صورة عون الرفيق حاكم مكة عام 1904م
الحالة الاجتماعية لعون الرفيق
هذهـ ترجمة منقولة من كتاب الإشراف على تاريخ الاشراف للمؤرخ المكي الشيخ الاستاذ/ عاتق ابن غيث البلادي ,,,, بدون إضافة أو تعليق
الشريف عون الرفيق (1256-1323هـ/ 1841-1905م):
الشريف عون الرفيق باشا ابن محمد بن عبد المعين بنو عون، وبقية النسب تقدم في ترجمة أخيه حسين.
أمير الحجاز نحو (25) سنة، من سنة (1299-1323هـ). كان داهية بني حسن في عهده، حازماً عاقلاً، وطّد الأمن إلى درجة لم يسبق مثلها في الحجاز، ساعده على ذلك أفول نجم الدولة السعودية الثانية في نجد، وانصراف جميع جيرانه لمعالجة شؤونهم الخاصة.
ذكر بداية حكمه الدحلان، فقال([76]):
الشريف عون الرفيق
ذكر ولاية سيدنا الشريف عون الرفيق باشا سنة (1299هـ).
ثم في أواخر شهر ذي القعدة جاءت الأخبار بالتلغراف من دار السلطنة بأن الدولة العلية وجهت إمارة الحجاز لسيدنا الشريف عون باشا، وكان مقيماً بدار السلطنة كما تقدم، وأن الشريف عبد الله([77]) باشا، وكيل عنه إلى قدومه، فامتثل الشريف عبد الله([78]) ذلك وأخذ يهيء الأسباب اللازمة لقدوم أخيه سيدنا الشريف عون الرفيق باشا، وبعث لمقابلته من جدة أولاده أخيه الشريف حسين باشا ابن المرحوم الشريف علي باشا ابن المرحوم سيدنا الشريف عبد الله باشا، وبقي الناس في انتظار قدومه إلى يوم الثامن من ذي الحجة، وكان كثير من الناس توجهوا إلى جدة لمقابلته، وبقية الناس صعدوا إلى عرفة لأداء فريضة الحج، وصعد أيضاً إلى عرفة الشريف عبد الله باشا، فلما كان يوم عرفة، وهو التاسع من ذي الحجة، وصل سيدنا الشريف عون باشا إلى جدة وكان يمكنه إدراك الوقوف بعرفة لو توجه من جدة مسرعاً، لكن كان معه شيخ الحرم النبوي وبعض من رجال الدولة ويشق عليهم التوجه إلى عرفة بسرعة السير، فرعاية لهم بقي معهم بجدة وفات الجميع الحج. ووصل إلى مكة يوم النحر، واستقبله بمكة أخوه الشريف عبد الله باشا، ثم صعدوا إلى منى جميعاً عصر يوم النحر، وقرئ فرمان ولايته الذي قدم به معه ثاني يوم النحر على مثل العادة التي جرت في كل سنة، فإنه في كل سنة في مثل ذلك اليوم يقرأ فرمان التأييد لأمير مكة، فجرى الأمر على مثل العادة الجارية([79])، وأقاموا بمنى إلى انقضاء أيام منى ثم رجعوا إلى مكة، وحصل للناس غاية الأمن والفرح والسرور، ثم توجهت الحجوج والقوافل على طبق العادة الجارية كل سنة.
وهكذا لم يذكر عنه السيد أحمد بن زيني دحلان إلا خبر الولاية، مع أنه عاش معه نحو ست سنين، ولكن يبدو أن السيد الدحلان توقف عن التدوين سنة (1300) حيث ذكر منها خبراً صغيراً يخص (عبد الإله بن محمد) عد إلَّه على اصطلاح عامة أهل الحجاز. ثم جاء بعده مؤرخون، لم يتركوا تهمة إلا ألصقوها بعون الرفيق، ونحن إذ أوردنا كثيراً منها، لأنها المصادر المتاحة لتأريخه، لنكاد نشك في أن بعضها له دوافع الله أعلم بها، ولكن ليس لنا أن نبرئ هذا الملك الضيغم.
وهذا إبراهيم رفعت، أمير الحج المصري عدة سنوات في عتهد الشريف عون، يورد([80]): ليس أدل على سيرة عون الرفيق وفداحة ظلمه وتفاقم شره وتماديه في غيه، من كلمات ثلاث:
إحداها: رسالة عنوانها: «ضجيج الكون من فظائع عون» كتبها في 29 ذي الحجة سنة (1316هـ) السيد محمد الباقر بن عبد الرحيم العلوي، يعدد فيها مثالبه ويستصرخ إلى خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد من ظلم هذا الأمير وبغيه.
وثانيهما: رسالة أخرى عنوانها: «خبيئة الكون فيما لحق ابن مهنى من عون» خطها قلم الشريف محمد بن مهنى العبدلي، وكيل الإمارة بجدة وأمير عربانها، وفيها يذكر ما لقيه من حيف عون وعصابة السوء التي كانت تعينه على ظلمه، وترى فيها كيف أن السلطان عبد الحميد كان جاثماً في قصره حوله حاشية فساد لا تعرف له معبوداً سوى المال، وأنها كانت تحول بين الشكايات العادلة والسلطان.
ثم يورد معايب كثيرة، أما أنها تحتاج إلى توثيق أو أنها مما يعمله الملوك ورؤساء الدول إلى يومنا الحاضر، مثل قوله عزل فلاناً وحبس فلاناً. فأي رئيس دولة لم يحبس ولم يشنق الناس، ولكن النظر في السبب.
ثم قال: فمنها خيانة الإسلام والدولة بمكاتباته السرية مع دول النصارى لتمشية أغراضهم، ثابت بعضها بالبرهان الصحيح وبالخطوط التي تحت يد الشريف محمد بن مهنى الموجود الآن بالآستانة وتحت يد غيره.
ومنها أكله معظم الجرايات والمعاشات المقررة من الدولة للبوادي والأهالي حتى اضطروا إلى العصيان وقطع السبل، وبذلك أصبح الحجاز من أخوف بلاد الله.
ومنها تسليطه نداماه وموظفيه السلفة على أعراض الرعايا وأموالهم حتى صاروا يعبثون عبث الذئاب في الغنم.
وأقول: لسنا منتصبين للدفاع عن أحد كائناً من كان، فنحن مؤرخون، تتطلب مهنتنا الأمانة وتحري الحقيقة، غير أن هذا الكلام إطلاق على العواهن، وتشتم منه رائحة التحامل، ورفعت قضى كل رحلات الحج في عهد عون، ولعل بينهما ما بين المتعاصرين، أما مخابرة الأجانب، فما بقي مسلم واحد إلا خابرهم! وبقيّة أقواله تحتاج إلى سند.
ولك أن تقرأ هذا النص الآتي ثم تحكم، هل هو من التأريخ أم من سباب السفهاء.
