لؤم الغراب وضعفه
وقال صاحب الكلب: الغربا من لئام الطير وليس من كرامها، ومن بغاثها وليس من أحرارها، ومن ذوات البراثنِ الضعيفة والأظفار الكليلة، وليس من ذوات المخالب المعقَّفة والأظفار الجارحة، ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر. وهو مع أنه قويُّ النَّظر. لا يتعاطى الصيد. وربما راوغ العصفور، ولا يَصيد الجرادة إلا أن يلقاها في سدٍّ من الجراد. وهو فسلٌ إذا أصاب جِيفةً نال منها وإلا مات هٌزالاً، ويتقمم كما يتقمم بهائم الطير وضعافها، وليس ببهيمةٍ لمكان أكلِه الجيف، وليس بسَبع لعجزه عن الصيد.
ألوان الغربان
وهو مع ذلك يكون حالكَ السواد شديدَ الاحتراق، ويكون مثله من الناس الزِّنج فإنهم شرارُ الناس، وأردأُ الخلق تركيباً ومزاجاً، كمن بردت بلادُه فلم تطبخه الأرحام، أو سخنت فأحرقته الأرحام. وإنما صارت عقولُ أهل بابَل وإقليمِها فوقَ العقول، وجمالهم فوق الجمال لعلة الاعتدال.
وللغراب إما أن يكون شديد الاحتراق فلا يكون له معرفةٌ ولا جمال، وإما أن يكون أبقعَ فيكون اختلافُ تركيبه وتضادُّ أعضائِه دليلاً على فسادِ أمره. والبُقع ألأَمُ من السود وأضعف
.أنواع الغربان
ومن الغِربان غراب الليل، وهو الذي ترك أخلاقَ الغربان وتشبَّه بأخلاق البوم.
ومنها غرابُ البَينِ. وغراب البين نوعان: أحدهما غربانٌ صغارٌ معروفةٌ بالضَّعف واللُّؤم، والآخر " كُلُ غرابٍ يُتَشاءَم به. وإنما لزمه هذا الإسم لأن الغراب إذا بان أهلُ الدار للنُّجعة، وقع في مرابض بيوتهم يلتمس ويتقمَّم، فيتشاءمون به ويتطيَّرون منه؛ إذا كان لا يعترى منازلهم إلا إذا بانوا، فسمَّوه غراب البين. ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم له مخلافة الزَّجر والطِّيرَةَ، وعلموا انه نافذ البصر صافي العين - حتى قالوا أصفى من عينِ الغراب، كما قالوا: أصفى من عين الدِّيك - فسمّوه الأعور كنايةً، كما كنَوا طيرة عن الأعمى فكنوه أبا بَصير. وبها اكتني الأعشى بعد أن عمي. ولذلك سمَّوا الملدوغ والمنهوش سليماً، وقالوا للمهالك من الفيافي: المفاوز. وهذا كثير.
والغِدقان جنس من الغربان، وهي لئام جداً
.التشاؤم بالغراب
ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقُّوا من اسمه الغربة، والاغتراب، والغريب.
وليس فغي الأرض بارحٌ ولا نَطيح، ولا قَعيد، ولا أَعضب ولا شيءٌ مما يتشاءمون به إلا والغرابُ عندَهم أنكدُ منه، يرون أن صِياحَه أكثر أخباراً، وأن الزَّجر فيه أعمُّ.
فسق الغراب وتأويل رؤياه
قال: والغربانُ جنسٌ من الأجناس التي أمر بقتلها في الحِلِّ والحرم، وسمِّيت بالفسق وهي فواسق، اشتقَّ لها من اسم إبليس.
وقالوا: رأى فلان فيما يرى النائمُ أنه يُسقِطُ أعظمَ صومعةٍ بالمدينة غرابٌ. فقال سعيدُ بن المسيِّب: يتزوح أفسَق الفاسقين امرأةً من أهل المدينة. فلم يلبثوا إلا أيَّاماً حتى كان ذلك.
قبح فرخ الغراب وفرخ العقاب
وزعم الأصمعيُّ عن خلفٍ الأحمر، أنّه قال: رأيت فرخ غراب فلم أر صورة أقبحَ ولا أسمجَ ولا أبغضَ ولا أقذرَ ولا أنتنَ منه. وزعم أنّ فِراخَ الغربان أنتنُ من الهدهد - على أنّ الهدهدَ مَثَلٌ في النّتن - فذكر عِظَمَ رأسٍ وصِغَرَ بدن، وطولَ منقار وقِصَرَ جناح، وأنّه أمرطُ أسود، وساقط النّفس، ومُنتن الرّيح.
وصاحب المنطق يزعُم أنّ رؤيةَ فرخ العُقاب أمرٌ صعب، وشيءٌ عسير. ولست أحسن أن أقضيَ بينهما.
والغربان عندنا بالبَصرة أوابدُ غير قواطع، وهي تفرخ عندنا في رءوس النّخل الشّامخة، والأشجار العالية.
أسطورة خداع الغراب للديك
فالغرابُ عند العرب مع هذا كلِّه، قد خدع الدّيك وتلعَّب به، ورَهَنه عند الحمّار وتخلّص من الغُرم، وأغلقه عند الحمّار، فصار له الغنم وعلى الديك الغرم، ثمّ تركه تركاًضرب به المثل.
فإن كان معنى الخبر على ظاهر لفظه، فالديك هو المغبون والمخدوع والمسخور به، ثم كان المتلعّب به أنذلَ الطير وألأمَه.
وإن كان هذا القولُ منهم يجري مجرى الأمثال المضروبة، فلولا أن عُليا الدّيك في قلوبهم دون محلِّ الغراب - على لؤم الغراب ونذالته ومُوقه وقلّة معرفته - لما وضعوه في هذا الموضع.
حديث العرب في الغراب
والديك وطوق الحمام
وفي كثيرٍ من الروايات من أحاديث العرب، أن الديك كان نديماً للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمّارٍ ولم يعطياه شيئاً وذهب الغرابُ ليأتيه بالثَّمنِ حين شرب، ورَهن الدّيك، فخاس به، فبقي محبوساً.
وأنّ نوحاً صلى الله عليه وسلم حين بقي في اللُّجّة أياماً بعث الغرب، فوقع على جيفةٍ ولم يرجع، ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعاً يكون للسفينة مَرفأً، واستجعَلت على نوحٍ الطَّوق الذي في عنقها، فرشاها بذلك، أي فجعل ذلك جُعلاً لها
المصدر":
كتاب الحيوان للجاحظ