افاق ستراتيجية: البراغماتية
المحرر الستراتيجي
البراغماتية أكثر الفلسفات شيوعا وانتشارا في عالم اليوم، وهي مشتقة من الكلمة اليونانية (باغما) التي تعني (العمل).. وتشير الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) الى ان البراغماتية تتألف من مجموعة من الطرق المختلفة التفكير، ويلاحظ البراغماتيون وجود بعض الترابط مع العواقب العلمية أو التأثيرات الحقيقية باعتبارها مكونات حيوية لكل من (المعنى) و (الحقيقة).. وتختلف الشخصية التطبيقية لهذه الروابط للبراغماتية باختلاف المفكرين.
ولا يتفق بعض البراغماتيين مع وجهة النظر القائلة: بأن الاعتقاد يمثل الواقعية، وبدلا من ذلك يتمسكون بفكرة ان الاعتقادات هي ترتيبات تصنف على انها صائبة أو خاطئة بالاعتماد على مدى المساعدة التي تقدمها تلك الترتيبات في صياغة اهداف الشخص المؤمن بالبراغماتية.
ظهرت البراغماتية في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الاميركية، من خلال افكار وأعمال كل من: تشارلس ساندرس بيرس، ووليم جيمس، وجون ديوي، وجورج هاربرت ميد ويشير هؤلاء المؤسسون الى التأثير السابق للعديد من المفكرين الاوائل، خاصة امانوئيل كانت، والكسندر باين، حيث صاغ الاخير الصلات الحاسمة بين الاعتقاد والتعاطي والترتيب من خلال القول بأن الاعتقاد هو الشيء الذي يصبح الشخص من خلاله مستعدا للتصرف.
أعلنت البراغماتية، منذ البداية برنامجا طالبت فيه باعادة بناء الفلسفة، متهمة الفلسفات السابقة بالعقم مؤكدة ان غرض الفلسفة ربط الانسان بالواقع، فالمعرفة الحقيقية وليدة الواقع، وليست الذهن المتأمل البعيد عن مسالك الحياة، حيث تقول (البراغماتية) ان مستقبل الانسان يصنعه الانسان، فاذا كان كل شيء مخططا له من قبل، فهذا يعني ان نتحول الى ريشة في مهب الريح.. فالبراغماتية منهج وعمل ونظرة الى المستقبل وفلسفة فهي كمنهج تهدف الى توضيح الافكار والمعاني وبيان صدقها، ونفعيتها، بقدر ما تحقق للانسان وفائدته، فيقال: انها فكرة نافعة، الا انها غير حقيقة، أو انها حقيقية وليست نافعة.
حسمت البراغماتية الجدل بين النظريتين (المثالية والمادية)، حيث تقول لو ان اصل العلم مادي، فهذا يعني ان العالم قد يحترق، وهذا من شأنه ان يسبب القلق والمتاعب النفسية للانسان فتجعله تائها.. اما اذا قلنا ان قوة روحية أوجدت الكون فهذا يحقق لنا شيئا من الطمأنينة، فالبراغماتية تنظر الى المستقبل لوضع نظام اخلاقي ثابت يحقق السعادة النسبية.
البراغماتية.. فلسفة
هناك نقاط أساسية يشترك فيها كل الفلاسفة البراغماتيين، هي:
* الحقائق نسبية، ولا وجود لحقائق مطلقة، فالحقائق تتبدل بتبدل التجارب.
* الحق لا حق على التجربة، وليس سابقا.
* الفكر الذي يحقق نفعا هو الفكر الصحيح.
* قيمة الفكرة تكون في قيمة نتائجها.
البراغماتية اراد منها تشارلس بيرس ان تكون قاعدة منطقية، كما في قوله المشهور (تدبر الآثار، التي لا يجوز ان يكون لها نتائج فعلية على الموضوع الذي نفكر فيه، عندئذ تكون فكرتنا عن هذه الآثار هي فكرتنا عن الموضوع).. ولتوضيح الفكرة اكثر (ان فكرتنا عن هذه الآثار المباشرة وغير المباشرة هي الفكرة التي تتحصل لنا نتيجة ما تستشعره حواسنا عن الموضوع، اي هي فكرتنا عن اثاره المحسوسة، لا تفني هذه الفكرة شيئا طالما انها لا تؤثر على سلوكنا العلمي الذي يمكن ان تنظمه وتؤدي اليه، بمعنى ان الفكرة هي التي تعطي لسلوكنا معناه).