ثم ما كفى هذا السفيه الأحمق ما ارتكبه من هذه القبائح التي سارت بها الركبان، واقشعرت منها الأبدان، وعيبت بها الدولة العلية بين الأمم المتمدنة، وزرع بها بغض الأتراك في قلوب شعوب المسلمين، حتى ارتكب ما اضطربت له أقطار الإسلام شرقاً وغرباً، وغوراً ونهداً، مما له به سولت نفسه الخسيسة من محواه اسم السيادة عن أبناء الحسنين عموماً، والسادة العلويين خصوصاً، ومنعه من كتابتها لهم في السجلات الرسمية وغير الرسمية، ومن التخاطب بها، وتهديده من تسمى أو سمى بها، أمر ما اجترأ عليه بنو حرب ولا بن مروان ولا غيرهم من الجبابرة والظلمة، وليت شعري ما الذي سولت له نفسه الأمارة، وهجس بفكره الفاسد من هذه الفعلة الفظيعة؟ وماذا يؤمله من النتيجة، ينفي أبناء الرسول عن انتسابهم إليه؟ أيظن الأحمق أن نغمته الذبابية تزعزت ذلك الجبل الراسخ؛ أو تهز ذلك الطود الشامخ؟ ألم يعلم (لا علم ولا دري) أن أنساب السادات ليست مرتبة على حكمه وهذيانه؟ أن لهم في ضبط ذلك وحفظه دفاتر توارثوها أباً عن جد؛ وتلقوها كابراً عن كابر، كل طائفة منهم مهتمة بضبط أنسابها.
ثم يقول: لكن الغرابة والعجب العجاب، والأمر الذي حار في تأويله أولوا الألباب، هو سكوت الدولة العلية عن مثل هذه الأمور الجارية بمرأى ومسمع من موظفيها، وهي في ذلك بين أمرين، كلاهما قبيح وشنيع، فإنها إما غافلة عن ذلك، وتلك مصيبة عظمى، أو راضية بما هنالك، فالأمر أدهى وأمر، والمصيبة أعظم وأضر([81]).
ونحن نقول مع إبراهيم رفعت: نعم هذه غرابة. ولكنها في صالح المترجم له، فالدولة التي عزلت أباه عدة مرات، وعزلت سلفه عبد المطلب عدة مرات، هل كانت عاجزة أن تعزل عوناً، أم أنه لم يثبت لديها ما تكرم به رفعت؟!.
بل إن هذه الدولة كانت تعزل من قيل إنه من أصلح ولاتها (عثمان نوري) بمجرد وصول برقية من عون الرفيق! فما تبرير العاقل لمثل هذا؟!.
ثم يقول رفعت: وهنا ربما اندهش القارئ لسكوت جرائد الأجانب عن الإشارة إلى شي مما شرحناه مع وقوفها للدولة العلية بالمرصاد ومحاسبتها لها على الأنفاس، وترقبها لكل بارقة، فإذا صار ببلاد الدولة أدنى أمر نشرت له الأعلام وضربت به الطبول ونفخت له البوقات وزمجرت به الخطباء، وجسموه بمكبرات أغراضهم حتى يتخيل السامع أنه أمر عظيم وخطب جسيم، فكيف يسوغ سكوتها طول هذه المدة على هذه الفظائع؟! المتكررة الجارية على مرأى ومسمع، وجوار من قناصل الدول، أترى سكوتها عن ذلك محبة للدولة أو ستراً لمساويها؟ لا والله! ما غرضها إلا تمادي هذا الأمير الظالم الملحد في هذه الفظائع حتى يعود الحجاج إلى أوطانهم وأصقاعهم ناشرين تلك القبائح.
قال مؤلفه: ونحن أيضاً نتساءل مع إبراهيم رفعت، ولكن يقال لنا: متى كانت وسائل إعلام الغرب تتستر حتى على أقرب الناس إليها، وجل مشاكلنا اليوم معهم هو نشرهم غسيلنا على سيطوح منازلهم!.
أليس هذا موجب للتسائل؟! وأن ما قيل يندرج جله تحت مسميات الحقاد والحسد وحرمان المنتفعين؟.
ونجد أن (ضجيج الكون) مؤرخة في (29/12/1316هـ) أي بعد حج إبراهيم رفعت حجات، ويتبعها بخبيئة الكون للشريف مهنا، ولسنا ندافع عن مهنا الذي هو أجد موظفي عون، ولكن إبراهيم رفعت بعد بحثها مزوداً بشواهد من الشعر، وفي حماس من تكون له قضية يستميت في إثباتها، وما هذا أسلوب المؤرخين الذين عليهم إيراد الخبر، والأخبار تحتمل الصدق وتحتمل الكذب (وما آفة لأخبار إلا رواتها).
فنتساءل هنا: ألا يكون إبراهيم رفعت حانقاً على الشريف عون، لعدم تلطفه به وهو أمير حج الخديوي؟! وأن عوناً يراه من عامة من يدخل عليه ويخرج لا يستحق التمييز وهذا محتمل جداً، خاصة إذا عرفنا شخصية عون الشامخة، وما بين الرجلين من فارق. ألا تكون هذه الحملة كلها من صنع إبراهيم رفعت؟! خاصة أن جميع من أرخ لعون جاء بعد إبراهيم، وتجد كل أخبارهم مستقاة من مرآة الحرمين، حتى الصورة التي نقلها رفعت عن مصدر أجنبي، تناقلوها.
وإذا كان عون ظالماً خائناً للدولة، فهنا سؤالان:
الأول: كيف تلبي طلباته في فصل كل من عارضه من ولاة الأتراك؟!.
والثاني: أليس في دولة بني عثمان خلال (25) سنة من يستطيع أن يجهر ضد عون؟!.
حتى ولو لم يلب طلبه في ذلك، فما سر تعلق الدولة به وإعطائه هذه الامتيازات؟! إذا صدقنا كل ما أوده رفعت بداءاً من المفرقعات إلى الصواريخ الموجهة، فمن يجيب على أسئلتنا المارة آنفاً؟!.
أما قصيدة شوقي، الذي لم يحج البيت ولكن سمع من صديقه رفعت، فهي أرادأ من طلقات الفشنك في المعركة، وبقي فيها قول الله تعالى:
وأليس شوقي هو الذي هجا الحسين بن علي عند قيامه بالثورة العربية الكبرى ضد الأتراك؟! ونرى رفعت يأتي بأنها ماتت، ويذكر تحقيقات، كلها ذهبت هباء، ومع كل ذلك ينشد في حماس وينعي ويبكي ويثغي، وفي كل ذلك لم نجد أن أحداً مس شعرة من رأس عون الرفيق. فيا حضره اللواء إبراهيم: هذه قوة لعون تقهر الدولة التي قهرت أكبر منه، مثل محمد علي باشا؟! أم كرامة لعون الرفيق؟! أم أن كل هذا مَيْن وزور لحرمانك مما كنت تأمل.
