَهَوْا أنْ يُفْطَمُوا
(قنطارُ) ضحكتِهِمْ يرنُّ إذَا سجــــــــــا=من خيبةِ الموجِ المحطَّمِ (درهـــــــــمُ)
وأنا أتيتُكَ في شِبَاكِ بلاغتـــــــــــــــي=أصطادُ ما يُوحي مداكَ ويُلْهِــــــــــــمُ
(صنَّارتي) مثلُ الحقيقةِ صُلْبَـــــــــــةٌ=تُدمي، و(طُعْمِيَ) كالمجازِ مُنَمْنَـــــــمُ
فَلَرُبَّما انزلَقَتْ إليَّ قصيــــــــــــــدةٌ=من بينِ أرزاقٍ لديكَ تُقَسَّــــــــــــمُ
يا بحرُ.. يا دمعَ الطبيعةِ حينمَا=كانَتْ على إنسانِها تَتَأَلَّــــــــــمُ
عَبَثاً أطارحكَ الغناءَ، وها هُنَــا=في كلِّ موجٍ للطبيعةِ مَأتَــــــــــمُ
حَطِّمْ ضلوعيَ في ضلوعِكَ، إِنَّنا =مُتَوحِّدانِ بِقَدْرِ ما نَتَحَطَّـــــــــــمُ
هذي الملوحةُ - لا عدمتَ مذاقَها =رمزٌ على الحزنِ الذي نتجشَّــــــمُ
يا بحرُ.. هل بَقِيَتْ لديكَ أُبُوَّةٌ=تحنو على تَعَبِ البنينِ وترحمُ
فأنا ابْنُكَ النَّهرُ الذي سَرَّحْتَـــهُ=في الأرضِ يعزفُ رملَها ويُنَغِّمُ
في روحِ قِدِّيسٍ رَحَلْتُ كأنَّمــــا=صَفَحاَتُ مائيَ لؤلؤٌ مُتَبَسِّــــــمُ
ورَجِعْتُ ألهثُ في غسيلِ سرائرٍ=سوداءَ.. فيها لؤلوئي يَتَفَحَّـــــمُ
من كلِّ يابسةٍ حملتُ حكايــــــــةً=في الموجِ تُسديها الهمومُ وتُلحِمُ
ألقَى بيَ الفقراءُ أوجاعَ القُـرَى..=وَجَعاً يئنُّ وآخَراً يَتَصَنَّـــــــــــــمُ!
ورمَى بيَ العاصونَ من آثامِهِمْ=ما لم تُطِقْهُ مفاصلي والأَعْظُـــمُ
وشعرتُ يا أَبَتي.. شعرتُ بشهوةٍ=حمراءَ تصهلُ داخلي، وتحمحــمُ
وهناك حيث الماءُ أطلقَ مَــــــدَّهُ=في الضِّفَّتَينِ رغائباً تَتَوَحَّـــــــــمُ
ضاجعتُ يابسةَ الحقولِ فأَنْجَبَـــتْ=شوكاً.. وساد على الثِّمارِ، العلقمُ!
هِيَ رحلةُ العُمرِ التي قايَضْتُهــــــــا=ما كنتُ أعلمُهُ بما أَتَعَلَّـــــــــــــــــمُ
تُبْ يا أبي عنِّي.. لعلَّ رصاصــــةً=جَنَتِ الذنوبَ يتوبُ عنها المنجمُ!
واشفقْ عَلَيَّ بأنْ أثورَ فَإِنَّنـــــــي=جَسَدٌ بِقنبلةِ الذنوبِ مُلَغَّــــــــــــــمُ
انزعْ فتيلَتِيَ الأثيمةَ وَارْمِنــــــــي=في الملحِ يغسلُني البياضُ الأكرمُ
حتَّى أعودَ إلى الصفاءِ كأنَّنـــــــي =مَلَكٌ أَغَرُّ من الذنوبِ مُعَقَّــــــــــمُ
يا بحرُ.. مازالَ الكمالُ غوايـــــــةً=للطامحينَ، وغايةً تَتَضَــــــــــــخَّمُ
لو كنتُ أملكُ جَنَّةً لرَأَيتَنــــــــــــي= طَمَعاً أؤنِّقُ جنَّتي وأُهَنْـــــــــــــدِمُ
يا بحرُ.. هلْ أنتَ الصدى لِمشاعرٍ=في النَّفْسِ يعزفُها القضاءُ المُبْرَمُ؟
لامستُ فيكَ حكايتي من هَمْسِها=حتَّى الهديرِ كأنَّني بِكَ مُتْخَــــــمُ
هلْ أنتَ جرحٌ مثلُ جرحيَ طــــاعنٌ=في الأرضِ يغرقُ في مداهُ، المرهمُ؟
هلْ عمقُ قاعِكَ مثلُ عُمْقِ قصيدةٍ=في خاطري.. أَزَلِيَّةٍ.. لا تهــــرمُ؟
هلْ هذهِ الأسماكُ في رَوَغَانِــــها=هِيَ أُمنياتيَ في مِياهِكَ عُــــــوَّمُ؟
هل عنفوانُ المدِّ فائضُ ثــــــورةٍ=في عمقِ ذاتيَ بالتَّحَرُّرِ تحلــــمُ؟
تَعِبَ السؤالُ فكُنْ لهُ أرجوحـــــةً=يغفُو على موجاتِها ، ويُهَــــــوِّمُ
يا أيُّها المخفورُ داخلَ عزلــــــــةٍ=في الذاتِ يغمرُها الضبابُ الأبكمُ
لامستُ فيكَ حكايتي من هَمْسِها=حتَّى الهديرِ كأنَّني بِكَ مُتْخَـــــمُ!
