كتمان الأسرار محور من محاور التربية الإيمانية، لأنه ما ضاعت الشهامة والمروءة بين الناس إلا لما ضاع السر من بينهم، وصار الخل الوفي أندر من الكبريت الأحمر، وصرت لا تستطيع أن تأتمن أحداً على سر ولا تبيح بمكنون نفسك لأحد.
انظروا لتاريخ الهجرة النبوية مثلاً تجدون عجباً في [ كتمان الأسرار. واسمعوا للسيدة عائشة تقول : {لَقَلَّ يومٌ كان يأتي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يأتي فيهِ بَيتَ أبي بكرٍ أحَدَ طَرَفي النَّهارِ، فلمّا أُذِنَ لهُ في الخروجِ إِلى المدينةِ لم يَرُعْنا إِلاَّ وقد أتانا ظُهراً، فخُبِّرَ بهِ أبو بكرٍ فقال: ماجاءنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذهِ الساعةِ إِلاّ لأمرٍ حَدَث. فلمّا دَخَلَ عليهِ قال لأبي بكرٍ: أَخرجْ مَن عندَكَ. قال: يا رسولَ الله، إِنَّما هما ابْنَتايَ، يَعني عائشةَ وأسماءَ}
ردَّ أبو بكر في ثقة لأنهما تعلَّمتا كتمان السرِّ وعدم إباحته إلا بإذن مِمَّن همس به في آذانهما؛ فأنبأ النبى صلى الله عليه وسلم أبابكر بخبر الهجرة فى وجودهما، لأنه يعلم أن سرَّه مصونٌ ولن يصل إليه الكافرون.
هذه قيمة يقول فيها صلى الله عليه وسلم: {اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ}{2}
وهى خصلة إسلامية ما أحوجنا إليها الآن في حياتنا الاجتماعية والدراسية وفي كل أحوالنا فإن معظم مشاكلنا سببها الأول عدم كتمان الأسرار، فمن يسمع سِرًّا من زميله يذهب بسرعة ليذيعه لصاحبه فتنشب الخلافات وتقوم الصراعات، والسبب الأول أننا لم نتأدب بأدب الإسلام وهو كتمان السِّرّ، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا حدَّثك أخوك بحديث ثم التفت فهو أمانة}{3}
يعني لا تذعه ولا تبلغه لأحد إلا بإذن ممن قاله، فهذا الخُلُق ربَّى عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه جميعاً من البداية من أيام دار الأرقم، فأمَّن الجبهة الداخلية، فأصبح العدو لا يستطيع أن يخترق بجواسيسه صفوفهم، ولا أن يصل إلى أسرارهم وأخبارهم، ولا حتى الأطفال الصغار، ولا تعجبوا فقد جعلت التربية الإيمانية منهم خزائن لحفظ الأسرار فاقت الرجال الكبار.
غلام من غلمان المدينة يقول: {انتهى إلينا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا في غلمان فسلم علينا، ثم أخذ بيدي فأرسلني في رسالة وقعد في جدار حتى رجعت إليه، فلما أتيت أم سليم قالت: ما حبسك؟ قلت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة. قالت: وما هي؟ قلت: إنها سرٌّ، قالت: احفظ سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخبرت به بعد أحداً قط}{4}
صار كذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم ربَّاه التربيَّة الإيمانيَّة كما أخبر بنفسه: {وكانَ أَولُ ما أَوْصَانِي بهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قال: يا بنيَّ أُكْتُمْ سِرِّي تَكُنْ مُؤْمِناً، فكانَتْ أُمِّي وأَزْواجُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَسالْنَنِي عَنْ سِرِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلا أُخْبِرُهُنَّ بهِ، ولا أُخْبِرُ بسِرِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَداً أَبداً}{5}
أتعرفون من كان الغلام؟ إنه أنس بن مالك رضي الله عنه، الذى يحكى عن بدايته فيقول: {قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وأَنا ابنُ ثمانِ، فاخَذْتنى أُمِّي إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَتْ: يا رسولَ الله إِنهُ لَمْ يبقَ أحدٌ مِنَ أَلانْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بتُحْفَةٍ وإِنِّي لا أَقْدِرُ على ما أُتْحِفُكَ بهِ إِلا ابْنِي هَذا، فخُذْهُ فليَخْدُمْكَ ما بَدا لَك}{6}
وأظنَّكم بالطبع تعرفون ماذا أصبح.ودعونى أخبركم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له قبل وفاته صلى الله عليه وسلم قائلاً: {اللهم أطل عمرَه، وكثِّر ولدَه ومالَه، واغفر له، قال أنس: قد دفنت من ولدي حوالي المائةً، وغَلَّتي تأتيني في السنة مرتين، وبلغ سنُّه مائة سنة وسنين لم يَعُدَّها، وترك وراءه من الولد أعدداهم كالقبيلة الوافرة}{7}
فربَّى الرسول صلى الله عليه وسلم أبناء مدرسة الإيمان المحمدية بالمدينة من صغرهم على كتمان السرِّ، والسرُّ هو كلُّ مادار بينك وبين أحد من صديق أو والد أو ولد أو أم أو زوجة أو أي إنسان، في أمر خاص ذو شأن خاص، أما الأمور العامة في السياسة والألعاب الرياضية والدراسة، فليس هناك سرٌّ في إذاعتها، ولذلك أباحها لنا الله، إلا ما استأمنَّا عليه.[/center]
[/size][/color]
{1} صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها {2} رواه الطبراني عن معاذ بن جبل في الثلاثة {3} رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة {4} مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك {5} مجمع الزوائد عن أنس بن مالك
{6} مجمع الزوائد عن أنس بن مالك ( بتصرف) {7} الفاضل في اللغة والأدب وغيرها
[/font][/b]
منقول من كتاب {إصلاح الأفراد والمجتمعات فى الإسلام} لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
اضغط هنا لقراءة أو تحميل الكتاب مجانا}