ثم لماذا سكت إبراهيم رفعت حتى قضى كل حجاته، وجلس في القاهرة فدونها. ثم تذكر أموراً منها سيرة عون الرفيق؟! لماذا هذا السكوت كل تلك السنوات، وإذا عرفت أن آخر حجاته هي سنة (1325هـ).
وقد مر على موت عون الرفيق سنتان، فنقول: إنه إما كان يكتب ويؤلب على عون الرفيق سراً، ولم يجرؤ على ذكر شيء مما في نفسه، أو أنه سكت حتى مات الرجل، فوقع في لحم ميت.
ولذا فإن أكاد أجزم، على ما لدي من تجارب تأريخية، أن كل مصادر تأريخ عون الرفيق مرجعها، بل مصدرها الوحيد، هو ما كتبه رفعت، فصارت مظالم عون وفظائعه قضية مسلمة، فإن صدق إبراهيم -وأنا أشك في ذلك- فله صدقه، وإن كذب بهذا المين والفجور، فأين يذهب من الله يوم يقوم الأشهاد؟!.
ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل وأن يجري في عقولنا الحقائق مجردة، واستغفر الله رب العالمين.
ويأتي بعد الدكتور إبراهيم رفعت رجل آخر من قومه، هو: محمد لبيب البتنوني([82])، ولعله أخذ جل معلوماته من رفعت، فقال في كتابه (المرحلة الحجازية)([83]) وهو يذكر الشريف حسين الشهيد: وتولى بعده الشريف عبد المطلب للمرة الثالثة، ولكنه عزل عنها سنة (1299هـ)([84])، وتعين بدله الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون، فأخذ في تمكين قدمه في مركز الشرافة، وعمم نفوذه على العرب والمأمورين من الأتراك حتى كانت الولاة كأنهم من المأمورين عنده، إلا في زمن ولاية عثمان نوري باشا الأولى فإنه ضرب فيها على يديه، ولكنه نقل من ولاية الحجاز بسعي عون الرفيق وموازريه في الآستانة، ومن وقتها خلال له الجون، فكان يعطي ويحرم، ويسعد ويشقي، ويمنع وينعم. وقد كان ينزع إلى مذهب الوهابية أو ما يقرب منه، فهدم كثيراً من قباب المزارات وخصوصاً في المعلاة، ومن ذلك قبة سيدنا عبد الله بن الزبير، بل وصل به الحال إلى أن أمر بهدم قبتي السيدة آمنة والسيدة خديجة إلا أنه ما عتم أن استرجع أمره، وكذلك أمر فأزيلت تلك الرَّحى التي كانت في مولد السيدة فاطمة (دار خديجة) رضي الله عنهما، وكانوا يزعمون أنها هي التي كانت تطحن عليها في حياتها، وأمر أيضاً بتوسيع باب غار حراء في جبل ثور وهو الذي خيم على بابه العنكبوت بعدما آوى إليه رسول الله مع رفيقه أبي بكر عند هجرتهما من مكة إلى المدينة، وكان بابه لا يسع إلا نفراً واحداً يدخل منه زاحفاً على بطنه، وكان الناس يزعمون أن لا يدخله إلا السعيد وأما الشقي فلا، فأراد، بتوسيع هذا الباب، إزالة هذا الوهم الفاسد، إلا أنه لم يكن له على كل حال أن يغير شكل أثر طبيعي مثل هذا من أجلّ الآثار ومن الأشياء التي كان الإنسان يقدر فيها تلك المعجزة التي خدمت الطبيعة([85]) فيها أشرف مخلوق حتى حيل بينه وبين أعدائه. وقد كان يميل سامحه الله إلى الرفه بكل أنواعه فكان عنده على الدوام المطربون بالآلات والفرايحية (الطبالون) والضاربون بالنوبة، وجملة ما يقال في معاملته للناس إنه كان نهاباً وهاباً. واستقدم أتوموبيلاً([86]) من أوروبا كان يركبه في طريق الطائف ولكنه مات بموته. وأنشأ بستاناً جميلاً شمال جرول (بمكة) وهو المكان الذي يخيم عنده المحمل المصري، وجلب إليه أشجاراً كثيرة من مصر والهند والشام وغيرها، وساق إليه الماء من عين زبيدة، ويقال إنه كان في مدته جنة من الجنات لم يسبق له نظير في مكة، أما الآن وقد انصرفت عنه المياه فقد جفَّت أشجاره وذبلت أزهاره، وأصبح كقطعة من غابة في الصحراء تنعق فيها الغربان، وتزعق فيها العقبان، سبحان مغير الأحوال بيده الملك وهو على كل شيء قدير([87]).
ومات الشريف عون بالطائف يوم الاثنين 16 جمادى الأولى سنة (1323هـ) واختلف الناس في أسباب موته؟!.
وهكذا نرى البتنوني نقل هذه الخلاصة عن اللواء إبراهيم رفعت، ولم يقل منِ عنده شيئاً، ولعله لم ير ما رأى سابقه، والبتنوني جاء بعد موت الرفيق بسنوات خمس([88])، أو هي أربع.
وجاء بعد البتنوني عمر رفيع([89])، وذكر عون الرفيق وعدداً من أعماله، فأخذنا مما قال، ما يصلح لهذا الكتاب، قال([90]):
إمارة الشريف عون الرفيق
ولما فصل الشريف عبد المطلب عن الإمارة، أسندت الحكومة العثمانية الإمارة إلى الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون([91]) وقد كان إذ ذاك في إسطنبول ووصل مكة في أواخر سنة (1299هـ)، ولم يدرك يوم الوقوف بعرفة فجرى الاحتفاء به بمنى في أيام التشويق، وكان في أول أيامه على وضع عادي كأمثاله من الأمراء، إلا أنه ما عتم أن وقع الخلاف بينه وبين الوالي عثمان نوري، لأن الوالي المشار إليه، كان سبق القول، حازماً قوي الشكيمة، وقد تمكن من استمالة جماعة من أعيان البلاد وعلمائها منهم الشريف حسين بن علي الآنف الذكر([92])، وقد كان على صلة عميقة معه منشؤها تصدي الوالي لعزل الشريف عبد المطلب، فقد كان الشريف حسين وعمه الشريف عبد الإله ممن آزر الوالي في ذلك، لما بين العائلتين من المنافسة والتطلع إلى إمارة مكة، وقد ظلت الإمارة في آل عون إلى أن ثار الشريف حسين بن علي كما هو معروف.
