محمود عبدالغني صباغ
رفض للأدب والإبداع أم رفض للذاتيات والاختلاف؟
يبدو أن القائمين على الأندية الأدبية والثقافية وجمعيات الثقافة والفنون في بلادنا، باتوا ضحية مباشرة لأوهام الظاهرة الأصولية المؤدلجة، وهدفاً مكشوفاً ودائماً لرؤوس أسهمها اللفظية الحادة. فمن بعد تحريض إمام مسجد في حائل على أعضاء النادي على خلفية عرض فيلم سينمائي آسيوي في قاعات النادي، واصفا إياهم بـ"الغرغرينا التي تستأهل البتر"، إلى الضجيج الذي سبقه من تخريب لعدد من المناسبات، وما سبق وتزامن مع ذلك كله من أحداث شبيهة توزعت على فروع الأندية والجمعيات في كافة مدن المملكة، وتطابقت بصمات أعمالها مع ذات الأجندة الممانعة لقضية الثقافة - إلى الحد الذي دعا أحد رؤساء تلك الأندية إلى تقديم استقالته، احتجاجاً منه على الفوضى التنظيمية والتدخلات السافرة الغوغائية التي تقوم بها أطراف مشبوهة وخفية خارجية بغية تخريب أنشطة النادي أو التأثير على مضمونها.
الحاصل أن الصوت الممانع للأدب والإبداع، ولأعراس الثقافة ومناشطها الجماهيرية، صار يعلو الأسوار: بطشٌ في الخطاب، إلغاء وتسفيه للآخر والمُختلف، وغلبة أجندة مُعلنة تريد افتراس تصورها الأصولي/ المؤدلج لكل فعاليات المجتمع واحتكار كافة محاصيل حقول الثقافة.
ولكن هل يقف خلف هذا الإصرار على الوصاية وحمل الناس على أفكار أحادية محكومة بتصورات أصولية مؤدلجة - لا تُبرِز التنوع المطلوب ولا تتيح لأي حداثة معنوية أن تؤسس لنسقها المعرفي في المجتمع وبنية الثقافة - نزعة طهورية بريئة كما يدعي أولئك الذين يريدون التولي بالنيابة عن تاريخنا وواقعنا الثقافي، أم إن للظاهرة أبعاداً وجذوراً أشد تعقيداً وأكثر التباساً؟
نحن إذا أردنا أن نحصر دوافع ذلك الضجيج الأصولي أو صعود ما يسميه الناقد العربي محمد بنيس بـ"واقع التعامل الأصولي مع الزمن في حياتنا"، حري بنا أن نرصد التكوين الثقافي للممانعين أو طبيعة تفكيرهم المعرفية في تناول والتعامل مع الأعمال الثقافية المتفرقة التي، حُكماً، تصدر مُؤدلَجة إلى حد مفضوح، مما يسقط عنها دعوى الطهورية والورع والخشية على "الفضيلة" و"أخلاق المجتمع".
من المعلوم أن الوعي الأدبي أو الثقافي لا يصعد إلا مع تبلور الوعي الفردي؛ أي الوعي بالذات، والثقة بقدرتها على الإبداع والاجتراح والمبادرة، والمشاركة والمداولة. من هنا يعلو الضجيج الأصولي الحاصل، الذي هو في صميمه، رفضٌ لنضج الذات ونشوزها أو استقلالها عن صفوف الجماعة أو القطيع - خصوصاً إذا سلمنا بأن الانخراط ضمن جماعة يشكل أحد المقومات الأساسية لصعود واستمرار أي ظاهرة تقوم على الحشد والتعبئة. فـ"إذا كانت الأيديولوجيا تعبير الجماعة فإن الأدب هو خطاب الذات" - بحسب الناقد العربي محمد بنيس. وعلى هذا فإن "ما يرفضه الضجيج الأصولي هو بالضبط بروز الذات، والذاتيات. فالأدب لم يكن ليضيف إلى مؤسسة الجماعة ما ترفع به مقصلة استبدادها، بل هو نقيض ذلك تماماً. إنه صوت الذات التي لا تتكرر ولا تتشابه".
إنه فزع من الاختلاف كون حضوره يهدد الواقعة الأيديولوجية في أصلها. فالضجيج الذي يرسخ لمنطقه الخاص ولرؤيته الأحادية، إنما يصدر أساساً، للتهويم على مسار وطريق الحقيقة المعرفية القويم. إن ما يحدث حراسة "للأيديولوجيا" لا انتصار "للمعرفة" الصائبة ولوظيفتها في وصل الحقيقة، وهو من باب أولى ليس غيرةً على الشريعة أو الفضيلة، وإن اتسعت عريضة الادعاءات - بل إنه في كثير من الأحايين يكون أولئك المكتوون بنيران الممانعين أقرب إلى روح الشريعة وأصوب في قرع أجراس المعرفة!
