المثقف العربي.. التائه «بين ثقافتين»
عندما يفقد المرء هويته الثقافية والحضارية.. تجده في حالة «تيه» لايعرف ماذا يريد.. وماذا يصنع.. انها فقدان للهوية وللذات معا نتيجة غياب التأسيس لمعنى الهوية ومعنى الذات.. والمتابع للمشهد الفكري والثقافي العربي سوف يجد نفسه امام ظاهرتين - تتمثل هاتان الظاهرتان في ذلك المثقف الذي ارتبط ارتباطا جذريا بالماضي وبالتراث وظل حبيس هذا الماضي وذلك التراث دون ان يخرج منهما.. وبالتالي تحول هذا الماضي او هذا التراث الى (سجن) لم يحاول الخروج منه واصبح لايرى في المعرفة الا كونها تلك المعرفة التي لاتكتمل ولا تتكامل الا بالوقوف على اطلال ذلك الماضي وقراءة التراث وكأن ذلك هو نهاية المعرفة ونهاية الفهم.
ثم نجد انفسنا بالمقابل امام ذلك المثقف الذي ارتمى في احضان الثقافة الغربية فهو لايرى ثقافة تضاهيها ولايعتقد بوجود معرفة توازيها ووصل به الأمر الى لحظة الانبهار بكل ما هو غربي لمجرد انه قرأ في الفلسفة لكارل ماركس أو نيتشه أو جان بول سارتر أو قرأ في الشعر لبودلير أو رامبو أو بوشكين أو انه قرأ في حقول معرفية أو ابداعية اخرى ما يجعله لايرى في ثقافة الشرق أو تحديدا في ثقافته العربية والاسلامية ما يضيء وما يفيد على الاطلاق.. انه المنبت «فعلا».
(2)
نحن اذاً امام نموذجين نموذج المثقف الاول الساكن في الماضي والقابع في خيمة هذا الماضي والذي يقرأ التراث لكنه اغلق كل النوافذ دون ان يجعل رياح التغيير تهب لتعطي لهذا التراث روحا جديدة ومختلفة..
والذي لم يقرأ هذا التراث قراءة تقوم على تفكيك الآليات الذهنية التي أسست هذا التراث قراءة علمية على ضوء المناهج الحديثة كما نرى ذلك عند طه حسين ومحمد أركون وادونيس ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وحسين مروه وآخرين.
ثم نرى هذا المثقف المتفتح على الثقافة الغربية يأخذ منها ما يعزز ثقافته التراثية وما يقوي منهجه وتوجهه من اجل خلق حالة من التزاوج والتلاقي بين القديم والجديد.. بين الماضي والحاضر.
اما الثاني والمتمثل في نموذج المثقف الذي وصل الى مرحلة الانبهار بالغرب وكل ما ينتجه هذا الغرب دون ان يلتفت الى تراثه وماضيه.. ليرى ان هناك فكرا حقيقيا انتجه اجدادنا الاوائل وهم العرب المسلمون.
من الجاحظ وابو حيان التوحيدي الى هذا الفكر الخلاق الذي ابدعه وصاغه ابن رشد وابن سيناء وابن خلدون وابن عربي.. والابداع العظيم الذي قاله العرب شعرا عند المتنبي وابو تمام وابو نواس والمعري وآخرون من شعراء العرب الكبار والذي يدل على ان العرب والمسلمين - صنعوا حضارة استفاد منها الغرب وافاد منها كبار المفكرين الغربيين وهو ما يجعلنا نحن العرب نعيد اكتشاف ابن خلدون وابن رشد وابن سيناء مثلا.. من خلال اكتشاف الغرب لهم وللفلاسفة والعلماء والاطباء الاوائل من العرب والمسلمين.
(3)
ان هاتين الظاهرتين اللتين نراهما في المشهد الثقافي والفكري العربي والمتمثلة في هذين النموذجين ذلك الساكن في الماضي - وذاك المنبهر بالغرب - ربما نجد ثالثا لهما يقف في المنتصف يأخذ من التراث اعمقه واجمله ويأخذ من الغرب الرائع والمفيد ومن المناهج الحديثة ما يعطي روحا جديدة ووعيا جديدا دون ان يفقد هذا المثقف هويته الحضارية والثقافية مثل نماذج اركون والجابري وادونيس على سبيل المثال لا الحصر وهؤلاء قلة في العالم العربي اليوم.
ولعلي لن أجد في هذه السطور الاخيرة مثالا ساطعا للمثقف الذي يجب ان نقرأ تجربته والتفاته فيما بعد للثقافة العربية غير الراحل زكي نجيب محمود والذي قال في كتابه الهام (تجديد الفكر العربي): «استيقظ كاتب هذه الصفحات بعد ان فات اوانه او اوشك فطفق في بضعة الايام الاخيرة التي لاتزيد على السبعة أو الثمانية يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان».
ويتساءل د: زكي «كيف السبيل الى ثقافة موحدة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا بحيث يدمج فيها المنقول والاصيل في نظرة واحدة».
.. هكذا يلخص مثقف كبير بحجم الدكتور زكي نجيب محمود مأزق المثقف العربي الباحث عن هوية ثقافية دون ان يعي ان هذه الهوية يمكن ان تتحقق ليس في الماضي فقط ولكن في الحاضر عبر حالة من التلاقي والحوار بين الثقافة العربية والثقافة الغربية معا.. حتى لانجد انفسنا امام مثقف عربي تائه وضائع يقف بين ثقافتين صارخا «أيهما يختار وأيهما يترك».منقول:عكاظ(عادل فقيهي)