القبيلة والمجتمع:
باب المكنونات
د. عبدالله محمد الغذامي
توقفت ستة أشهر عن موضوعي هذا، وفي المقالات الثماني عشرة السابقة جرى طرح الكثير، مثلما جرى الوعد بالكثير، ولقد استفدت من هذه الوقفة حيث لمست حرص الكثيرين على الاستمرار في طرح القضية وجاءتني مكالمات وتعليقات تحمل لي دلالات عميقة، ومنها ما جاء على ألسنة كثير من أبناء القبائل الشباب والشابات مما يكشف عن وعي إيجابي في نقدهم للنسقية القبائلية، مع تمسكهم بالقيمة الثقافية والاجتماعية للقبيلة، مما يختلف جذريا عن مفاهيم العصبية والتمييز الطبقي والعرقي، ثم صار الموضوع الواسع الذي طرحته جريدة الرياض في شهر رمضان عن التعصب القبلي، وهو موضوع أضاء القضية كثيراً ولسوف أقف على بعض ما جاء فيه، وخاصة ما أشار إليه الدكتور عبدالرحمن بن محمد العسيري (الرياض 2007/9/30) حول نوع من الترميز العنصري الخطير وذلك بأن يضع بعض الشباب على لوحات سياراتهم إشارات وعلامات تكشف عن قبيلة صاحب السيارة، وهذه العلاقات مبنية على مؤشرات الوسم القبائلي حيث تملك كل قبيلة وسما تضعه على مواشي القبيلة لإثبات الملكية ولحماية الماشية، وهو في الأصل يمثل علامة عملية وشعار هوية ذات بعد مصلحي يضمن حقوق الملكية مثله مثل العلامة التجارية اليوم أو الشعار الرسمي للمؤسسات والأوطان، هذا هو الأصل ولكن الوسم تحول ليكون قيمة ثقافية وصار يحمل أبعاداً رمزية ويمثل هوية متميزة، وصار مدعاة للحمية والعصبية وقد كان ذلك ضروريا في زمن الفترة القبائلية بما انها مرحلة لها خصائصها ولها دواعيها ولها ظروفها التي تحتمها ومن ثم تبررها وتوجبها، غير أن تحول الجماعة البشرية إلى وطن يعني بالضرورة التحول إلى المواطنة، وهذه تقضي توحيد الجميع تحت شعار واحد يلغي الشعارات الفئوية والطائفية والمناطقية والقبائلية، ويحول الرموز السابقة إلى الملف الثقافي وإلى كتاب التاريخ والذاكرة، غير ان انبعاث الرموز القبائلية - كما أثبتها الدكتور العسيري، - هو ما يثير القضية لا بوصفها ثقافة وتاريخا وذاكرة، وإنما بوصفها مؤشراً على تحيزات وتمييزات فئوية ومن ثم يجعلها خطرة بما إنها لا تتفق مع مفهوم التكامل الاجتماعي الذي تفترضه بنية الوحدة الوطنية، وهذا يفكك مفهوم المواطنة حيث سيدفع الفرد للخضوع لسلطة الوسم والاستجابة لشروطه، ولقد روى العسيري في دراسته أقوال بعض الشباب الذين اتخذوا من الوسم ورسمه على لوحات سياراتهم وسيلة لاستثارة الحمية القبلية حتى قال بعضهم إن الوسم يساعده على معرفة الانتماء القبلي لصاحب السيارة فيهب لمساعدته ويتجنب إيذاءه لمجرد أن يرى العلامة على اللوحة، وهذا لا يشير إلى العصبية القبائلية فحسب، بل إنه يشير إلى موقف سلبي من الآخرين الذين لا يحملون الشعار نفسه أو لا يملكون شعاراً قبائلياً، وإذا كانت السيارة لا تحمل هذا الوسم أو تحمل وسما مغايراً لقبيلة منافسة فإن التعامل سيكون سلبيا بسبب هذه العلامة المغايرة، كما إن هذا السلوك الترميزي يشير إلى حس تصارعي ميدانه الشارع وعلامته لوحات السيارات.
