أخبرني بربك ماهو موجب اليأس وداع القنوط في أمة الإيمان والتوحيد، وبين يديها كتاب الله الناطق بأن اليأس من أوصاف الضالين . وإن كان للعامة عذر بسبب الغفلة فأي عذر للعلماء والدعاة وللساسة والزعماء ورجال الفكر والتوجيه!!
وإن أخطر شيء تصاب به الجماعات والأمم ما يعتري أفرادها من ضعف في الهمم وانحطاط في المفاهيم والقيم ، وقد يسوقها ذلك الضعف والانحطاط إلى اليأس والقنوط أعاذ الله المسلمين منهما ، وحين يبلغ اليأس والقنوط من النفوس مبلغه ، فإنهم حينئذ يحكمون على أنفسهم بالحطة ، ويعجزون عن الرفعة والمكرمة ، فيأتون الدنايا ويتعاطون الرذائل،وتكون لديهم القابلية للإهانة والتبعية والاستعباد للإدعاء.. وهنا تسقط الأمم من شاهق عزها ورفيع مجدها وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتداس كرامتها وتستباح بيضتها وتتداعى عليها الأعادي كتداعي الأكلة إلى قصعتها .
وهذا إنما يصدر من نفوس مقطوعة الصلة بربها وخالقها ، نسيت ربها فعاملها الله بعملها وجازاها بفعلها . وقد حذر الله المؤمنين من الوقوع في ذلك فقال سبحانه ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19] .
إن الإنسان إذا أيقن بأن لهذا الكون رباً مدبراً قديراً عظيماً بيده مقاليد ملكه ونواصي الخلق كلهم بيده وتحت قهره ، تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوة لجبروته ، إن نفوساً تحمل هذه العقيدة وتترسخ فيها ، محال أن تصاب باليأس ، وتغتال بنائلة القنوط. صاحب الإيمان واليقين إذا وجد ضعفاً في إمكاناته وقدرته فإنه لا ينسى النظر إلى قوة الله التي هي أعلى من كل قوة فيركن إليها في أعماله ، ولا يجد اليأس إلى نفسه طريقاً ، وكلما تعاظمت عليه الشدائد زادت همته انبعاثاً في مقاومتها ومدافعتها معتمداً على أن قدرة الله أعظم منها ، وكلما أغلق في وجهه باب فتحت له من الركون إلى الله أبواب ، فلا يمل ولا يكل، ولا تدركه السآمة ، لا عتقاده ويقينه أن الله جل جلاله في قدرته أن يقهر الأعزاء ، ويلقي قيادهم إلى الأذلاء ، وأن يدك الجبال، ويشق البحار ، ويمكن الضعفاء من نواصي الأقوياء ـ وكم لقدرة الله من هذه المشاهد والآثار في قديم الدهر وحديثه ـ فهو سبحانه على كل شيء قدي والفعال لما يريد وقد أخبرنا تعالى عن جانب من أفعاله في الدول والأمم وعن تدبيرها وتصريفها بقوله ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب) [آل عمران:26-27] هذه المعاني حين تستقر في النفس البشرية وتؤمن بها تقوى إرادتها وتشتد عزيمتها وتسير بخطى حثيثة فيما كلفها الله به من السعي لنيل الكمال والفوز بما أعده الله من السعادة وحسن العاقبة في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة .
وانطلاقاً من هذه العقيدة الراسخة فلا ينبغي لمؤمن موقن بالله وبقدرته وعزته وجبروته أن يقنط وييأس ، إنما يتسرب اليأس والقنوط إلى النفس على حين غفلة من إيمانها وانقطاع عن خالقها الذي بيده ملكوت كل شيء . ولهذا أخبر تعالى عن الواقع والحقيقة التي لا ريب فيها بقوله ( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87] وبما أخبر من قول خليله إبراهيم أنه قال: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) [الحجر:56] فقد جعل الله اليأس والقنوط دليلاً على الكفر والضلال ، وإلا فمن أين يتسرب اليأس إلى قلب مفعم بالإيمان واليقين وأن الله على كل شيء قدير .
مقال للدكتور: حيدر الصافح