إن أغلب المسائل المُعترَض عليها، ليست قائمة في لائحة ادعائها على أصول فقهية قطعية، أو نصوص شرعية ثابتة ونهائية - هذا ما يدركه الطرف المُمَانِع قبل الطرف المحكوم زوراً وبهتاناً بضلاله. وبالرغم من ذلك، نشهد سيلاً من المغالطات وتغليبا للآراء الظنية أو الأحادية - بحجة أنها من "المُجمع عليها" - هكذا دون أن يتدخل أي من أهل العقول الرشيدة ليرفع عن الأمة وشبابها القيود والأُسُر التي تكبل نوازعهم الإنسانية.
ولسنا نبرر لقضية الأدب والثقافة، ولا نبحث عن صك براءة للمشتغلين عليها والمراهنين على طبيعتها وآثارها في تحرير العقول وتجسيد الذاتيات وإطلاق الإبداع وإشاعة البهجة والجمال، كون ذلك من البديهيات التي تحتمها فحوى وطبيعة خطابهم الصادر، إلا أنه ليس من نافل القول أبداً، التذكير بإرثنا الإسلامي العريق من الممارسات التعبيرية والتجارب الجمالية والفنية.
فلن يمضي وقت طويل حتى ندرك أن الغناء والموسيقى العربية أصلهمها ومنبعهما: مكة المكرمة والمدينة المنورة. وأنهما نتاج لبيئة الحجاز عبر عقود صدر الإسلام، التي أبرزت أعلاماً من المغنين والمغنيات؛ كابن مسحج المكي وابن محرز وابن سريج، وطويس، ومالك بن أبي السمح، وجميلة المكية ولبابة والغريض وعزة الميلاء، ممن زخرت على أيديهم ألوان الغناء العربي من نصب وحداء وسناد وهزج وموشحات ومجسات وصهباء وألحان ووتريات - إلى حد أن عدداً من الباحثين اعتبر في شبه إجماع أن التجربة الجمالية العربية برمتها تعتبر نتاجاً حجازياً إسلاميا كلاسيكياً خالصاً، وأن الأدب والشعر العربي الذي نشأ في نجد، إنما كان الوسيلة التعبيرية التي عبر بها العربي عن أهم الأحداث التي صادفته في حياته، وأفصح فيها عن نظرته الفلسفية الجمالية والأخلاقية العميقة للأمور، وازدهرت فيها عملية إنتاجه عبر بيئة وجغرافيا جزيرتنا العربية المطردة؛ من عوالي نجد، إلى جبال حائل، وبراري القصيم، وبِطاح مكة وبطونها، وسهول الحجاز وأودية تهامة، وواحات العروض والقطيف والأحساء.
علاوة على أنها البيئة التي تبنت وصدرَت تجربة "الحجازيات" : أهم مواضيع الشعر الوجداني الغزلي العربي على الإطلاق - التي اشتغل عليها شعراء مكة الحَضَر كالشريف الرضي وعمر بن أبي ربيعة والعرجي والحارث بن خالد والأحوص ونصيب، واتخذت من مواسم الحج موضعا لغزلهم ذي الطابع العفيف.
وعفو الخاطر في سرد أسماء تراثية، هي في حقيقة الأمر وعلى خلاف ما قد يعتقد بعضنا، أسماءُ باتت تأتينا من المستقبل، كوننا رضينا للزمن أن يتقدم لنتراجع نحن عن الاختيار وحسم مواقفنا.
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- يستمع إلى شعر الخنساء، ويستحسنه، ويطالبها بالمزيد، قائلاً، فيما رُويَ عنه: "هيه يا خناس". كان موقفه من شعر كعب بن زهير وهو ينشد أمامه ووسط حشد جماهيري غفير قصيدة تتغزل في جمال امرأة تدعى سُعاد، تصف تفاصيل جسدها وصفاً صريحاً، استحسان القصيدة، بل، والإيماء إلى صحابته بأن ينصتوا، إلى حد أنه خلع على كعب بردته الشريفة تعبيراً عن تقديره وتذوقه لجمال القصيدة وجودتها.
جوهر الأمر، أن المعرفة الصائبة تنسف دعاوى الأيديولوجيا في أصلها. ولأن الخطاب الثقافي الذي تتجسد فيه الذات وتحضر فيه قيمة الاختلاف، يؤسس إلى سلطة المعرفة: إنما تمانعه الأيديولوجيا بكافة السبل والوسائل، المشروعة منها، وغير المشروعة منها على طريقة صديقنا إمام المسجد.