وهذا يجيء في تحقيق الجريدة مع ما طرحه المشاركون حول مهرجانات مزايين الإبل، وهي المهرجانات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ولا شك أن هذه المهرجانات هي نشاط ثقافي حيوي ويخاطب فئات عريضة من المجتمع ويستنهض ثقافة تاريخية حية وقوية وعميقة، وكان من الممكن أن نحتفل بها بما إنها فعالية ثقافية حية وصحيحة وتدل على شخصيتنا الحضارية والتاريخية، ولكن حصل أن استخدمت هذه المهرجانات لأغراض المباهاة القبائلية وصارت سبباً لاستثارة نعرات وحزازات ومواجع كثيرة كان مسكوتا عنها حتى لقد كنا نتصور اندثارها وتجاوزها، فإذا بها تعود ويعود معها الشعر، وما يحمله الشعر من نسق قديم عريق هو نسق (الشعرنة) وكنت قد كشفت عن هذا النسق وعلاماته وسيرته في كتابي (النقد الثقافي) وما يجري في مهرجانات المزايين وفي مهرجانات الشعر النبطي وما تلاه من استنهاض لعلامات القبيلة عبر استحياء الوسم ورسمه على لوحة السيارة ثم في ظهور شجرات النسب وفي استعادة بعض العائلات لعلاقاتها القبلية المنسية ثم شيوع مصطلح (الفزعة) وما يؤسس له هذا المصطلح من فئوية ومناطقية توزع خارطة الوطن على تقسيمات في الموالاة وفي التحيزات، كل ذلك يصب تحت معنى ثقافي عميق وخطير هو معنى النسقية وأدوائها المتأصلة والتي تحتاج إلى وعي نقدي كي نكشف أبعادها ونتعرف على الصيغ التي تتوسل بها.
والنسقية تعمد دوما إلى تلمس أجمل ما فينا ثم تلبيسه لبوس الحق المطلق حتى ليتحول الجميل إلى قبيح ويتحول الثقافي إلى عنصري ويتحول التاريخي إلى تفكيكي ويتحول الحق إلى باطل.
ولا شك أن الشعر جميل والانتماء جميل والإبل جميلة وذات قيمة رمزية عالية وعميقة، ولكن النسق إذا دخل شيئاً شانه وحوله من الصواب إلى الخطأ ومن الحياد والموضوعية إلى الانحياز، وليست المسألة خاصة بالقبيلة وحدها ولا بالإبل وحدها ولا بالشعر وحده، ولكن هذه الأشياء صارت موضع ملاحظة لأنها استقطبت الخطاب الراهن واستحوذ عليها النسق بشكل معلن ومكشوف ومن هنا صارت العيون والأقلام لا ترى غيرها ولا تكتب إلا عنها، وزاد من توتير الخطاب الثقافي العام وتأزيمه ظهور الإنترنت وما تعطيه هذه الوسيلة لمستخدمها من حرية مطلقة في التعبير عن كل مكنوناته، وخاصة مع استخدام أسماء مستعارة حيث ينطلق الكاتب دون تخوف من ملامة، وهي حرية مكتسبة ولا شك وللأنترنت ميزة ثقافية عالية في منحتها الكبرى في حرية النشر وسقوط الرقابة والوصاية، غير أن هذا يحمل معه ما يحمله من إغراءات خطرة، ومنها أنها فتحت أبوابا للعنصريات وللهجائيات، ومع تواتر ظهور الخطابات السالبة نشأ نوع من الإغواء الذاتي حتى انقشع ثوب الحياء والمرء الذي كان يتصور نفسه وحيداً في هواجسه وفي نوازعه السلبية بدأ يشعر بحس عريض بأن له شركاء يشاركونه الهواجس نفسها والنزعات العدوانية ذاتها وهذا يدفع بالمرء شيئاً فشيئاً حتى يستطرد وراء الخطاب ويخضع لغوايته، وفي المقابل يأتي أشخاص آخرون بردة فعل معاكسة ويكيلون الصاع بصاعين وأكثر، وبذلك يشيع الخطاب السالب ويصير لغة مشتركة عبر الروابط والمواقع العنكبوتية، وتظهر كل المضمرات النسقية بلا وازع ولا رادع، ولذا فإن الإنترنت بمقدار ما قدمت من خدمة عظمى لحرية الفرد وتحرره إلا أنها أيضاً فتحت فرصاً خطرة لكل النوازع الشيطانية في البشر، وصارت مرتعاً لكل الداخلين بخيرهم وشرهم وهونت الشر ولقنت المتصفحين كل أنواع اللغات حسنها وشيطانيها، وانفتح المضمار وظهرت المكنونات، ومن هنا نشأت أسباب تستدعي طرح موضوع العصبية عموماً والقبائلية خصوصاً، وهذا أمر يقتضي مزيداً من القول أتمه في المقالة القادمة - إن شاء الله -.