فأنا المقيمُ إقامةً جبريَّـــــــــــــةً=في قامتي حيث الخلاصُ تَوَهُّمُ!
لِيَ حيرةٌ في الغيبِ تشبهُ حيرتي=في الحبِّ: هل أنا مغرمٌ أم مُرغَمُ؟!
يا بحرُ.. كانَ الشِّعرُ بُوصَلَةَ الهـوى=في القلبِ.. يقفوها بدورتِهِ الــــــــدَمُ
الشِّعرُ صِنْوُكَ في الخلودِ، كلاكُمَا=قِدَمٌ على الدنيا.. فَمَنْ هُوَ أقــــدمُ؟
والشِّعرُ صِنْوُكَ في الجلالِ، كِلاكُمَا=عِظَمٌ على الدنيا.. فَمَنْ هُوَ أعظَمُ؟
وأنا امتدادُكُما معاً في شــــــــــاعرٍ=يهتزُّ ملءَ جوارحي ويُدَمــــــــــــدِمُ
هذا الغريبُ يعيشُ داخلَ جُثَّتـــــي=قلقاً يثورُ وحيرةً تتَــــــــــــــــــأَزَّمُ
فأنا التباسٌ بالمِدادِ، يُخيفُنــــــي=وَرَقٌ بِهاويةِ البياضِ مُحَـــــــزَّمُ
أمشي وأعثرُ بالفراغِ، ولا أرى=ضوءاً يرمِّمُ عثرتي ويُقَــــــــوِّمُ
كانَتْ ولادتيَ القديمةُ هُـــــوَّةً=تأبى بغيرِ ترابِ موتـــيَ تُردَمُ
إنْ صَحَّ لي قبرٌ بحجمِ قصيدتي=فمقاسُهُ بمقاسِ ما أنا أحلــــــمُ!
يا بحرُ.. قالوا عنكَ : أوَّلُ حاكمٍ=ما انفكَّ في جبروتهِ يتنعَّــــــــــمُ
الماءُ عرشُكَ والسواحلُ سُـــدَّةٌ=شمَّاءُ.. تحرسُها الرياحُ الحُوَّمُ
والمطلقُ الممتدُّ فيكَ مشيئــــــةٌ=زرقاءُ يسكنُها المصيرُ المبهمُ
وهُناكَ أنتَ جلالةٌ غَيْبيَّـــــــــــــةٌ =تسطو على الأُفُقِ البعيدِ وتحكمُ
وَوَرَاءَ وجهكَ مذبحٌ لا ينتشــي =حتَّى يعربدَ في شواربكَ الـــدَمُ
يا بحرُ.. ما بالُ العدالةِ ثاكـــــــلٌ=في الماءِ، والدُّرَرُ الصغيرةُ يُتَّــمُ؟؟
ما بالُ قاعِكَ يستغيثُ كأنَّــــــــهُ=غابٌ بِأنيابِ الوحوشِ مُسَمَّــــمُ؟
خَبَّأْتَ حزنَكَ خلفَ ألفِ فُقاعةٍ=وبَرَزْتَ في ألوانِها تَتَبَسَّـــــــمُ
لا تَأْمَنِ الزَبَدَ الضَحُوكَ، فَطَالَمَا=فَضَحَتْ أَساَكَ فُقَاعةٌ تَتَهَشَّــــــمُ
وأطلَّ وجهُكَ من مرايا عَتْمَــــــــــةٍ=في العُمْقِ.. تغرقُ في مَدَاهَا الأَنْجُمُ