اشتد الخلاف بين الوالي عثمان نوري وبين الشريف عون، مما اضطر معه الشريف عون أن يترك مكة ويسافر إلى المدينة المنورة مع بعض حاشيته، باسم الزيارة، ومن هناك أخذ يكتب إلى مقام السلطنة بالطعن في الوالي، وينسب إليه أنه يكره الأشراف وأنه إحال مقابر المسلمين إلى منتزه له، وذلك غير صحيح، فإن الأرض التي أقام عليها المنتزه، وجعل سقياه من فائض عين زبيدة كانت فضاءاً ولم يختصه لنفسه، بل جعله منتزهاً عاماً لسائر الناس وإن كان يخرج إليه أحياناً في بعض الأيام، كأي فرد عادي، فقد كان الوالي المشار إليه في غاية التواضع والاستقامة.
ظل الشريف عون في المدينة، يفتل الذروة والقارب لدى السلطان عبد الحميد إلى أن استجيب له بفصل الوالي عن مكة. عاون الشريف في ذلك السيد أبو الهوى الصيادي([93]) الرفاعي، فقد كان ممن يعتقد السلطان في صلاحه، كما آزر في ذلك السيد أحمد أسعد المدني وكلاهما من المقربين لدى السلطان.
وانتهت علاقة السيد أحمد أسعد بأن زوج الشريف عون ولده الوحيد من بنت السيد أحمد أسعد المشار إليه، وكان ولداً ضعيف الإدراك والعقل([94])، سكن بعد موت والده مصر وولد له من بنت السيد أحمد أربعة أولاد ذكور عهدي بهم يسكنون مصر، ولأحدهم، وأظنه توفي، بنت هي الأميرة([95]) دينا التي تزوجت الملك الشريف الحسين بن طلال ملك شرق الأردن الحالي، ثم انفصلت عنه ولا زالت بمصر أستاذة في كلية الآداب بالقاهرة، فهي من خريجيها.
رجع الشريف عون إلى مكة، بعد أن تحصل على أمر فصل الوالي، متنمراً تمتلئ نفسه غيظاً على الوالي ومن شايعه من أهالي مكة والأشراف، وكان أول عمل بدأه أن كلف أعوانه بأن يترقبوا اليوم الذي يسافر فيه الوالي عثمان نوري مبارحاً مكة، فيبدأون في هدم سور البستان الآنف الذكر وقطع أشجاره ليشهد الوالي ذلك وهو خارج إمعاناً في إغاظته([96])، لأن من الأسباب التي أدت إلى المشاحنة بينه وبين الوالي رغبة الشريف عون في التدخل في شؤون الهيئة التي أسسها الوالي للعناية بمصالح عين زبيدة وتعميرها كلما جد لازم.
ولم يكف الشريف عون أن أمر بهدم البستان وتقطيع أشجاره، بل دفعه الحقد والغيظ أن أمر النوارة أن يأتوا بالنورة([97]) ويطفؤها في أرض البستان لتتلف ولا تعود تصلح للزرع، كما أخبرني بذلك من عاصر الحادث، ثم بدأ في تتبع من كان يشايع الوالي المشار إليه، فحبس بعضهم وكلف بعضهم بمبارحة البلاد، وممن كلفهم بالمغادرة الشريف الحسين بن علي لصلته الوثيقة بالوالي، كما سبق القول، فسافر إلى الآساتانة وهناك عينته الحكومة عضواً في مجلس شورى الدولة، وكان عدد من شتتهم نحو أربعة عشر نفراً من وجهاء البلاد وعلمائها، واتخذ له بطانة من أراذل الناس سموا الخزناوية فكان فيهم الحمّار والمولى ومن شاكل هذه الطبقة، وأغدق عليهم من رعايته ما مكنهم من التسلط على الأهالي والإمعان في إهانتهم، وتطور بهم الحال إلى أن صاروا يأتون من الأعمال ما يستحى من ذكره، وأخذوا في التسلط على الناس والتوسل لابتزاز أموالهم بشتى الطرق.
وسبق أن ذكرت، في فصول سابقة، أن الشريف عون هدم قباب بعض الصحابة والأولياء، وحظر إلباس لأولاد الحجب والتمائم، وأن الخزناوية اتخذوا هذا الحظر وسيلة للارتشاء، واختل الأمن في الطرقات خصوصاً في طريق المدينة وجدة، وأخذ البدو والعيار يعترضون الحاج بالنهب والقتل في الطريق إلى عرفة ومن بين أشجار السلم التي كانت بتكاثر هناك، بل وحتى في أطراف البلدة عندما تبرز القوافل للسفر، مما ضج معه العالم الإسلامي بالشكوى. ويذكر قصيدة([98]) شوقي المتقدم ذكره، ومنها:
ضج الحجاز وضج البيت والحرم
واستصرخت ربها في مكة الأمم
قد مسها في حماك الضر فأقضى لها
خليفة الله أنت السيد الحكم
تلك الربوع التي ربع الحجيج بها
أللشريف عليها أم لك العلم؟
أهين فيها ضيوف الله واضطهدوا
إن أنت لم تنتقم فالله منتقم
ومنها:
يد الشريف على يد الولاة علت
ونعله دون ركن البيت تستلم
وكل ضجيج الكون، وخبيئة الكون، وضج الحجاز، لم تجد مع الشريف عون فتيلاً! أهو محفوظ؟ أم ذو كرامة؟ أم هو مظلوم؟! ولكن الذي تقدم من تأريخ الأشراف والولاة لم يحدث فيه أن نسب ربع ما نسب لعون لأحد منهم ثم لم يعزل، فمه؟!.
ويقول: ولقد أمعن الشريف عون في إذلال المكيين وامتهانهم بشتى الوسائل، ومن جملة ما اتخذه في هذا السبيل أن اختص برجل معتوه واصطفاه جليساً له، هيأه بأجمل اللباس بعد أن كان يمشي في الأسواق شبه عار، وبنى له داراً فخمة في القشاشية، وخصص له عربة من عرباته يصحبها في ذهابه إليه وإيابه إلى بيته، وكانت ثلة من البواردية يجبرون الناس من المارة وأرباب الدكاكين على الوقوف له قياماً لتحية ومن امتنع عن ذلك ضربوه.
وذكر عمر رفيع تلك القباب التي أزعج هدمها أهل مكة، فقال([99]):
هذه الأبنية والقباب التي ذكرت، ما عدا قباب قبور الهواشم (أي بني هاشم)، هدمها الشريف عون الرفيق أمير مكة الأسبق، ولم يكن هدمها([100]) لها بدافع تنبهه لما تجره هذه القباب والمزارات من مفاسد، واستذكاراً لما يفعله العوام عندها من محاذير يأباها الشرع وتأباها العقيدة الصحيحة السليمة، وإنما هي خطرات من وساويسه، بل كان ذلك منه بإغراء أحد النجديين القاطنين بمكة للاتجار من أهالي شقراء على ما أعلم، وكان على جانب من العلم وسلامة العقيدة، ويدعى أحمد بن عيسى، كان يجالس الشريف عون ويسمر لديه في كثير من الليالي، فأغراه على ما ذكرت من هدم القباب، وعلى ما كان يتخذه المكيون من توشيح أولادهم بالحجب، وبعض الصفائح من الفضة.