ولكن وليام جيمس قلب هذه القاعدة في المعنى عند بيرس الى قاعدة الصدق، فطالما ان الفكرة هي ما نفعله بها، أي مضمون سلوكنا، فانها تصدق بما يكون لها من نتاج طبيعية أو بمقدار ما تساعدنا في الوصول الى علاقات مرضية مع اجزاء الخبرة الماضية والمستقبلية، هذا التعريف ادى الى مضايقة بيرس ما جعله يطلق عليها في نهاية الامر اسم البراغماتيكية Pragmaticism يأسا مما فعله جيمس واشياعه.. وصارت نظرية الصدق التي انتهت اليها البراجماتية عند وليام جيمس هي جوهر هذه الفلسفة العلمية.. الا ان جيمس اسقط في تعريف الصدق واباح ان تكون لنا معتقدات تتجاوز التجربة البينة كي نحفظ على حياتنا تكاملها كما يقول وجعل مجرد الاعتقاد فيها مبررا لصدقها ولذلك اطلق جيمس على براجماتيته بالتجريبية المتطرفة.
تاثر ديوي بكتابات جيمس وبدلا من ان يحض على البحث على النتيجة الصادقة، دعى الى البحث عن النتيجة التي تبتغي ان تكون ووصف الصادق بأنه المفيد.. وكان شيلر صديقا لجيمس لذا وصف الصادق بأنه الشيء الذي يحس الاعتقاد في صوابه، وتابع (كلارينس ارفنج لويس) براغماتية جيمس وقال ببراغماتية تصورية، وقال بمبادئ للتفسير ومقولات قبلية يزودنا بها العقل وتتسق وتؤول بها التجربة الحسية، غير ان الاختيار بينها يتم على اساس براغماتي، اي ان قراراتنا لقبول او رفض هذه المبادئ التصورية، بل ووظيفة هذه المبادئ نفسها، تقوم على الحاجات والاهداف الاجتماعية المشتركة، وعلى اهتماماتنا بزيادة فهم تجاربنا والسيطرة عليها.
وكانت نتيجة براغماتية ارفنج لويس نظرية في المعنى التصوري والتجريبي وفي تحليل الاحكام التجريبية بوصفها انماطا محتملة وتقويمية ذات تأثير على تجاربنا الماضية والمستقبلية، واتجهت البراغماتية بتأثير ديوي، وكارناب، وتشارلس بيرس وارنست ناجل.. وآخرين الى ان تكون النظرية التي تقول بأن: كل الوان الخبرة بما فيها الفكر الفلسفي والنظريات العالمية والعقائد، لابدّ ان تفهم في ضوء الغرض الانساني، فالافكار أدوات لتحقيق ما يصبو له الانسان من غايات والحكم عليها يكون بمقدار كفايتها في خدمة هذه الغايات ومن ثم صارت البراغماتية اسما للموقف الذي يؤكد اهمية النتائج كاختيار لصلاحية الافكار.
لذا يطالب ديوي ان تنزل الفلسفة من برجها العاجي لتعالج مشكلات المجتمع، فالفيلسوف ابن المجتمع، وقد يعبر عن مصالح شرعية أو طبقة، وقد يعبر عن مصالح البشرية بكاملها.
الفلسفة تلبي حاجة تتمثل في تكوين التفكير الشخصي النقدي الحواري، الذي ينقذ الواقع ويرفض ما هو قائم ويتطلع لما يجب ان يكون عليه الامر.
الفلسفة سؤال الحرية، وسؤال المستقبل وبغياب الحرية تموت الفلسفة، فنحن بحاجة الى التفلسف وضرورة طرح الاسئلة، التي تبحث عن الحقيقة.. ويبقى السؤال الفلسفي مفتوحا: تفلسف توهب لك الحياة.
زهرة الليل