أمل دنقل.. وميض تغتاله العتمة
محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل
من مواليد قرية "القلعة" إحدى قرى مديرية "قنا"
أقصى جنوب مصر،
ولد في 1941 لأب يعمل مدرسًا للغة العربية متخرجًا في الأزهر.
كان والده في تنقل ما بين قرية "القلعة" وإحدى مدن "قنا"؛
فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة، يعمل بالتدريس،
وحين تنتهي الدراسة يعود أدراجه بأسرته المكونة
من ولدين وبنت، أكبرهم أمل وأصغرهم أنس..
وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد.
وكأن الألم هو الحضانة الأولى للعظماء،
فلم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده.
وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف
الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها
الصغيرة ملتئمًا، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد
الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم
وأصدقائهم.
ساعدهم على العيش "مستورين" أن الأب قد ترك لأولاده
بيتًا صغيرا في المدينة يقطنون في طابق منه
ويؤجّرون طابقًا آخر،
كما عاون الأم في تربية أولادها أحد أقرباء زوجها
كان بمنزلة عم "أمل".
حين التحق أمل بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى بها دراسته
سنة 1952 عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته،
كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛
فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته،
وعن أبيه شخصية قوية ومنظمة.
آثار الطفولة
والمفارقة أنه حين وصل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية،
وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة "العلمي" تمهيدًا لخوض غمار
الدراسة الأكاديمية في تخصص علمي كالهندسة أو الكيمياء،
لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا في تحوله المعاكس
إلى الأدب والفن في هذه الفترة ؛
فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه
"عبد الرحمن الأبنودي" -شاعر عاميه مصري-
وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية،
و"سلامة آدم" -أحد المثقفين البارزين- فيما بعد،
وكان يمت له بصلة قرابة وكان رفيقه الأول في مرحلة
الطفولة، وبعد اتفاقهما الدائم على الالتحاق بالقسم
العلمي وجدهما قد فاجآه والتحقا بالقسم الأدبي،
فوجد "الصغير" نفسه في حيرة شديدة،
سرعان ما حُسمت إلى اللحاق بأصدقائه.
إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بعيدا عن مجال الأدب،
فضلا عن الثقافة العربية؛
فقد نشأ في بيت أشبه بالصالونات الأدبية،
فلم يكن والد أمل مدرسًا للعربية فحسب،
ولكنه كان أديبًا شاعرًا فقيهًا ومثقفًا جمع من صنوف الكتب
الكثير في سائر مجالات المعرفة؛
لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة
المزدحمة بألوان الكتب،
وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حينا ويكتب الشعر حينا.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي
دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال
يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية
والدينية.
وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم
الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له،
بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من
مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم،
أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون -
من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل،
عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم
المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس
جرأته -في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة
مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة
إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه
أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع
أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله.
ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت
نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته،
فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها
إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه،
وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.
أحلام وطموحات
ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن
يلتقي بالشعراء الذين يرى أسماءهم على الدواوين
الراسخة في مكتبته،
وانصرف أمل عن أحلامه الدراسية وطموحاته العلمية
إلى شيء آخر هو الشعر.
ومما نُشر لأمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية
نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956،
وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل
يقول فيها:
يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد
وفي العدد التالي أفردت المجلة صفحة كاملة
لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"،
وكتبت تحت العنوان:
للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها،
جاء فيها:
أريج من الخلد .. عذب عطر
وصوت من القلب فيه الظفر
وعيد لـه يهتف الشـاطئان
وإكليله من عيون الزهر...
ومصر العلا .. أم كل طموح..
إلى المجد شدت رحال السفر
وأمي فلسطين بنت الجـراح
ونبت دماء الشهيد الخضـر
يؤجـج تحنانهـا في القلوب
ضرامًا على ثائرها المستمر
وأمي كل بـلاد.... تثـور
أضالعـها باللظى المستطـر
تمج القيود.... وتبني الخلود
تعيـد الشباب لمجـد غبـر
فإن الدمـاء تزف الدخيـل
إلى القبر.. رغم صروف القدر
وتنسج للشعب نور العـلاء
بحـرية الوطـن المنتصـر
حصل على الثانوية العامة عام 1957،
والتحق بكلية الآداب 1958.