وكانت السخرة قائمة، فإذا أراد الشريف الطلوع إلى الطائف سخروا له الجمال والدواب، ولم تقتصر السخرة على ذلك بل كثيراً ما يقبض أعوانه من الخزناوية وغيرهم على المارة لتشغيلهم في البناء فعلة وعمالاً، سواء كانوا ممن يليقون لذلك أم لا، وقد أخبرني بعض صناع والدي في عمل السبح أنه كان عند خروجه للسوق يتحصن بلبس الطربوش على رأسه ليوهم من يصادفه أنه من أفراد الجالية التركية.
هذا ما أخذناه من المرجع المذكور، وكما يقول الشاعر عبد الله الطالبي([101]):
(ونص الحديث إلى أهله
فإن السلامة في نصه)
ولن نقول للسيد عمر رفيع: ما أدراك إن هدم تلك القبور ليس عن عقيدة؟! أشققت قلبه؟! ثم أيها العزيز لو كان عون حياً أو أحد أسرته حاكماً، هل تكتب هذا وتصرح به؟ أو كما يقول المثل العراقي: (إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه!).
أما السباعي الذي جاء بعد كل من تقدم، فيذكر عون الرفيق، فيقول([102]):
عون الرفيق: وظل عبد الله([103]) في وكالته أياماً، ثم تبلغ توجيه الإمارة إلى أخيه عون الرفيق بن محمد بن عبد المعين بن عون، ثم ما لبث أن وافته الأنبا بقدوم أخيه، فندب للقائه في جدة بعض الأشراف من أبناء أخيه يتقدمهم الحسين بن علي، ملك الحجاز فيما بعد، فاستقبلوه في جدة في 9 ذي الحجة عام (1299هـ) في موكب حافل وظلوا بقية اليوم معه بعد أن فاتهم موقف عرفات، ثم توجهوا جميعاً إلى منى حيث احتفل بقدومه فيها.
وعبث بعض المفسدين من قبائل زبيد وبشر ومعبد وسليم([104]) بالأمن وقطعوا طريق القوافل بين جدة ومكة في رمضان عام (1300هـ) فجهز الشريف عون جيشاً لقتالهم ففروا إلى عسفان فأدركهم وأوقع بهم حتى أطاعوا له.
وفي هذا العهد توفي الشيخ أحمد زيني دحلان صاحب «خلاصة الكلام» وذلك عام (1304هـ)، وما لبث أن نشب الخلاف بين عون والوالي التركي عثمان باشا نوري بسبب الخلاف على السلطة، فعزلت الدولة عثمان وعينت حسين جميل باشا. وفي عام (1304هـ) قبض عون على موسى البغدادي وأمين ماصية لي ومحمد السعدي فنفاهم إلى خارج البلاد.
وتم القبض على الشيخ إبراهيم العجيمي وعبد الله كردي، إمام الشافعية، والشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله فقيه، أحد الأئمة، والشيخ علي زين العابدين هندي ونفاهم كذلك.
وقد ذكر أنهم كانوا يتصلون بالوالي عثمان باشا فنهاهم عن ذلك حتى انتهوا، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى الاتصال بالوالي الجديد على أثر وصوله فعاقبهم بالنفي.
كما عزل الشيخ عبد الرحمن الشيبي من وظيفة السدانة ونفاه إلى الهدى([105])، فظل فيها إلى أن مات وعين للسدانة غيره من آل الشيبي.
وقد رفعت قضايا النفي إلى دار الخلافة فلم توافق عليها وأباحت لهم العودة إلى مكة فعادوا. وفي سنة (1314هـ) صدر أمر الشريف عون بإبعاد الشيخ عبد الرحمن سراج، مفتي الأحناف، والشيخ محمد عابدين حسين، مفتي المالكية، والسيد إبراهيم نائب الحرم، والسيد علوي سقاف شيخ السادة بمكة، والسيد عبد الله بن محمد الزواوي.
ويذكر بعض من عاصر الشريف عون أن المنفيين كانوا قد كتبوا إلى الخليفة عبد الحميد يشكون من أعمال الشريف عون في مكة في مضابط موقعه بأسمائهم، فأعادها إلى الخليفة([106]) أو المسؤولون في القصر ممن يميل إلى سياسة الشريف عون. أعاد تلك المضابط إلى الشريف عون ليطلع عليها فانتقم لنفسه من أصحابها وعاقب بعضهم بالسجن والبعض الآخر بالنفي.
ويذكر بعضهم أن المضابط أعيدت إلى مكة تصحبها لجنة على رأسها أحمد راتب باشا للتحقيق في موضوعها، وإن عوناً استطاع أن يكسب ود أحمد راتب باشا ويظفر بنتيجة التحقيق، وقد ظل راتب باشا في مكة على أثر ذلك يقوم بوظيفة الوالي بعد أن عزل جميل باشا.
ويذكر هؤلاء أن عوناً غدا أشد وطأة على الأهالي بعد قضية المضابط، وأنه بعد أن انتقم من أصحابها اشتط في معاملاته مع غيرهم مما كان له أسوأ الأثر.
ويبدو أن الشريف عوناً كان -بغض النظر عن موضوع المضبطة- غريب الأطوار متناقض الأعمال، يقدس بعض معاصريه فيه غزارته العلمية ومحبته للخير العام وتبسطه في مجالسه الخاصة وتودده للمسالمين، وينعون عليه في الوقت نفسه تبذله بين ندمائه، وقسوته في معاملة الحجاج وإمعانه في عقوبة مخالفيه واصطناعه الخزناوية الذين كانوا يضطهدون عامة الشعب.
الخزناوية: فرقة اتخذها الشريف عون كحرس خاص لخدمته والاستعانة بهم على تنفيذ أوامره، فكانوا يتسلطون على الأهالي ويستغلون نفوذهم في اضطهاد من يضطهدونه أو يطمعون في أمواله، فكان لا يجرأ أحد على الشكوى منهم.
ويعلق بعض المنتقدين بمرارة على أعمال الخزناوية ويقول: إنه كان يختارهم من طبقات العامة ويجيز لهم من النفوذ ما يستطيعون به إذلال الخاصة نكاية لهم.
ومما يحفظه معاصرو الشريف عون من القصص، التي تدل على غرابة أطواره، أنه كان يأمر بهدم بعض قباب القبور بحجة أن أصحابها لا يستحقون التقديس، ويعفو عن بعضها بدعوى أحقية ذلك.
