حديث أفليمون عن نفع الحمام
وقال أفليمون صاحب الفِراسة، لصاحبه: وأنا محدِّثك عن نفَع الحمام بحديثٍ يزيدُك رغبة فيها: وذلك أنَّ مَلِكَينِ طلب أحدُهما مُلْكَ صاحبِهِ، وكان المطلوبُ أكثرَ مالا وأقلَّ رجالاً، وأخصب بلاداً، وكانت بينهما مسافةٌ من الأرضِ بعيدة، فلما بلغَه ذلك دعا خاصَّته فشاوَرَهُمْ في أمْره وشَكا إليهم خوفَه على مُلكه، فقال له بعضهم: دامتْ لك أيُّها الملِكُ السلامةُ، ووُقيتَ المكروه إنَّ الذي تاقَتْ له نفسك قد يُحتالُ له باليَسيرِ من الطمع، وليسَ مِنْ شأنِ العاقلِ التَّغريرُ، وليس بعد المُناجَزَة بقيّة، والمناجزُ لا يدري لمن تكون الغَلَبة، والتمسُّك بالثقةِ خيرٌ من الإقدام على الغَرر، وقال بعضهم: دامَ لك العزُّ، ومُدّ لك في البقاء ليسَ في الذُّلِّ دَرَكٌ ولا في الرِّضا بالضيم بقيَّة، فالرَّأيُ اتخاذ الحُصون وإذكاءُ العُيونِ، والاستعدادُ للقتال؛ فإنّ الموتَ في عزٍّ خيرٌ من الحياة في ذل.
وقال بعضهم: وُقِيتَ وكُفِيت، وأُعطيتَ فَضْلَ المزيد الرَّأيُ طلب المصاهرة له والخِطْبة إليه؛ فإِنّ الصهرَ سببُ أُلفةٍ تقعُ به الحُرْمةُ، وتثبت بِهِ المودَّة، وَيُحلُّ به صاحبُهُ المحلَّ الأدنى، ومنْ حلَّ من صاحبه هذا المحلَّ لم يخلِّه مما عَراه، ولم يمتنع من مناوأة من ناواه، فالتمس خِلطَتهُ؛ فإنّه ليسَ بَعْدَ الخِلطةِ عداوةٌ، ولا مَع الشِّركة مبايَنة.
فقال لهم الملك: كلٌّ قد أشارَ برأيٍ، ولكلٍّ مدَّة، وأنا ناظِرٌ في قولِكم، وباللّه العِصمة، وبشكره تتمُّ النعمة، وأظهَرَ الخِطبة إلى الملكِ الذي فَوقَه، وأرسل رُسلاً، وأهدى هدايا، وأمَرَهُم بمصانعةِ جميع مَن يَصِل إليه، ودسَّ رجالاً من ثقاتِه، وأمَرهُم باتِّخاذ الحمام في بلاده وتَوطينِهِنَّ، واتخذ أيضاً عندَ نفسه مِثلهنَّ، فرفَّعهن من غايَةٍ إلى غاية، فجعلَ هؤلاء يرسلون من بلاد صاحبهم، وجعل مَن عندَ الملِكِ يرسلون من بلاد الملك، وأمرهمْ بمكاتَبتِه بخبرِ كلِّ يوم، وتعليقِ الكتُب في أصولِ أجنحة الحمام، فصار لا يخفى عليه شيءٌ من أمره، وأطمعَه الْملِك في التزويج واستفردَهُ وطاولَه، وتَابعَ بين الهدايا، ودسَّ لحرسِه رجالاً يلاطفونَهمْ حتى صاروا يبيتون بأبوابه معهم، فلمَّا كتبَ أصحابهُ إليه بغِرَّتهم وصل الخبر إليه من يومِه، فسار إليه في جندٍ قد انتخبهم، حتى إذا كان على ليلةٍ أو بَعْض ليلة، أخذ بمجامع الطُّرُق، ثم بيَّتَهُمْ ووثَبَ أصحابهُ من داخِل المدينةِ وهو وجنده من خارج، ففَتحوا الأبوابَ وقَتَلوا المَلِك، وأصبَحَ قد غَلَبَ على تلك المدينة، وعلى تلك المملكة، فَعظُمَ شأنُه، وأعظَمتْه الملوك، وذُكِر فيهم بالحزْم والكَيْد.
وإنما كان سبب ذلك كلِّه الحمام.
