كاتب المقال : محمد بن أحمد الرشيد
مما يشغل بالي كثيراً التأمل في قيمة المعرفة، ولماذا نحرص عليها، وندعو الجميع إلى التزود منها.
وعجبي ممن يعرفون الكثير ولا يقدمون للآخرين شيئاً مما عرفوه.
كما أني آخذ على العارفين ألاّ يعملوا بما عرفوه، وأيقنوا من صوابه.
ومما يثير الدهشة كذلك من يدّعون المعرفة ويتزينون بها، وهم في رتبة أدنى بكثير مما يدّعون.
لذلك فإني حريص على أن أتطرق إلى الحديث عن هذا الباب (باب المعرفة) مؤكداً أنها. ليست (حرفة)، وليست (نجومية)، وليست(هواية).
ليست المعرفة(حرفة): لأنها لا تكون صنعة، يحترفها فريق من الناس، يختصون بها ليشار إليهم، ويقال للواحد منهم: هذا رجل (عارفٌ) أو(عَروفٌ) فتلصق على بطاقة يحملها، أو تُخط على لوحة توضع أمامه يتباهى بها، ولقد درج الأئمة الكبار من علمائنا على تسمية أنفسهم أنهم طلاب علم - فيقال:فلان طالب علم.. بحكم أن العلم بحر لا ساحل يحده.. ولا امتداد يقف عنده.
وليست المعرفة (نجومية): فلا تتخذ وسيلة مقصودة لكي يلمع بها (عروف) أو (عارف) في سماء بلاده، أو مجتمعه، أو عمله.. خاصة بما استجد من وسائل الترويج والتلميع الجماعية الغالبة، التي لا يكبحها تأمل، أو تحدها مراجعة.
وليست المعرفة(هواية)يُقبِل من يُقبِل عليها حيناً، ويعرض عنها من يعرض أحياناً أُخرى، ويخصص لها من يشاء شيئاً من وقته وماله، يزيد وينقص بحسب تقلّبات مزاجه.
عَرَفَ الشيءَ لغةً: صار عالماً به، وتعلّم الأمرَ، أي عرفه وأتقنه، والعلم: المعرفة،
وتعريف الشيء إنما يكون بتحديده بذكر خواصه المميزة، إذاً فلا انفصام بين العلم والمعرفة، أو قل: هما وجهان لعملة واحدة.
أما وجوب المعرفة فلأن رسالة الإنسان منذ تسلم مقاليد إعمار الأرض لا تتحقق إلا بها، وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، والله تعالى قال لكل مخلوق من خلقه (فاعلم أنه لا إله إلا الله).
ومنذ أن علَّم اللّه تعالى آدم - عليه السلام - الأسماء كلها، علَّمنا أن المعرفة هي البداية، وهي مفتاح الإعمار، ولأن بداية المعرفة من اللّه، فقد وجب أن تتطهر غايتها من (الهواية)، و(النجومية)، و(الاحتراف).
وفي حضارتنا ثلاثية شهيرة، ووصية باهرة:
لا يُتعلم العلم لثلاث، ولا يترك لثلاث: لا يُتعلم ليُمَارى به، ولا ليُبَاهى به، ولا ليُراءى به، ولا يُترك حياءً من طلبه، ولا زَهَادةً فيه، ولا برضا بالجهل فيه.
واقتران المعرفة بالإعمار يقتضي - بالضرورة - إبعاد الجهل عنه. فلا إعمار حقيقياً مع الجهل، بداية، ورعاية، وتطوراً، ولذا فمن قوانين الإعمار الحتمية أن كل إعمارٍ لم تسبقه وتواكبه وتلحقه معرفة دقيقة وتطبيق أمين فإنه سيتعرض للانهيار والتساقط، كما تنهار العمائر، أو تفلس المشروعات فتتوقف، أو تزول الحضارات وتندثر آثارها كلها، أو بعضها.
وليتأمل القارىء معي الآية الكريمة - وليعد أيضاً متى انشرح صدره إلى تفسيرها في مراجعها:(وعَلَّمَ آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين
قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم).
نتوقف هنا لنلاحظ حركة المعرفة فنحن نَتَعَلَّم أولاً، ثم نُعَلِّم ثانياً، أعْرفُ ثم أُعرّفُ، وليس العكس أبداً!
لقد عَلَّمَ اللّه آدم - عليه السلام - ثم أمره سبحانه (يا آدم أنبئهم)، ثم لنتأمل أيضاً ما ورد من بعد تسلم أسرار المعرفة ومفاتيح خزائنها المدهشة من سجود الملائكة:(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا).
لننظر هنا! إن حامل لواء المعرفة سيتقلد وساماً عالياً، وستكون عنده المقدرة على اختيار طريقه؛ ليتحمل تبعات الاختيار بناءً على معرفته، إذاً فالمعرفة طريق الوصول إلى المكانة العالية.
فما أعظم مكانة المعرفة لدى أُمَّةٍ يُسَجِّلُ كِتابُها سجودَ الملائكة(لحامل المعرفة) كيف يكون مقام المعرفة لدى أفرادها من أبناء آدم - عليه السلام - في بيوتهم، ومدارسهم، ومعاملهم، وأسواقهم؟ وكيف يكون شأن هذه الأمة في (أوليمبياد) التنافس الحاد بين العالَمين إنْ هي وعت ما يُدَرَّس لها؟!
وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأَمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.