ولمؤلف هذا الكتاب، تعليق على هذا في الطبعة الرابعة التي تولى الإشراف عليها، وهو:
(ذكر عبد الله البسام في كتابه «علماء نجد خلال ستة قرون» ص 156 ج1، أثناء ترجمته لأحمد بن عيسى نقلاً عن المرحوم محمد نصيف ما يفيد بان الشريف عوناً انتمى إلى مذهب السلف على يد أحمد هذا، وأنه أقنعه بهدم القباب فوافقه على ذلك وقربه، ولم يبق غير قبتي السيدة خديجة رضي الله عنها وقبة حواء بجدة عليها السلام).
ويتابع السباعي: ويذكرون أنه عمد إلى رجل من المجاذيب يسمونه علي بو([107]) كان يذرع الشوارع بجسمه العاري، فجعله من جلسائه بعد أن أمر بتنظيفه وتعليمه ارتداء الأثواب الفخمة التي تؤهله لصدور المجالس.
قالوا إنه اتخذ هذا المجذوب أنيساً، وأمر علية القوم وعظماءهم بتقبيل يده، وأحله مكان الصدارة منهم، وكان إذا خرج في موكبه جعل المجذوب عن يمينه في عبته الخاصة، وإذا ركب المجذوب عربته الخاصة أمر الناس بالوقوف له لتأدية التحية على نحو ما يفعلون لدى مرور الموكب الأميري.
وأراد أن يشيد للمجذوب قصراً فخماً، فابتاع له بعض الدور القريبة من المسجد في القشاشية، وهي من أهم شوارع البلدة، وأجبر أصحابه على الإخلاء ثم هدمها وبنى القصر مكانها، وقد هدم القصر أخيراً بمناسبة توسعة المسجد الحرام.
وعمد إلى قطعة أمام القصر مكتظة بالبيوت فحكم على أصحابها بإخلائها ونقدهم ثمنها، ثم أمر بهدمها ليجعل منها حديقة يمتع المجذوب بصره فيها، ويبالغ بعضهم فيقول إن عوناً أراد أن يتوسع في الهدم حتى ينتهي إلى الغزة ليجعل المسافة بين قصر الإمارة وقصر المجذوب خالية لا يعترضها، عند النظرة فيها، شيء بين القصرين وهي مسافة لا تقل عن 300 متراً.
ويقول بعضهم إن فكرة الهدم لأجل الحديقة أو غيرها لا أساس لصحتها، وإن امتلاك تلك البيوت وهدمها كان الغرض منه تشييد نزل للحجاج متسع الأطراف تنفيذاً لرغبة الخليفة عبد الحميد الذي أوصى بتشييد ذلك وبعث بالأموال اللازمة فتم الإخلاء والهدم. والواقع أن القطعة المذكورة من الأرض ظلت خالية طوالي أيام الشريف عون، ثم أجرها ورثته بعده لبعض الناس الذين اتخذوا منها دكاكين وبيوتاً من الصفيح، وقد ظلت كذلك إلى عهد الحكومة السعودية الحاضرة، حيث ألزمت الورثة من آل عون بتخطيطها وبناء دكاكين وشوارع فيها، وقد دخل اليوم بعضها في مشروع توسعة المسجد.
ويميل بعضهم إلى الاعتقاد بأن الشريف عوناً كان يعتقد الولاية والصلاح في علي بو، وأنه كان قد تنبأ مرة بنبوءة عند عودن فاعتقده، وكنت أعرف علي بو بعد عهد عون، وقد عاد إلى الشوارع يذرعها كسابق عهده بها، ولكنه لم يكن عارياًُ بل كان أهله يكسونه ما يكتسي به الناس عادة، حادثته مراراً فلم أجد في أحواله ما يلفت النظر، فقد كان جنونه عادياً، وكان يميل إلى الانفراد وقلة الحديث، وكان لا يرى إلا مطرقاً في هدوء، وقد تبادره إلى الحديث فلا يجيبك إلا بعد إلحاح بلازمة اعتادها على الدوام في كلمة واحدة: «هي مقضية.. مقضية.. مقضية إن شاء الله».
ويميل البعض إلى إمعان عون في الدهاء سول له العمل على نكاية العظماء باتخاذ هذا المجنون جليساً له يقدمه عليهم ويأمرهم بتعظيمه وتقبيل يده، ويميل فريق آخر إلى التدليل لقصة علي بو على غرابة أطوار الشريف عون.
وإنني أميل إلى الرأي الأخير، وأعتقد أن ذلك في أوساط العظماء وقواد الأمم لا يخلو منه زمان، شأنهم في ذلك شأن عامة الخلق، لا فرق بينهم فيه إلا فيما كان من نوع الأثر الذي يتركونه في بيئتهم وما يحيط بهم، فالتجاوز عن المألوف عند العظماء يستعير فخامته من مراكزهم الممتازة ويترك أثره قوياً فيمن يحيط بهم، وقد يجد من يشايعه ويتأول له ويضفي عليه من نعوت النوابغ والعباقرة وجبابرة العقول ما يحير الوصف، كما يجد في الوقت نفسه من يمعن في نقده ومقته وينسج حوله آلاف القصص المثيرة للضحك والإشفاق زراية بأصحابه وانتقاماً منهم، وقد ورثنا التاريخ في العالم آلاف القصص مما كان ينسج حول أصحاب الأطوار الغريبة من قادة الأمم، بعضها يصورهم في صدق كما يبالغ بعضهم في تشويههم، وكلها تجمع على أن الطبقات الممتازة في الحياة منيت بأصحاب التصرف الغريب كغيرها من مختلف الطبقات.
وإذا كان أثر التجاوز في الطبقات الممتازة يستعير فخامته من مراكزهم فإنه في الطبقات المتوسطة وما تحتها يمضي -كما نشاهد- ضئيلاً دون أن يخلف بعده ما يدل عليه.
ويغرب بعض مشايعي الشريف عون، ممن حدثتهم في شأنه، فيقول إن عقلية عون الجبارة هدته إلى أفضل طريقة تمكنه أن يتقي بها كيد عبد الحميد، الذي كان يشك في جميع المستنيرين من عماله وموظفيه، أن يصطنع هذه الأعمال ويجالس المجانين ليوهمه أنه أحد السذج الذين لا يعتد بهم، كما يغرب بعض من لاقيته فيقول إن عوناً كان ساذجاً بالفعل، وإن تصرفاته في إدارة الحكم كانت تدل على سذاجة مطلقة.
ويمكننا إذا أردنا أن لا ننكر عليه علمه وفهمه في الحياة أن نرد تصرفاته إلى مثل ما الذي اعترى قبله كثيراً من عظماء الأمم.
فيل عون: وأهدى أحد عظماء الهند للشريف عون فيلاً، فكان الفيل ينطلق في شوارع مكة يصحبه مروضه، وكان يضيف في الطائف إذا صيف الشريف عون.
