د. عبدالعزيز الفوزان
يحلّ علينا بساحتنا ضيف حبيب، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوّقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهّبت له الهمم
العالية. ضيف يشرفنا مرة في كل عام، ضيف قد رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله
موسماً عظيماً لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات: (...وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)،
ضيف تواترت النصوص والأخبار بفضله، منوهةً بجلالة مكانته وقدره، ومعلنة عن محبة الله تعالى له وتعظيمه لشأنه.
ضيف قد يكلفك اليسير، ولكنه يجلب لك الخير الكثير والثواب الجزيل والأجر الكبير، إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقربك إلى الله ويرفع درجاتك عنده.
إنه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، إنه سيد الشهور وأفضلها على الدوام، إنه
شهر القرآن والصيام والقيام، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً وفضيلة، شهر تُفتح فيه أبواب الجنان،
وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفّد فيه الشياطين ومردة الجان.
شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر الصبر والمواساة، شهر التكافل والتراحم، شهر التناصر والتعاون
والمساواة، شهر الفتوحات والانتصارات، شهر تُرفع فيه الدرجات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتُكفّر فيه السيئات، شهر فيه
ليلة واحدة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فهو المحروم.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون برمضان، والسعد كل السعد لكم بشهر الصيام والقيام، ويا بشرى لمن تعرض فيه لنفحات الله،
وجاهد نفسه في طاعة الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا…)[العنكبوت: من الآية69].
ولقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك، ويبين لهم فضائله، حتى يتهيؤوا له ويغتنموه.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه، يقول: "قد جاءكم شهر
رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة
الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم" رواه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، وحسنه الألباني.
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان. قال ابن رجب – رحمه الله-: "وكيف لا
يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يُبشّر العاقل، بوقت يُغلّ فيه
الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان، فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب
النار، وصُفّدت الشياطين" وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما "وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".فدلت هذه الأحاديث على بعض خصائص هذا الشهر وفضائله ومنها:
أنه تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وذلك لكثرة ما يُعمل فيه من الخير والأعمال الصالحة التي هي سبب
لدخول الجنة، ولقلة ما يقع فيه من المعاصي والمنكرات التي هي سبب لدخول النار، وتُفتح أبواب الجنة أيضاً ترغيباً
للعاملين في استباق الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، فهذا أوان الجد والاجتهاد، وهذا هو وقت العمل والجهاد.
وتُغلق أبواب الجحيم، ترغيباً للعاصين المعرضين بالتوبة والإنابة، وإتباع السيئات بالحسنات، التي تزيل آثار الذنوب من
القلوب، وتمحوها من ديوان الحفظة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والخير يرفع الشر، والنور يزيل الظلمة، والمرض يُعالج بضده.
ومن خصائصه أنه تُصفّد فيه الشياطين، أي تُغلّ وتوثق، وتُقيّد بالسلاسل والأصفاد، فلا يصلون فيه إلى ما يصلون إليه في
غيره. ولا يتمكنون من إغواء عباد الله كما يتمكنون منهم في غيره.
ولهذا ما إن يطل رمضان بطلعته البهية، حتى يظلل المجتمع الإسلامي كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان،
والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعم انتشار الفضائل والحسنات، وكسدت سوق المنكرات، وأخذ الخجل يعتري أهلها
من اقترافها، أو على الأقل من المجاهرة بها وإعلانها.
وهذه رحمة من الله بعباده، ولطف عظيم بهم، حيث أعانهم على أنفسهم، وحماهم من كيد مردة الجن والشياطين.
على أن هناك نفوساً شريرة قد تأصل فيها الشر، وتشرّبت الباطل، واستمرأت الفساد، وأسلمت للشيطان القياد، فأبعدها عن
كل خير، وحرمها من كل فضيلة وبرّ، وساقها إلى كل رذيلة وشر. فلا تعرف لهذا الشهر حرمة، ولا تقدر له مكانته وفضله،
ولا تعظم شعائر الله، ولا ترجو لله وقاراً!!
بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يكون أسبق من الشيطان في الشر والإفساد. كما قال قائلهم:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال، حتى صار إبليس من جندي
وقد سمعنا عن أناس لا يبالون بالفطر في رمضان، ولا يتورّعون فيه عن فعل المنكرات والقبائح، بل لربما اجتمع بعض
هؤلاء الممسوخين، المطموس على قلوبهم ليالي العشر الأخيرة من رمضان، والتي هي أفضل ليالي الدهر، وفيها ليلة خير
من ألف شهر، فيسهرون على شرب الخمر واستماع الغناء، وارتكاب
الفواحش والزنا، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من عمى البصيرة ورين القلوب. وقد صدق القائل:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن