"إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه، وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذّبه أبدا، ولله فى كل يوم ألف ألف عتيق من النار، فإذا كانت ليلة تسع وعشرين أعتق الله فيها مثل جميع ما أعتق فى الشهر كله، فإذا كانت ليلة الفطر، ارتجت الملائكة وتجلى الجبار تعالى بنوره، مع أنه لا يصفه الواصفون، فيقول للملائكة، وهم فى عيدهم من الغد، يا معشر الملائكة يوحى إليهم ما جزاء الأجير إذا وفّى عمله؟ تقول الملائكة يوفّى أجره، فيقول الله تعالى "أشهدكم أنى قد غفرت لهم""، هذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى نظر إلى عبده أقبل عليه برضوانه.
شهر الصيام سيمر بسرعة وسنقطف ثماره، فما ضرّ الصائمين، إن جاعوا شهر الصيام، فإن لذة التقوى والعبادة تزيد على كل لذة، ولئن ضمرت منهم البطون، وخف وزن الشحوم، فقد وفرت لهم الحمية إطارا من الصحة، وحزاما من العافية، بل وفرت الحمية متقلبا سليما يلبسهم درع العافية وحصن القوة من نقاوة الدم واستئصال بقايا الأمراض وتبقى عندهم من قوى المجاهدة وقوة الإرادة الكف عن المحارم، والامتناع عن سفاسف الأخلاق، ورذائل الصفات فقد اعتاد الصائم مغالبة نفسه فتملك بذلك قوة الملكة على مغالبة الهوى والنفس والشيطان، وكان كمن لبس الدرع قبل لقاء الحرب، فرزق الهمّة العالية فكُفِيَ ووُقِيَ وهُدِيَ، فعاضده التوفيق، فأسلم قيادة إلى الشرع واستلم مراقى الفلاح والنهوض لأسمى الغايات ثم أنكر على الناس كثيرا مما جرت عليه التقاليد البالية والموروث من سقيم العادات فعمل بضياء العقل ونور البصيرة.
فهنيئا لك أيها الصائم بما فزت به فى شهر الصيام، أرضيت ربك، وأديت فرضك، وبنور القرآن غذّيت قلبك وعقلك، وببرّ الأرحام واسيت أهلك وبالصدقات وأداء الزكاة صنت مالك ومجتمعك، ومن السموم وفضلات الأغذية طهّرت جسدك فأنت بعد الصيام فى ثوب العافية تتقلب وفى درع التقوى تتحصن، وعن طريق الرذائل وسفاسف الأخلاق تتنكب، وإلى معالى الأمور وعظائم الأعمال تتعقب ذلك الفوز العظيم، والنجاح المرتقب، يعرفه من فاز بشهادة الصوم وقبول الصيام، وحين يبتسم فى وجهك عيد الفطر ما أحسبك ألا تسألنى عن مزيد من علامات قبول الصيام، إليك بعضها، من تعود بالبر تراه يقوم بأعمال البر، ومن كان من المفرّطين يصحح طريق سيره المعوج بطريق مستقيم، ويستمسك بالتقوى، ويوم العيد حين يسعف الكادحين، وينصر الضعفاء المظلومين، ويعود المرضى المتألمين، ويبسط من سروره بساطا ينعم به أهل الحاجة، فالصوم كان له دواء وغذاء، وجعله يبصر بنور قلبه وضياء بصيرته.
فالمعروف لا ينسى، والبر لا يبلى، هو براءة من الذنوب، وستار بينه وبين النار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلاّ سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة فإن التمرة تسد من الجائع مسدها من الشبعان عليكم بالصدقة فإنها تقيم العوج وتدفع ميتة السوء وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، وقال صلى الله عليه وسلم "إذا وقف السائل على الباب وقفت الرحمة معه قَبِلَهَا من قَبِلَهَا وردَّها من ردها".
ويقول تعالى "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور" "فاطر آيتان 29-30" فالقرآن قد كفل جميع الإجراءات الموصلة إلى الإحسان بشتى صوره ومعانيه وصاحب البصيرة يرى الإحسان قمرا منيرا فى سماء الأعمال الصالحة أو صورة نورانية يتلألأ فى الملإ الأعلى حسنها، ويشعّ فى سماء الجنة نورها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات فى الدنيا، فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة. والبخل شجرة من أشجار النار أغصانها متدليات فى الدنيا، فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار".
وقال عليه الصلاة والسلام "إن الصدقة لو جرت على يد سبعين نفسا لكان أجر أحدهم مثل أجر آخرهم". أى أن الأيدى كلها تثاب بنقل الصدقة كل ذلك نفعا لأفراد الشعب ليتآزر فى عون بعضهم بعضا، ويتعاضدوا و يتعاونوا، قال صلى الله عليه وسلم لعوف بن مالك "أرأيت لو كان لك عبدان أحدهما يخونك ويكذب، والآخر يصدقك ولا يخونك أيهما أحب إليك؟ قال: الذى يصدقنى ولا يخونني، قال: فكذلك أنتم عند ربكم"، فواصل سعيك أيها المؤمن لتفوز بالصدق والأمانة، هذا الصدق الذى يترجمه عملك فى أى مجال من مجالات البرّ.