كل عام هو شكسبيري بامتياز. لا تكاد تمضي سنة واحدة حتى يُستدرج هذا الشاعر الأكبر من حيث يملأ وحده هذا الفراغ الكبير في مشاهد التصحر الانساني، ليضع بصمة طال انتظارها في سياق حياته الغامضة. انه فعلاً من ذلك الطراز النادر الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس حتى بعد قرابة الاربعمئة عام من وفاته. لا هو يحجم عن استفزاز صناعة الفكر والكتابة وأهلها، على الأقل بما يحمل هؤلاء على التنقيب في خزائن التاريخ بحثاً عن تلك الصفحات الضائعة من عمره القصير. ولا هؤلاء وأولئك من مريديه وغيرهم، في أنحاء العالم قاطبة، يحجمون عن مطاردته للامساك به متلبساً بما يكشف النقاب عن سيرته الذاتية كاملة. كلما أمعن البحاثة المتخصصون بالأرث الشكسبيري في الوقوع على دليل واحد، أو أكثر أو أقل، لقراءة حيثيات حياته الضائعة في متاهات التاريخ، ارتدوا خائبين. بعضهم أعلن استسلاماً نهائياً أمام مشقة هذه المحاولة المستعصية. وبعضهم الآخر لا يزال يظهر شراسة واستبسالاً عجيبين في تقصي ما يعتبرونه حقائق صلبة قد تقود "التحقيق" إلى خواتيمه السعيدة. ومع ذلك لا تزال حياة هذا الشاعر الساحر لغزاً محيراً. والأرجح أحجية مغلقة على نفسها، كلما تقادم عهدها ازدادت صمتاً على صمت. ورغم ذلك، فانها تبعث على القشعريرة والدهشة، وتبث في الشرايين الصدئة حيوية وطاقة غريبتين تحيلان الاحباط والخيبة ضرباً من المتعة الخالصة في الارتحال إلى زمان شكسبير وأمكنته وتلك الأزقة القديمة التي كان يسلكها في لندن القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر. لا شكسبير يطلب "الهدنة" ليرتاح ويريح، ولا متقفو اثره يدب فيهم الملل فيرفعوا الراية البيضاء. والدليل على ذلك، ان هؤلاء تقاطروا، من جهات العالم الأربع في السنة الماضية، ليتدارسوا في ما بينهم الشكل الهندسي للمسرح الذي اقامه شكسبير. وفي العام الذي سبق، عاد هؤلاء إلى دق نفير الاستنفار ليتوافقوا على شكل تقريبي لوجه شكسبير. وعقدوا لذلك مؤتمرات وندوات لم يتورعوا فيها عن الاستعانة بخبراء من الادلة الجنائية لرسم معالم هذا الوجه وكأن في الأمر جريمة ومشتبهاً بهم. والأغلب ان في هذه الجمهرة الشكسبيرية شيئاً من ذلك، اذ باتت حياته المبهمة أشبه بالجريمة الكاملة. فالاثنتان يغلفهما الغموض الجميل.
ويستمر التحقيق بحياة شكسبير جارياً على نار حامية. والأرجح أن هذه "الجريمة الكاملة" لن تُقيد ضد مجهول، طالما ان ثمة محققين من ذوي النفس الطويل. من بينهم البريطاني، بيتر اكرويد، الذي أنجز كتاباً بالغ الأهمية بعنوان: (شكسبير ـ السيرة الذاتية) الصادر مطلع العام الحالي عن دار النشر (انكور)، وزميله الأميركي ايضاً، جايمس شابيرو الذي اقتصر في مؤلفه على إماطة اللثام عن سنة واحدة فقط من حياة شكسبير هي العام 1599، عنوان الكتاب : (سنة في حياة ويليام شكسبير ـ 1599) الصادر عن دار النشر (هاربر) في آب ـ اغسطس من العام الماضي. الفارق بين الدراستين أشهر قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وكأن بأحدهما يتكتم على كتابه خوفاً من أن يشهر افلاسه أولاً. فوضع اليد على ملف شكسبير أمر من شأنه ان يرفع صاحبه إلى القمة أو أن يهبط به إلى الدرك الأسفل. والأرجح ان المؤلفين وهما من المشهود لهم في الارث الشكسبيري، قد بذلا سنوات طويلة من البحث الشاق والمرهق عن المحطات المفقودة في حياة الشاعر الأكبر، علهما يجدان منافذ حقيقية قد تسفر عن بعض السبل الآيلة إلى الكشف عن متاهة شكسبير. وقد تكللت مساعيهما، على هذا الصعيد بفكفكة بعض الألغاز المتناثرة التي تعتبر على ضآلتها، كنزاً ثميناً.