وقد ساعده ذلك على الإقامة في القاهرة لتتاح له فرصة جديدة
ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية
كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله:
"سيف في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983:
"دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر،
وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد
كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور".
وهذه قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما،
وهو يعبر عن ذلك حين يقول:
كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا
وانفجر أمل في الشعر بهدوئه العجيب..
فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد؛
إذ رحل عنها 1959 إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا،
لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا كأمل
لوظيفة رتيبة مملة.. ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة،
واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع،
وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية
إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق
في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية.
أمل الثورة
ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛
حيث كانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح،
ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد..
فإن ذلك لم يخدعه كآخرين،
حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛
فقد سجل رفضها بعين الباحث عن الحرية الحية لا شعارها؛
ففتح نار سخريته عليها، فهو يرفض الحرية المزعومة
التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها..
يقول أمل:
أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت
لم يستقر أمل دنقل في وظيفة أبدا
فها هو يعمل موظفا في مصلحة الجمارك بالسويس
ثم الإسكندرية، ويترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل دنقل الترحال،
وربما ورثها من طفولته حال حياة والده،
ولكن انغماسه في الشعر قوّى ذلك في نفسه،
وجعله يتحلل من قيود المكان وقيود الوظيفة،
فقد ترك دراسته في السنة الأولى الجامعية، وترك عمله بقنا،
وها هو يترك السويس إلى الإسكندرية،
بل يترك العمل الوظيفي ليعلن لنا بنفسه في أخريات حياته
أنه لا يصلح إلا للشعر فيقول:
"أنا لم أعرف عملا لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عمل آخر…"
توصل أمل دنقل إلى ذلك قبل أفول نجمه بثلاثة أيام فقط.
وفي 1969 يصدر الديوان الأول لأمل دنقل بعنوان:
"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"
تأثرا بالنكسة، وبعده بعامين ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني:
"تعليق على ما حدث"، ثم يأتي نصر 1973
وعجب الناس من موقف أمل دنقل؛
إذ هو لم يكتب شعرا يمجد هذا النصر
حيث يصدر ديوانه الثالث:
"مقتل القمر"
1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر،
وفي 1975 يصدر ديوانه:
"العهد الآتي".
عشق الترحال والحياة
وفي أحد أيام سنة 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية
"عبلة الرويني"
التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار"
فتنشأ بينهما علاقة إنسانية حميمة،
تتوج بالزواج 1978،
ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال
فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"،
وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر
الذي لا يملك مسكنا، ولا يملك مالا يعدّ به السكن
تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق،
وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.
ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي
بإنتاج شعري مميز فيكتب:
"لا تصالح"،
رافضا فيها كل أصناف المساومات،
متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل،
ولكن أمل دنقل كُتب عليه صراع الواقع العربي
الذي ما برح يكتب فيه حتى واجه بنفس قوية
وإرادة عالية صراعه مع المرض،
ودخل أمل المستشفى للعلاج،
وكان لا يملك مالا للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه.
وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين،
وكان أولهم "يوسف إدريس" -أديب مصري-
الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها.
وطلب أمل من أصدقائه التوقف عن حملة المساعدة.
كان أمل لا يريد أن ينشغل أحد بمرضه،
وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالمستشفى
على علب الثقاب وهوامش الجرائد..
ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه،
حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم:
"أوراق الغرفة 8".
يموت الألم في أمل دنقل مع صعود روحه لبارئها،
لكنه يترك تاريخا مضيئا بالشعر وآرائه السياسية
التي كانت تصدر عنه بروح القادر ونفس الحر دون
أن ينجرف إلى تيار معين يفسد عليه انتماءه للشعر..
ودون أن يترك حدثا بلا قول وخطر، بل وسخرية موجهة.