الغبار الذكي.. خطر بلا حدود
نحن علي وشك أن نشهد طائرة تمرق في السماء وتنثر في الجو غبارا تتساقط حبيباته علي مكان أو منطقة مستهدفة, وبعد السقوط تنشط هذه الحبيبات وتعمل معا كشبكة اختراق وتجسس واسعة النطاق تلتقط الصوت والصورة وترصد درجات الحرارة والحركة لدي كل هدف تلتصق به سواء كان بشرا أو حائطا أو ماكينة أو حاسبا.. ألخ, ثم تنقل هذه المعلومات لجهات بعيدة طوال الوقت, وعلي المتضرر حينئذ أن يدخل أتونا مستعرا من الجهد ويدور حول نفسه حتي يكتشف هذا الغبار وينظف نفسه مما علق به ويحمي أمنه... وهذا ليس خيالا علميا, بل واقع علي وشك الانطلاق والتطبيق الواسع مع ظهور تكنولوجيا الغبار الذكي.
والغبار الذكي تعبير براق يستخدم للتدليل علي التطور المذهل الذي طرأ علي تكنولوجيا المستشعراتsensors, لذا فإن الحديث عن الغبار الذكي هو في الحقيقة حديث عن الأجيال الجديدة من المستشعرات, ولذلك فإن تعريف المستشعرات يصبح نقطة البداية بهذه المناقشة.
المستشعر أداة إلكترونية صغيرة الحجم مصنوعة بطريقة تجعلها تتحسس وتستشعر أو ترصد التغيرات الفيزيائية للأشياء مثل الحركة والحرارة والضغط والتغيرات في المجالات المغناطيسية والإشعاعية والتغيرات الكيميائية كالرطوبة ومستوي الغازات المؤينة والتغيرات البيولوجية كالسمية ومعدلات وجود الكائنات البيولوجية.. ألخ, ثم تستجيب لهذه التغيرات بطريقة معينة وتترجمها إلي نبضات كهربية تماثلية أو رقمية يتم بعد ذلك تحويلها إلي بيانات ومعلومات خام تصف حالة الشيء أو الهدف المطلوب رصده ويمكن قراءتها بواسطة الماكينات أو البشر.
والمستشعرات بهذا الشكل ليست وليدة اليوم بل موجودة منذ فترة طويلة وتستخدم علي نطاق واسع عسكريا وأمنيا وتجاريا وصناعيا وخلافه, لكنها مستشعرات ينقصها الذكاء بالمفهوم الذي نتحدث عنه, فهي من حيث الحجم كبيرة ومرئية للعين حتي أنه يمكن التقاطها باليد, علاوة علي أنه لابد من تثبيتها في مكان ما بشكل محسوب بدقة, سواء كانت معلقة علي حائط أو مغروسة في عنق حيوان يرتع بمزرعة, ووظيفيا ليس لها قدرات اتصالية خاصة, بل تنقل ما تجمعه من معلومات إلي وحدة بث ملحقة بها أكبر حجما وأكثر استهلاكا للطاقة.
وخلال السنوات الأخيرة حدثت تطورات كثيرة في عالم المستشعرات وسارت في مسارات متزامنة ثم تلاقت معا في النهاية حتي صنعت ما يعرف الآن بالغبار الذكي, وقد تمثلت هذه المسارات فيما يلي:
ـ مسار التصغير في حجم المستشعرات وتم فيه تكثيف الاعتماد علي تكنولوجيا التصغير الفائق النانو تكنولوجي في إنتاج المستشعرات فهبطت أبعادها وأحجامها وأوزانها من الجرامات والسنتيمترات إلي ما دون المليمترات والمليجرامات مساحة ووزنا, بل وظهرت مستشعرات لا تري بالعين المجردة, ومع خفة الوزن وتضاؤل الحجم باتت المستشعرات أشبه بحبيبات الغبار وربما أصغر وأخف, وفي الوقت نفسه أصبحت قادرة علي استيعاب العديد من المكونات الجديدة التي لم تكن موجوده بها من قبل.