الكاتبان، على هذا الاساس، يستهدفان الفوز بالغنيمة الكبرى، وهي نفض الغبار الكثيف عن الجوانب الأكثر اثارة للجدل في حياة شكسبير، وصولاً إلى محاولة أصعب وأكثر خطورة واقتراباً من لب الموضوع. وهي: قراءة مستجدة في تلك البعثرة الواسعة من شتات المعلومات لوضع هذه العبقرية الشعرية في سياقها الاجتماعي ـ السياسي في تلك الأثناء لمعرفة الأسباب المحتملة التي جعلت من شكسبير شكسبير الذي نعرفه. حبذا لو تغاضى الكاتبان عن الانشغال بهذه المسألة الأخيرة. فالحاجة إلى الربط بين فرادة الشعر الشكسبيري والمكونات المختلفة التي أحالته موهبة استثنائية جداً في تاريخ الشعر العالمي، تقل أهمية عن العثور على بعض الخيوط الواهية التي قد تشكل في المستقبل صورة تقريبية للشرنقة الشكسبيرية. يكفي، في هذا السياق، ان نقرأ نتاج هذا الرجل لندرك، على الفور، انه ارتقى بالشعر إلى مصاف الحقائق الكونية التي من شأنها ان تعيد تشكيل المفاهيم الانسانية على نحو لا يقف عند حدود معينة. ولكننا، في الوقت عينه، لسنا نعثر في ارثه الشعري والمسرحي الضخم على معالم واضحة في سيرته الذاتية.
يكاد الباحث شابيرو في كتابه: (سنة في حياة ويليام شكسبير ـ 1599)ان يزودنا بمعلومات، على هذا الصعيد، قد تؤدي في المستقبل، إلى بداية حقيقية في استكمال الأجزاء التائهة من السيرة الذاتية لشكسبير. يرى هذا الباحث ان العام 1599 كان منعطفاً حاسماً في مسيرة شكسبير. اذ انطوى على إحدى أكثر المحطات اشتعالاً وصفاء واقتناعاً بموهبته الشعرية المغايرة. ودليله على ذلك، انه كتب في هذا العام اربعاً من أهم مسرحياته، على الاطلاق وهي: هنري الخامس، يوليوس قيصر، كما تحبها، وهاملت. ويتساءل شابيرو، وهو محق في ذلك، عن ذلك القرار المستغرب الذي حمل شكسبير على إفراغ هذا المخزون الشعري المدهش في سنة واحدة، وكيف استجمع في ذاته هذه الطاقة الشعرية القصوى ليدونها على الورق دفعة واحدة. مهمة لا يقوى عليها شاعر عادي، او حتى شعراء عدة. يجيب عن هذا التساؤل ببراهين كثيرة صاغها في سياق روائي رائع على ايقاع العصر الاليزابيثي الصاخب، بأن شكسبير في العام 1599 كان قد عقد عزيمته، بشكل قاطع، على أن يمتلك مسرحه الخاص الذي أقامه على الضفة الجنوبية لنهر التايمز. ومن أجل ذلك قرر أن يفتتح تجربته المسرحية، كاتباً وممثلاً، بمخزون من النصوص الجاهزة تمكنه من الاستمرار طويلاً.