بعض أعمال عون: أنشأ الشريف عون بستاناً بجرول تبلغ مساحته 370 × 180 متراً مسوراً ارتفاعه متران في وسطه خزان للماء «بركة» طول ضلعه 6 أمتار وسمكه ثلاثة أمتار وربع وارتفاعه أربعة أمتار، يصعد إلى أعلاه بدرج، وكان يزرع في البستان الجوافة والجوز الهندي والبرتقال والليمون والنخيل والعنب والكادي والورد والبرسيم والكرنب وأنواع الخضراوات.
والذين ينعون على عون قسوته في معاملة الحجاج يذكرون أنه فرض على مواصلاتهم أجوراً باهظة بالنسبة لمستوى الأسعار في ذلك العهد، فيقولون إنه في سنة (1303هـ) كانت أجرة الجمل للشقدف من مكة إلى المدينة ثم ينبع 23 ريالاً، ومرجوع جدة 38 ريالاً، ومرجوع الوجه 35 ريالاً، ويدفع ريال للشريف وريال للوالي وثالث للمخرج ورابع للمطوف، ومن المدينة ريال للمزور وآخر للميري أي لخزانة الحكومة العثمانية.
وفي دليل الحج لصادق باشا أن عرب البادية قطعوا الطريق على القافلة، وظلت ثلاثة أيام حتى دفعوا عن كل جمل ريالاً، ثم دفعوا في عسفان نصف ريال عن كل جمل.
وفي 7 محرم عام (1304هـ) خرجت قافلة من مكة إلى جدة فيها نحو 300 جمل يحرسها 50 عسكرياً، فلما صاروا بين بحرة وقهوة العبد في الساعة 3 ليلاً هجم العربان على القافلة وأطلقوا سلاحهم الناري على العساكر واشتغل بعضهم بالنهب، وقد أسفرت المعركة بعد النهب عن قتل ثمانية من الحجاج ومثلهم من الجمالة عدا الجرحى، ولما اتصل الخبر بمكة جردت حملة عسكرية عليهم.
وفي عام (1318هـ) قسم عتون طوافة بلاد مصر وجاوه والهند والمغرب وبلاد الأناضول وغيرها أقساماً تسابق المطوفون إلى شرائها، وبذلك ألغى سؤال الحاج عن مطوفه وألزم بتبعية المطوف الذي اشترى حقوق الطوافة للبلاد التي يتبعها ذلك الحاج.
وإذ يرى القارئ أنني أكثرت فيما نقلته عن الشيخ أحمد السباعي، فإن ذلك لأمور منها:
1- إنه هو اعتمد على (إفادة الأنام) للشيخ عبد الله الغازي([108])، وهو معاصر لعون الرفيق. ولد الغازي سنة (1290هـ) ولم أستطع أن أستفيد من كتابه مباشرة لعدم حصولي على نسخة مقروءة منه، ولكن السباعي متهم عندنا فيما نقل.
2- لم يكن السباعي متحاملاً على أحد، وهو معتدل، يحلل ويناقش، وأدرك كثيراً ممن عاصروا عون الرفيق، ولد السباعي سنة (1323هـ)، وشب بين معاصري عون الرفيق، ولم يذكر كثيراً مما يذكر إبراهيم رفعت إلا نقلاً عنه، وكذلك كل مؤرخي عون الرفيق مما يجعلنا نجزم بان إبراهيم رفعت ذو هوى أو مغبون.
3- عرفت السباعي معرفة شخصية، فأعتقد أنه -ولا أزكي على الله أحداً- صدوق يتحرى الحقيقة، وكثيراً ما سمعته يعلل الحكايات، بقوله: لعل لها سبباً نجهله، لعل هذا من أقوال أهل الهوى... الخ.
وكما قيل: الحاكم يعدل ويجور، ولكن بيت النبوة قمنته العدل.
وكما قال المراغي([109]): (وما زالت الأشراف تهجى وتمدح).
ولكن الأشراف عوناً بقدر ما خضعت له الرقاب، نبت عنه القلوب، وممن مدحه الشاعر حسن وفا، فقال([110]):
روض السرور بطيب الأنس قد نفحا
وصادح اليمن في حي الصفا صدحا
وافتر ثغر التهاني من ترنمنا
وطاب صدر كرام الحي وانشرحا
فكل شهم بحانات السرور غدا
بالصفو مغتبقاً منه ومصطبحا
سر القلوب بما أبداه من فرح
بمدح أعظم من في الكون قد مُدحا
سلطاننا الآمر الناهي الجليل ومن
في ملكه بملوك الأرض قد رجحا
برٌّ رؤوف تقي عادل ورع
من آل بيت جليل فضله وضحا
من آل بيت تسامى في العلا شرفاً
به الزمان لإصلاح الورى سمحا
عبد الحميد الذي من حسن سيرته
تبسم الملك من أوصافه فرحا
أفعاله غرر تزهو بدولته
وجوده درر في جيد من نصحا
عمت مكارمه أهل الصلاح ومن
ساس الأمور وفي أجزائها نجحا
والسيد الشهم عثمان المشير بدا
به الصلاح ببيت الله واتضحا
شهم مع الحزم أبدى في سياسته
حكماً أزال به الأضرار واطرحا
قرت به عين جيران الإله ومن
دنا من السادة الأمجاد أو نزحا
ولكن هذه القصيدة، رغم أن صاحب أعلام الحجاز([111]) نسبها إلى مدح عون الرفيق، فقد ذكر الشاعر أسماء، ولم يذكر اسم عون الرفيق بينها.
الخلاصة
لست مدافعاً عن الشريف عون الرفيق، وليس من همي أن أدافع إلا عمن أراه مظلوماً، وعون الرفيق إن لم يظلم في كل ما نسب إليه، فلا يسلم من كل ما نسب إليه، ولعل له عذراً في بعض ما أتى، وهذا أبو العلاء، يقول: (لعل له عذراً وأنت تلوم).
ولكن أردت هنا أن أوضح بعض طرائف عون الرفيق، وأوليائه التي لم يسق عليها، منها:
1- اتخذ عون فيلاً ضخماً جلبه من الهند، وجلب معه سائساً، ثم أطلقه في مكة، وكان غالبية بضائع الناس الحبوب، يضعونها في زنابيل يعرضونها أمام دكاكينهم، فكان الفيل يختار ما يريد، ويأكل من هذه الحبوب حتى يشبع. وذات يوم تحمس أحد أهل مكة، فقال: يا قوم لا صبر لنا على هذا فتعالوا إلى سيدنا نطلب منه أن يكف عنا هذا الوحش.
