يتساءل البعض عن تناول آيات القرآن الكريم للمشكلات النفسية التى يعاني منها الناس في مختلف مجتمعات العالم
والأمراض النفسية التي تصيب الإنسان منذ القدم وعلى مر العصور وتزايد انتشارها بصورة غير مسبوقة في عصرنا الحالي,
وقبل أن نتناول مسالة الإشارات النفسية التي وردت في آيات القرآن الكريم نذكر أن تقارير منظمة الصحة العلمية
تشير إلى أن ما يقرب من ثلث سكان العالم يعانون من اضطرابات نفسية حيث تصيب حالات القلق النفسي مايقرب
من20% من الناس في بعض المجتمعات ,ويعانى 12%من اضطرابات الهلع وتصل نسبة الإصابة بالاكتئاب النفسي إلى 7%
(حوالي 450 مليون حالة اكتئاب تؤدى إلى الانتحار لحوالي مليون إنسان كل عام),ويصيب الوسواس القهرى 3%,والفصام
العقلي 1%, بالإضافة إلى الاضطرابات النفسية الناجمة عن الصدمات والحروب والإدمان وغير ذلك.
إعجاز القرآن الكريم :
وإذا عدنا إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والإشارات النفسية التي تتناول الظواهر الإنسانية والنفس
البشرية في حالة الاضطراب والصحة النفسية وقمنا بالتأمل في هذه الآيات على غرار تناول الإعجاز العلمي للقرآن
الكريم والآيات الكونية التي قام بدراستها العلماء من مختلف التخصصات , فإن هناك بعض الأمثلة على الإشارات النفسية
في آيات القرآن الكريم التي تتناول النفس الإنسانية في حالة الاعتدال والاضطراب وتقدم الحلول لبعض الظواهر
والمشكلات النفسية المعاصرة قبل أن يتناولها علم النفس والطب النفسي الحديث بقرون طويلة ..
ومن أمثلة ذلك ماورد حول الحالات النفسية التي دخلت مؤخراً ضمن أولويات الطب النفسي الحديث .
ومن الاشارات النفسية في آيات القرآن الكريم ماورد بشأن بعض الظواهر النفسية والاضطرابات المختلفة ونذكر منها
الإشارة إلى النفس الانسانية وخصائصها وما يصيبها من اضطرابات في قوله تعالى :"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" , وموقف القرآن الكريم في نصوص تحريم الخمر مما أدى إلى تلافي الآثار الصحية والنفسية ومضاعفات تعاطي الكحول , وكذلك المنظور القرآني لظاهرة النوم كواحدة من آيات الله , والأحلام والنبوءة في المنظور القرآني , وحالات
الوساوس المرضية وبعض المعتقدات حول الجن والشياطين وعلاقتها بالحالات المرضية
الهلع .. حالة نفسية غامضة
. "إن الإنسان خلق هلوعا " …المعارج 19
وردت هذه الآية في سورة المعا رج وترتيبها رقم 70 في سور القرآن الكريم ، وهي مكية وآياتها 44 ، وتدور آياتها حول
تحذير الكافرين من يوم القيامة والحساب ، ثم تتطرق إلى موضوع هام من وجهة النظر النفسية حول سمات الإنسان
وخصائصه وحالته النفسية حيث ينتابه الهلع في مواقف متكررة ، وكما ورد في التعبير القرآني فإنه " خلق هلوعا
" ، وفي ذلك صيغة مبالغة من صفة الهلع ، وتضيف الآيات التالية سمات أخرى للإنسان في حالات الشدة واليسر حين
يمسه الشر أو الخير ، وبعد ذلك نقرأ في آيات السورة الكريمة استثناء من هذه القاعدة يتضمن أيضاً إشارة إلى الوقاية والعلاج لهذه الحالة. ومن خلال مراجعة ما يتعلق بنوبات الهلع في مراجع الطب النفسي الحديث فقد لاحظ الأطباء مؤخراً زيادة كبيرة
في المرضى الذين يعانون من حالات غامضة تتمثل في نوبات من القلق والرعب الهائل مدتها قصيرة نسبياً لكنها مصحوبة
بأعراض مرضية مزعجة تدفع المرضى إلى البحث عن العلاج في المستشفيات وأقسام الطوارئ وعيادات الأطباء من مختلف
التخصصات وأحياناً في غرف الرعاية المركزة. وظهر مصطلح اضطراب الهلع Panic disorder، ونوبات الهلع Panic Attacks في مراجع الطب النفسي الحديث مؤخراً لوصف حاله مرضية غامضة تصيب نسبة كبيرة من الناس من مختلف الأعمار، وتقدر نسبة الإصابة بنوبات الهلع بعد أن تزايد انتشارها مؤخراً بحوالي 12% من الناس من مختلف الأعمار، ويعني ذلك وجود ملايين المرضى الذين يعاني معظمهم في صمت ولا يدركون أن المشكلة تتمثل في الإصابة باضطراب نفسي قابل للعلاج ..