حديث آخر في نفع الحمام قال: وأحدِّثك عن الحمام أيضاً بحديثٍ آخر في أمر النساء والرِّجال وما يصابُ من اللَّذَّةِ فيهنَّ، والصَّواب في معاملتهنَّ، قال: وذلك أنَّ رجلاً أتَاني مرَّةً فَشَكا إليَّ حاله في فتاةٍ عُلِّقها فتزَوّجها، وكات جاريةٌ غِرّاً حسناء، وكانت بكراً ذاتَ عقلٍ وحياء، وكانت غَريرةً فيما يحسِن النِّساءُ من استمالةِ أهواء الرِّجال، ومِنْ أخْذِها بنصيبها من لذّة النساء فلما دخَلَ بها امتنعتْ عليه، ودافعته عن نفسها، فَزاولها بكلِّ ضربٍ كان يحسنُهُ من لَطفٍ، وأدخل عليها مِن نسائه ونسائها مَنْ ظَنَّ أنَّها تقبَل منهنّ، فأعيتْهُن، حتى همَّ برفضها مع شدَّة وجْده بها، فأتَاني فشكا ذلك إليَّ مرةً، فأمرْته أن يُفْرِدها ويخلِّيَها من الناس، فلا يَصِلَ إليها أحدٌ، وأنْ يضْعفَ لها الكرامة في اللّطفِ والإقامة لما يُصلِحها من مَطعَم ومشرَبٍ ومَلبس وطيبٍ وغير ذلك، مما تلهو به امرأةٌ وتُعجَبُ بِهِ، وأنْ يجعَلَ خادِمَها أعجميَّةً لا تَفْهَم عنها، وهي في ذلك عاقلة، ولا تفْهمُها إلاّ بالإيماء؛ حتى تستوحِشَ إليها وإلى كل من يصل إليها من النَّساء وحتى تشتهيَ أن تجِدَ مَنْ يراجعها الكلام وتشكو إليه وحْشة الوَحْدة، وأنْ يَدخِل عليها أزواجاً من الحمام، ذوات صورةٍ حسنةٍ، وتخَيُّل وهدير فيُصَيِّرَهُنّ في بيتٍ نظيف، ويجعل لهنّ في البيت تماريد وبين يدي البيت حجْرة نظيفة، ويفتح لها من بيتها باباً فيصْرن نُصْبَ عينها فتلهو بهن وتنظر إليهنَّ، ويجعل دخوله عليها في اليوم دَفْعَةً إلى تلك الحمام، والتسلّي بهنّ، والاستدعاء لهنّ إلى الهدير ساعةً، ثم يخرج، فإنَّها لا تلبث أنْ تتفكّر في صنيعهنّ إذا رأتْ حالهن؛ فإنَّ الطَّبيعةَ لا تَلبَثُ حتى تحرّكها، ويكون أوفقُ المقاعد لها الدنّو منهن، وأغلبُ الملاهي عليها النَّظَرَ إليهن؛ لأنَّ الحواس لا تؤدي إلى النَّفس شيئاً من قِبَل السمعِ، والبَصر، والذوق، والشم والمجسّة إلاّ تحرّك مِنَ العَقْل قي قَبُولِ ذلك أوْ رَدِّه، والاحتيالِ في إصابته أو دفِعه، والكراهية له أو السُّرور به بقدر ما حرّك النَّفسَ منه، فإذا رأيتَ الغالبَ عليها الدنوّ منهنّ، والتأمُّل لهن، فأدخِلْ عليها امرأةً مجرِّبة غَزلة تأنس بها، وتفطُنها لصنيعهنَّ، وتعجُّبُها منهنّ، وتستميل فِكرتها إليهنّ، وتَصِف لها موقِعَ اللَّذّة على قدْر ما ترى من تحريك الشّهوة، ثمّ أخْرِج المرأة عنها، وحاوِل الدُّنو منها، فإنْ رأيتَ كراهيَةً أمسكْت وأعدْتَ المرأةَ إليها، فإنها لا تلبَث أن تمْكِنَك، فإنْ فعلتْ ما تحبُّ وأمكنَتْك بعض الإمكان، ولم تَبْلُغ ما تريد فأخبرني بذلك.
قال: وقلتُ له: مُر المرأةَ فلتسألها عن حالها في نفسها، وحالِك عندها، فلعَلّ فيها طبيعةً من الحياء تَمْنَعُها من الانبساط، ولعلَّها غِرٌّ لا يُلتمس ما قِبَلها من الخَرقَ، ففعل، وأمر المرأة أن تكشفها عن ذات نفسها، فشكت إليها الخَرَق، فأشارت عليها بالمتابعة، وقالت: اعتبري بما تَرينَ من هذا الحمام؛ فقد تَرَين الزّوجين كيفَ يصنعان قالت: قد تأمَّلت ذلك فعجِبتُ منه، ولستُ أحْسِنُه فقالت لها: لا تمنعي يدَهُ ولا تحمِلي على نفسك الهيبة، وإنْ وجدتِ من نفسِك شيئاً تدعوكِ إليه لذَّةٌ فاصنَعيه؛ فإِنَّ ذلك يأخُذُ بقلبه، ويزيدُ في محبَّتِكِ، ويحرِّك ذلك منهُ أكثرَ مما أعطاك، فلم يلبثْ أنْ نال حاجتَه وذهبت الحشمة، وسقطت المداراة فكان سببُ الصُّنع لهما، والخروج من الوَحْشة إلى الأُنس، ومن الحال الدَّاعِية إلى مفارقتها إلى الحال الدَّاعية إلى ملازمتها، والضَّنِّ بها - الحمام.
كتاب الحيوان
الجزء الثالث
الجاحظ