فتحمس عدد من أهل السوق، فوافقوه على ذلك، فانطلق هم، ولكنه كان كلما التفت إليهم وجدهم قد نقصوا!! وعندما ولج باب القصر، لم يجد معه منهم أحداً، فتقدم إلى الشريف الذي سأله عن شكايته؟ فقال: يا سيدنا، هذا الفيل المسكين الذي يجوب الشوارع وحيداً، نطلب منك أن تحضر له فيلة ترافقه وتؤانسه!
فتبسم الشريف ووعده بذلك. فعاد الرجل، وهو يرى أنه انتصف من الذين خذلوه! وذات يوم تقدم الفيل إلى دكان أحدهم -ولعله الشاكي- فعمد إلى عصا غليظة فضرب بها الفيل على رأسه، ولم يدر الفيل عن هذه الضربة، ولكن أخذته غضبة فيلية، فمد خرطومه فلفه حول خصر الضارب فجذبه إلى الأرض، وهرسه بخفة.
فبلغ الخبر الشريف، فأمر السائس أن يخرجه إلى جرول، ويطلق عليه الرصاص. وهكذا قتل الفيل بجوار مقبرة الشيخ محمود في المكان المعروف الآن بقبة الفيل، ودفع الشريف لأهل القتيل الدية.
2- البو: هذا رجل اسمه علي، يدعي أهل مكة أنه معتوه، فما خبره؟ قال من أدركنا: إن الشريف عوناً كان جالساً في مشربية له تشرف على السوق، وكان عليّ ماراً من أمام القصر، وفجأة اندفع إلى داخل القصر بسرعة لم يستطيع الحراس منعه، ووصل إلى الشريف وقبض على يده بشدة، وهو يقول: (قوم قوم قوم) وقام الشريف، وهذا يتلّه تلاًّ، وما أن غادر المشربية حتى وقعت على المكان الذي كان عون جالساً فيه، فمن حينها تشبت به عون الرفيق، وأجرى له ما تقدم ذكره في هذا البحث.
ما هو البو؟! أصل البو كان إذا مات ولد الناقة المولود، يخلج قلبها عليه ويغور حليبها، وقد تموت حزناً، فيعمدون إلى سلخ جلد الحوار الميت، ويحشونه، بحيث يعود إلى خلقته المولود عليها، فَتَرْأَمُهُ الناقة وتدر عليه، ولا تفارقه ليل نهار.
ولما رأى المكيون ولع عون بعلي المذكور، شبهوا علياً بالبو، وشبهوا عوناً بأم الحوار التي لا تفارقه! وهكذا سمي علياً (علي البو).
أين ذهب علي؟! شوهد علي هذا يسير في جنازة عون الرفيق، ودموعه تسيل، وقد تقدم معك أن الشيخ السباعي رآه بعد ذلك وحادثه.
هل هذا البو؟! كنت في جدة في عطلة عام (1369هـ/ 1950م)، وكان يمر في مقاهي باب مكة رجل يظهر عليه البله، يسميه أهل جدة (أبو مقضية) فكان يمر على الناس، وربما قال للرجل (مقضية) فيتباشرون بذلك، وكان يوماً يمر أبي الفتوح وأنا ساهم لحضور وقت الدراسة في مكة، وليس معي ما يوصلني إلى هناك، فوقف أمامي، وقال: (مقضية)، وليس معي إلا قروش فأعطيته شيئاً، وما هو إلا وقت قصير فإذا بزميلي عبد المنعم الخزاعي، فعزمنا على السير إلى مكة على الأقدام.
وفي عام (1373هـ) كنت في الجيش، وكان معنا ضابط خدم في جدة، فذكرت له تلك الحادثة فقال: هذا (البو)! ولم أعلم آنذاك ما البو!
كانت هذه الحادثة، وقد مر على موت عون (46) سنة، ولو فرضنا أن عمره عندما مات عون، هو (30) سنة، فيكون عمره يومها (76) سنة! ولكن الرجل كان يبدو دون ذلك بكثير، غير أن أهل القلوب الخالية من الهم قد يمر عليهم مثل هذا الزمن بلا كثير تأثر. والله أعلم.
3- السيارة: روى مؤرخو عون أنه أول من اتخذ سيارة في الحجاز، وما كانت تعرف، وما شاعت إلا بعد موته بنحو (30) سنة.
وكان الملك علي بن الحسين أهدى لأمير البلادية سيارة ذهب بها إلى النويبع، فتوقفت، ولم تتحرك بعدها، والملك علي جاء بعد عون بنحو عشرين سنة.
4- العقيدة: تقدم معك ما ذكر عمر رفيع وغيره من هدم القبور، ومنع التمائم، ونحوها، وهذا لا يصدر إلا عن عقيدة صحيحة، بصرف النظر عمن أثر عليه، فهذا الرجل الذي قارع الولاة أهل المناصب وهزمهم، لا يأتي شيئاً مجاملة لأحد، الإيمان محله القلب، لا يعلمه إلا الله، فما اعتراض من قال: إنها ليست عقيدة؟! سبحان الله.
5- خفة الروح: قال لي أحد الأشراف: إن زوجته السيدة أم محمد عبد العزيز، كانت حظية عنده. وذات يوم سجن أحد الأشراف، فما بقيت شخصية إلا توسطوا بها فلم يطلقه، فلجأوا إلى السيدة، فأطلقه لها. ثم عرف أن كبار الأشراف والوجهاء سوف يصبحون غضاباً، فعصب على إصبعه الشاهد، وجاء إلى المجلس، فوجد القوم في غاية الحنق، فذكر لهم قصية إصبعه([112])، التي تدل على أنه لا حق لهم في الغضب عليه، فما كان من القوم إلا أن انفجروا ضحكاً.
وزالت الوحشة، ويقول روايتنا: إنه لم يضحك في مجلس عون الرفيق ضحكاً عاماً إلا يومها.
لم أر من ذكر لعون من الذرية إلا ابنه (محمد عبد العزيز) من زوجته فاطمة بنت جاري العسيري. فتزوج محمد عبد العزيز فاطمة هانم بنت السيد أحمد أسعد (ويقال السعدي) من أهل المدينة، وأعقب منها أربعة بنين، هم: أحمد، وعبد الحميد، ويوسف وعلي.
فأعقب عبد الحميد الملكة دينة بنت عبد الحميد، أولى زوجات الحسين بن طلال، وله منها ابنتهما البكر (بكر كل منهما) عالية بنت الحسين، وقد تزوجت في عمان، وكان مولدها سنة (1375هـ).
وأعقب يوسف بن محمد عبد العزيز ابناً سماه عون الرفيق.
والجميع في مصر، اليوم، من كان حياً منهم.
الختام: توفي عون الرفيق بالطائف في جمادى الأولى سنة (1323هـ/1905م ) والبقاء لله وحده.
من كتاب لإشراف على تاريخ الاشراف للشيخ عاتق بن غيث البلادي