حرية التعبير: ارفع البندق
ومن أطرف ما قرأته من تعليقات إلكترونية في ذيل أحد "مقالاتي" بحر الأسبوع الماضي، نصيحة "صادق" بأن "ارفع البندق"، وهي كتابة مجازية من موروثنا الشعبي تقال للشخص في حالتين: عندما يضرب بالرصاص طائشاً فوق رؤوس الناس بارتفاع يقل عن "القامة"، أو عندما يخشى عليه من أن تضعه الكلمة في موقع "زلة" أو يتم تفسيرها على نحو يوقعه في ورطة.
وحكاية البنادق والرصاص في يد "البواردي" مرت في موروثي القروي بمراحل مختلفة. في طفولتي، كان يقال لحملة البنادق في مقتبل الصفين ليلة الزواج: ارفعوا البنادق فالجبال مليئة بالرعيان دون أن تمر ذاكرتي على "راع" قتلته بندق فرح طائشة. لكن مدلول طفولتي عن هذا الوصف ينبئني اليوم بأن مساحة "الحرية" آنئذ كانت هامشية محدودة ضئيلة لأن المعادلة تقول: كلما ارتفع رأس البندق، ضاقت حرية التعبير، فما بالك والتعليمات كانت مشددة لرفعها تماما حتى تتجاوز أعلى قمة الجبل. ومع الزمن انتهت خرافة "الراعي والجبل" عندما مَنّ علينا وزير الكهرباء آنذاك "غازي القصيبي" بمد أسلاك الكهرباء في أزقة القرية وميادينها العامة، رغم أنها وللحق، بقيت سبع سنوات عجاف دون أن تبث فيها روح الطاقة لنتحمل وزر الأسلاك والأعمدة ولكن بلا تيار. اللافت أن وجهاء قريتي كانوا يشددون على الرماة برفع "البندق" حتى لا تقطع أسلاكاً "ميتة" وهنا أصبح على الرامي رفع البندق فوق رأسه تماما وباتجاه استقامته فضاع مفهوم "العرضة" مثلما تضايق واحتد تماماً مستوى حرية التعبير فالبندق إن لم تكن على سجيتها، رصاصة كانت أم قلماً لا معنى لها إن لم تتواز مع خط مستقيم مع سطح الأرض.
ولا أعلم ما الذي دفعني هذا الصباح لمفردات الرصاص والبندق ولكنها مقاسات حرية التعبير. لقد جلسنا عقوداً طويلة من تاريخ الإعلام ونحن نرفع البندق نحو كبد السماء حتى أمن المخطئون والمفسدون على سطح الأرض، بل صاروا يلعبون معنا العرضة حتى بجوار البندق. صحيح أن في الإعلام "رماة طيش" قد يصيبون بالخطأ إصابة بليغة ولهذا نطلب منهم رفع البندق. لكن الأصح أن حرية التعبير مقاس مسؤول: قضايانا تعقدت والعالم من حولنا ينحو للحرية المسؤولة والإعلام الجريء، فيما لم تزل مقاساتنا تشديداً برفع البندق فوق الجبال والأسلاك الكهربائية. أختم برؤيتي الشخصية، فأنا أعشق العيار الذي يضرب "في المليان" أو يجاور فيدوش. أعشق البندق المسدوحة
الوطن