يتفق الباحثان، شابيرو وأكرويد، على أن إقدام شكسبير على الانصراف بكليته إلى الشأن المسرحي واحترافه له، لم يكن مرده فقط إلى بنائه المسرحي الذي أقامه على ضفة التايمز. ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، في هذا السياق. وهو اطمئنانه إلى أوضاعه المالية المزدهرة التي حملته على التقرب، تدريجاً، من بلاط المملكة اليزابيت، وتقديمه عروضاَ مسرحية تقديراً لها وانسجاماً مع ذوقها المسرحي الرفيع. نعلم أن شكسبير لم ينشأ في بيئة وضيعة أو متواضعة. على النقيض من ذلك بدا ان مكانته الاجتماعية ـ الطبقية، أفسحت امامه في المجال للاحتكاك منذ حداثته، بالفئات الاجتماعية العليا في العاصمة لندن. يضاف إلى ذلك، على الأرجح، انه أحسن استخدام موهبته الشعرية والمسرحية الفذة ليرتاد المجتمع الارستقراطي من أوسع أبوابه، خصوصاً في البدايات الأولى لازدهار المسرح البريطاني في عصر الملكة اليزابيت.. ويشير الباحثان إلى ان شكسبير ادرك، منذ اللحظة الأولى السمات الفكرية والسياسية المعقدة لهذا المجتمع اللندني، وارتأى أن أفضل وسيلة لمقاربته هي الكتابة المسرحية التي تحمل في أعماقها شيئاً كثيراً من المتطلبات الفكرية والثقافية لهذه الطبقات التي كانت تشكل نخبة المجتمع البريطاني. ويؤكد الباحثان ان هذا التوجه لدى شكسبير كرسه نجماً مسرحياً منقطع النظير، وفي الوقت عينه، فتح موهبته الشعرية على آفاق اجتماعية وسياسية وانسانية كان لها أبعد الأثر في انتاجه الأدبي.
بدا شكسبير لدى الباحثين، شاباً مقبلاً على الحياة بشراهة كبيرة، منسجماً، بشكل أو بآخر، مع تعقيدات المجتمع اللندني، وبداية نشوء طبقة مالية واسعة الثراء بعيدة الطموحات في ظل توسع الامبراطورية البريطانية ورسوخ هيمنتها على البحار العالمية وتثبيت أقدامها في مستعمرات جديدة. ويشير اكرويد، في هذا السياق الصاخب لقدوم شكسبير من مسقط رأسه في مدينة ستراتفورد، إلى العاصمة لندن، إلى توثبه الفكري والاجتماعي كشاب لامع محنك، يخطط للحصول على حياة أفضل وأرقى وأكثر رفاهية. منهمك في تحسين وضعه المالي والمسرحي، ومندمج، إلى أقصى الحدود المشروعة، في الحياة الملأى بالضجيج الثقافي والرغبة العارمة في التميز عن سائر مجتمعات العالم. ومع ذلك، جاء امتلاكه لمسرحه الخاص، إيذاناً حقيقياً بثقته بنفسه، واعتداده بآرائه الفلسفية الشعرية، وميله القوي إلى بث مفاهيمه الفردية وجعل أدبه الرقم الأصعب في معادلة الثقافة البريطانية في تلك الأثناء الصعبة. ومع ذلك، يرى شابيرو، على نحو من الموضوعية، ان اهتمام شكسبير المتزايد بتطوير أوضاعه المالية، كان استجابة ضرورية للصعود الرأسمالي العنيف للطبقة الارستقراطية المهيمنة على مقاليد السلطة في بريطانيا العظمى. والأرجح، في هذا السياق، ان الشاعر وقد خبر خبايا المجتمع وشروطه وأسراره، لم يعد بمقدوره أن يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء خوفاً من التعثر والسقوط في ما لا تحمد عقباه. ويتوصل هذا الباحث إلى الاعتقاد، وهو صائب في ما يذهب إليه، إلى قناعة تفيد بأن الحرص المتزايد لشكسبير على قدراته المالية واقترابه من البلاط الملكي، إنما مرده، على الأغلب، إلى حماية مسرحه وإيجاد الفرصة الدائمة لعرض مسرحياته واثبات موهبته الكبرى في عصر لم يكن الاستحواذ فيه على هذه الميزات الاستثنائية أمراً سهلاً أبداً.