النفس والشخصية : بين الاعتدال والاضطراب
" ونفس وما سواها " الشمس 7
تشير هذه الآية في سورة الشمس وهي مكية وآياتها 15 ،وقد بدأت بالقسم ببعض الظواهر الكونية مثل الشمس والقمر
والليل والسماء والأرض إلى أن يصل القسم إلى النفس الإنسانية بجوانبها السلبية والإيجابية متمثلة في
حالاتها من الفجور والتقوى ، ثم يأتي جواب القسم في الآية التالية بأن الفلاح والفوز طريقه هو تزكية هذه
النفس وتطهيرها والسمو بها ، والعكس في المقابل في الانسياق وراء نزعات النفس الشريرة والتردي في هاوية
الانحراف عن الفطرة السليمة بما يؤدي إلى أسوأ العواقب .
ومن منظور الطب النفسي الحديث فإن من الصعب أن نحدد ماذا تعني النفس و الشخصية، ولكنها بصفة عامة تعبير عن الجوانب المختلفة للصفات التي يتميز بها الشخص ، وتشمل
السلوكيات والأفكار والعواطف والانفعالات ، وهي الخصائص التي تستمر مع الفرد علي مدى السنوات في مواجهة المواقف
والظروف المختلفة، ويرى علماء النفس أهمية الوازع الديني والتنشئة
الأخلاقية السليمة في السيطرة على النزعات المرضية للنفس الإنسانية ، فقد ثبت أن الالتزام بروح الدين ، والإيمان
القوي الثابت بالله تعالى حين يتم غرسها في النفس منذ الصغر تكون وقاية من الانحراف والاضطراب ، وصمام أمان
للسلوك المعتدل السوي .
الكحول ..والإدمان بين الطب والدين
"يسألونك عن الخمر…" …البقرة 219
في الآية الكريمة إشارة إلى قضية ومسألة طبية ونفسية وفقهية هامة تتعلق بالخمر أو ما يعرف "بالكحول" ويمكن
أن ينسحب على ما جاء بها على أنواع المخدرات والمسكرات التي تتشابه معه في تأثيرها على حالة الجسد والعقل .وقد
ورد تحريم الخمر بصورة متدرجة للتعامل مع مشكلة وعادة استخدام الكحول الشائعة بأسلوب ملائم لتغيير هذا السلوك
حيث نزلت في المرحل الأولى دعوة لقوله تعالى:
"ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً" …النحل 66 ،
ثم جاءت الآية الكريمة جواباً على سؤال لعمر بن الخطاب وطلبه أن يبين الله أمر الخمر التي تذهب بالعقل والمال فكانت خطوة نحو التحريم: "يسألونك عن الخمر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" … البقرة 219
ومن وجه نظر الطب النفسي فإن المنظور الإسلامي للخمور وتحريمها القاطع واعتبار تعاطيها من كبائر الذنوب كان له
أثر هائلٌ على الصحة النفسية في المجتمعات الإسلامية ورغم أن الطب النفسي يضع الخطوات لمواجهه إدمان وعلاج
الآثار النفسية والصحية والاجتماعية الناجمة عنه؛ فإن العلاج الطبي بالأدوية وجلسات العلاج النفسي والسلوكي لا
تحقق نتائج جيدة ، ويظل الحل متمثلاً في العودة إلى تعاليم الإسلام الواضحة بشأن الخمر والتي ورد تحريمه والدعوة
إلى تجنبه كحل أمثل للوقاية وتحذير الاقتراب منه ،وجاء في آيات القرآن الكريم قبل 14 قرناً ليؤكد أن في كلام
الله تعالى ما ينظم حياة الإنسان ويضمن له الوقاية والشفاء والسلامة في الدنيا والآخرة .. فسبحان الله العظيم.
وختاماً فإن المنظور القرآني الذي يتضمن الإشارات النفسية إنما هو سبق لمنظور علم النفس والطب النفسي الحديث الذي توصل من خلال الدراسات إلى تأكيد الحقائق التي وردت في كتاب الله والتي نزلت على رسوله قبل قرون طويلة من الزمن ,ولايزال العلم الحديث يحاول التوصل إلى بعض معانيها وأسرارها..ويتطلب الأمر توضيح هذه الإشارات النفسية في
آيات القرآن الكريم ومناقشتها بشيء من التفصيل .. وهذا ما نحاول القيام به بتوفيق الله.
الجواب : شكراً للدكتور لطفي الشربيني على هذا الموضوع .. وهو موضوع صعب وحساس وهام .. وهو يثير أسئلة كثيرة .. وقد يختلف القراء في فهم بعض النقاط وتفاصيلها .. ومثلاً في الآية الكريمة المرتبطة بالهلع نجد أن الآيات اللاحقة تستثني المصلين المؤمنين الذين يداومون على الصلاة ويؤتون الزكاة ولهم سلوكيات أخرى من صفات المؤمنين الأتقياء .. وربما يفهم البعض أن المتدينين الأتقياء لايصيبهم مرض الهلع .. وهذا غير صحيح بالطبع .. فالهلع كاضطراب نفسي يصيب الجميع .. والمشكلة في هذا الفهم أن المتدين المريض بالهلع يحس أنه غير صالح أو أن إيمانه ناقص ..أو انه منافق .. وفي ذلك ظلم للمريض .. وعموماً تحتاج أمور الإشارات النفسية وقضايا الإعجاز العلمي إلى تريث وتعمق كي يحسن الاستفادة منها .. والله أعلم .