ـ مسار التعديل والتحسين في الأداء الوظيفي الذي دخلت فيه علي الخط التكنولوجيات الفائقة التقدم المستخدمة في صناعة الشرائح الإلكترونية والمعالجات الدقيقة وكذلك التكنولوجيات المستخدمة في دمج البرمجيات والنظم بالشرائح بالغة الصغر, فانفتح الطريق أمام إضافة وظائف ومقومات جديدة للمستشعر, من بينها التحلي بذاكرة إلكترونية وامتلاك وسيلة مستقلة للحصول علي الطاقة واستيعاب برمجيات دقيقة تجعله قادرا علي اتخاذ قرارات من تلقاء نفسه أو الاستجابة لأوامر تأتيه من بعيد, بالإضافة لقدرات التنصت علي الأصوات والتقاط الصوت والصور ونقلها.
ـ مسار تحسين قدرات الاتصال والتراسل لدي المستشعر بحيث يتمكن من الإرسال والاستقبال اعتمادا علي قدراته الذاتية وليس اعتمادا علي وحدة ملحقة تبث فقط كما هو الحال الآن, وقد أفضي هذا المسار إلي منح المستشعر قدرات غير مسبوقة في التواصل لاسلكيا مع سهولة ضم نفسه إلي مستشعرات أخري في إطار شبكة أوسع نطاقا, بما يعنيه مفهوم الشبكة من قدرات علي المشاركة وإتاحة المعلومات.
لقد تلاقت الإنجازات التي تحققت في هذه المسارات معا وصنعت في النهاية المستشعر الذكي الذي يتشابه في حجمه ووزنه مع حبيبات الغبار, والقادر علي أن يتحسس ويرصد ويلتقط المعلومات المتعلقة بالتغيرات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية للأشياء والأهداف في البيئة المحيطة به, والتقاط الأصوات والصور كما يتمتع بذاكرة ونظام تشغيل وقدرات تواصل لاسلكي متطورة وبرمجيات مدمجة تتيح له تلقي أوامر جديدة أو تعديل مهام قائمة.
وقد شهدت هذه المسارات آلافا من البحوث ومشروعات التطوير, كان منها علي سبيل المثال المشروع الذي بدأ تنفيذه بين وزارة الدفاع الأمريكية وجامعة بيركلي بكاليفورنيا عام1998 وأمكن خلاله استخدام النانوتكنولوجي في تصغير احجام المستشعرات, وبعدها قام باحثو بيركلي بالتعاون مع خبراء من شركة انتل ـ عملاق صناعة الشرائح الالكترونية الدقيقة ـ بتصميم نظام تشغيل مفتوح المصدر يوضع علي حبيبات الغبار الذكية وأصبح متاحا للكافة وشكل القاعدة الأساسية لإنشاء شبكات المستشعرات وجعل من الممكن أن يتم تعديل ومراجعة وظائف حبيبات الغبار حتي بعد نشرها في منطقة ما من الجو أو الأرض.
وفي مطلع عام2001 نشرت مجلة فيزياء الجوامد التي تصدر عن معهد الهندسة الكهربية والإلكترونية نتائج مشروع بحثي قام به فريق من العلماء بقسم الهندسة الكهربية بجامعة فلوريدا الامريكية وتم خلاله التوصل إلي نظام اتصال لاسلكي جري تشييده كاملا علي إحدي الشرائح الإلكترونية الدقيقة المستخدمة في صناعة الحاسب الإلكترونية والتي تقاس مساحتها بالمليمتر, ويتكون هذا النظام من جهاز لبث موجات الراديو دقيق الحجم و هوائي دقيق لا يكاد يري بالعين المجردة ووحدة إرسال و استقبال دقيقة من الحجم نفسه, وقد كان هذا التطور بمثابة الإعلان عن إمكانية تشييد بنية الاتصالات اللاسلكية التحتية المتكاملة اللازمة لتحقيق تواصل فعال بين كل حبيبة غبار ذكية وأخري.
وفي عام2002 ظهر مفهوم شبكات المستشعرات اللاسكية وبدأ تطبيقه بالفعل في بعض الجزر لمراقبة حركة الطيور وفي بعض التطبيقات الزراعية وغيرها, وفي عام2005 تم تطوير شريحة إلكترونية تتكامل فيها المستشعرات مع أدوات بث المعلومات علي شريحة سيليكون واحدة قطرها5 ملليمترات, ثم عكف العلماء بعد ذلك علي استكمال باقي مكونات الشريحة, كالموصل والهوائي ومصدر غير تقليدي لمد المستشعر بالطاقة كالخلايا الشمسية أو الحركة الميكا***ية المختلفة كحركة النوافذ أو فروع الشجر التي تلتصق بها ذرات الغبار.
ظهرت بعد ذلك بحوث خاصة لدمج تكنولوجيا الغبار الذكي مع التليفونات المحمولة, ثم بدأ الحديث عن مشروع داخل وكالة الفضاء الأمريكية الناسا هدفه إعادة تهيئة الغبار الذكي ليعمل بتكنولوجيا الويب المستخدمة عبر الإنترنت بما يسمح بمشاركة واسعة للمعلومات التي يتم جمعها بواسطة ذرات الغبار, بمعني إيجاد شبكات معلومات تعمل بتكنولوجيا الانترنت ويتم من خلالها ربط حبيبات الغبار الذكي بالطريقة التي تترابط بها الحاسبات والمواقع علي الانترنت, وبما يتيحه ذلك من قدرات ومرونة عالية في تجميع المعلومات من آلاف الحبيبات وتجميعها ومعالجتها مركزيا ثم إتاحتها للمشاركة, ثم تطور الأمر وبدأ الحديث عن ذرات الغبار التي تبصر وتسمع, أي المزودة بكاميرات تلتقط الصور ومايكروفونات تلتقط الصوت ثم تنقل ما تصوره وتسمعه عبر الشبكات اللاسلكية إلي مركز التجميع.
خلاصة ذلك كله أننا أمام تطور له تطبيقات تجارية واقتصادية وصناعية واسعة النطاق, لكنه يحمل في طياته مخاطر أمنية علينا كأفراد ومؤسسات ومجتمع, فحبيبات الغبار الذكي التي تستشعر المعلومات وتنقلها قد تتناثر في الهواء من حولك في غفلة منك فتلتصق بملابسك أو تليفونك المحمول أو يتلوث بها حاسبك اثناء خروجه من المصنع أو حوائط مكتبك أو منزلك, لتنتهك الخصوصية وتنقل المعلومات والأسرار لجهات لا تعلمها سواء داخل الوطن أو خارجه.
وبالقطع فإن استخدام الغبار الذكي علي هذا النحو ليس بالأمر السهل أو رخيص التكلفة, فهو يحتاج إلي بنية اتصالات ومعلومات ذات تعقيدات لا أول لها ولا آخر, كما يحتاج تكلفة لا تطيقها سوي جهات علي استعداد ان تنفق بسخاء مقابل ما تريد الحصول عليه من معلومات, لذلك فهي مرشحة لأن تكون أداة ذات قبول وترحيب لدي أجهزة الاستخبارات والمؤسسات العسكرية, والمقلق حقا أن هذه التطورات المذهلة تتم علي أيدي عقول تعمل مباشرة مع المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية المفتوحة علي الكيان الصهيوني, والأكثر قلقا أن معامل الأبحاث في حيفا وتل أبيب وغيرها من مدن الصهاينة تخرج منها بحوث جادة تناطح الكثير مما ينجزه الأمريكيون في هذا الصدد وتفاخر بنتائجها التي تتناقلها المجلات المتخصصة والمؤتمرات الدولية, وهذا معناه أن أمننا القومي لن يكون بمنأي عن الاستخدامات المخابراتية والعسكرية للغبار الذكي.. فما بالنا نحن ؟
المؤسف أننا الآن لا نلتفت لما هو جاد وخطير, بل نحرق أدمغتنا في صراخ وعراك لا ينتهي حول مصالح آنية ضيقة قصيرة النظر في السياسة والاقتصاد والدين والمجتمع, ونضرب حول عقولنا طوقا من التفاهات الممتدة من الصراع حول مباريات الكرة وسيل المسلسلات والأغاني الضحلة الأشبه بالمخدرات إلي المعارك الوهمية والخناقات الصغيرة التي لا تنقطع, والأغلب أننا سنستمر علي هذه الحال العبثية حتي يتساقط علينا الغبار الذكي من أعدائنا الصهاينة وغير الصهاينة ونحن لا نشعر, فنصبح مخترقين مهلهلين مكشوفين عراة الفكر والخطط يفعل بنا الأفاعيل دون أن ندري كيف نتصرف, وساعتها سنعيش كل يوم مشكلات وأزمات خانقة غامضة دون أن نجد لها تفسيرا.. ورمضان كريم.
منقول