ينفرد الباحث شابيرو في الإشارة إلى حدثين قلبا الأوضاع رأساً على عقب في العام 1599، وكانت لهما دلالتهما المباشرة على إيقاع التوجهات المسرحية والأوضاع المالية وحالة القلق العميق التي خيمت على شكسبير في تلك السنة بالتحديد. أولهما، الفشل الذريع الذي لحق بالبلاط الملكي نتيجة للتقهقر الذي طرأ على الحملة العسكرية البريطانية لاخضاع ايرلندا. كانت الملكة اليزابيت تعلق أكبر الآمال على هذه العملية نظراً إلى حاجة بريطانيا القصوى لترتيب أوضاعها الداخلية قبل الانصراف إلى توطيد دعائم الامبراطورية في العالم. يرى الباحث أن هذه المفاجأة غير السارة أوقعت شكسبير في دوامة من الحيرة وعدم الاستقرار المالي والذهني والنفسي، بسبب تأثيرها الكبير على انتظام علاقاته المسرحية والاجتماعية بالبلاط الملكي، من جهة، وخشيته من تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتداعياتها الخطيرة على مسرحه والاستثمارات المالية التي وظفها فيه. ويتمثل الحدث الرئيسي الثاني في العام المذكور باقدام اسبانيا، وكانت امبراطورية عظمى في تلك الحقبة، على بث شائعات زرعت الذعر في قلوب البريطانيين، تفيد بأنها على وشك ان ترسل اسطولها الذي لا يقهر لغزو الأرض البريطانية، وتحديداً لندن، في سياق التنافس الامبراطوري بين القوتين العظميين. يكتب الباحث قائلاً: ان حدثين من هذا الوزن الثقيل شكلا عبئاً مرهقاً لم يكن ليحتمله الشاب الصاعد في عالم النجومية، وكان لا يزال طري العود مفعماً بالأحلام الواعدة، وبدأ يلقى قبولاً منقطع النظير في الوسط الارستقراطي الصاعد. من هنا، يؤكد الباحث بأن السرعة القياسية التي أنجز بها شكسبير مسرحياته الأربع: هنري الخامس، يوليوس قيصر، كما تحبها، وهاملت، إنما تعزى بالدرجة الأولى، إلى استشراف شكسبير لاحتمال تعرّض بريطانيا لأيام حالكة سوداء. فانبرى إلى إظهار موهبته المسرحية، في سباق محموم مع الوقت قبل أن تحل الكارثة، ويضطر إلى الانسحاب من حلبة الطموحات صفر اليدين.
قد لا نجد في هذه الشرذمة من المعلومات المكتشفة حديثاً عن حياة شكسبير. ما يروي الغليل. ونتساءل: لماذا لا تزال الأبواب موصدة في وجه كل من يتجرأ على الولوج إلى حياة هذا الشاعر الأكبر، بينما تفتح على مصاريعها أمام شخصيات تاريخية أخرى قد لا تقل شهرة وتأثيراً؟ ومع ذلك، تنطوي هذه المعلومات، في السياق الغامض لهذا الرجل، على ما يجعل منها مورداً مفتوحاً على احتمالات مرتقبة قد تقودنا، يوماً ما، إلى المجرى الحقيقي الذي دفع شكسبير إلى الآفاق البعيدة من الكتابة الشعرية المدهشة. يكشف الباحث أكرويد، في هذا الاطار، أن شكسبير كان يتمتع باستعداد تلقائي مبكر للتملص من التقاليد الكاثوليكية المتزمتة في تلك الأثناء، الأمر الذي جعله قادراً، على نحو مبرر، للانتقال من الغريزة الدينية إلى الغريزة الشعرية، بسائر دلالاتها الابداعية، من دون مرحلة انتقالية. يبقى القول ان الباحثين اجتهدا كثيراً في محاولتهما معرفة الحرفة التي كان يتقنها شكسبير ويعتاش منها قبل احترافه المسرح. لم يعثرا على جواب قاطع لهذا السؤال المحيّر، وإن بدا أنه لم يمتهن عملاً محدداً بسبب الوضع المالي المزدهر لوالده. والأرجح أن شكسبير لم يبدد موهبته الاستثنائية في أي عمل آخر سوى المسرح، على وجه التحديد. قد تجود الأيام والسنوات المقبلة بتفاصيل أكثر أهمية وتشويقاً حول هذه الشخصية الغامضة، قد يسفر بعضها عن انقلاب جذري في حياة هذا المتألق على الضفاف البعيدة للشعر.
منقووووول