كثيرة هي التحليلات التي تقيم موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما من قضايا المنطقة العربية, وفي مقدمتها القضية الفلسطينية, خاصة بعد موقفه السلبي من حصار غزة والجريمة التي ارتكبتها إسرائيل في عرض البحر باعتدائها الدموي على أسطول الحرية..
وتذكرنا هذه التحليلات بردود الأفعال التي صاحبت إلقاء الرئيس اوباما خطابه الشهير في جامعة القاهرة, الذي بدائه بالسلام, وختمه بالسلام, وما بينها كان حديث الرجل مفعم بالسلام, ومبشرا بعهد جديد من العلاقات الأمريكية مع العالم العربي والإسلامي, حيث صدَّق كثير من الكتاب والمفكرين تلك الدعاوى, مطالبين برد التحية بأحسن منها!!
ويقول أرباب هذه التحليلات أن التوقعات جاءت على عكس ما يريد هؤلاء الكتاب والمفكرين تماما.. فلم يحمل الرئيس أوباما جناحي حمامة السلام.. ولم يمطر الدول العربية والإسلامية برسائل المحبة والوئام, بل على العكس من ذلك تماما, اتخذ من الخطوات التصعيدية والعدوانية ما تورع عنها سلفه الريس جورج بوش.
ويبرهنون على صحة ما ذهبوا إليه بعدد من الوقائع, منها ما أكدته منظمة العفو الدولية (أمنستي) من أن الولايات شنت هجوما في اليمن باستخدام القنابل العنقودية المحرمة دوليا, ونشرت المنظمة صورا لصاروخ أمريكي يحمل قنابل عنقودية تم التقاطها عقب الهجوم, مشيرة إلى أن الهجوم غير مسئول بشكل كبير وأسفر عن سقوط ضحايا كثيرين من النساء والأطفال.
ويؤكدون ذلك, ثانية, بما نقلته صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية عن مسئولين عسكريين ومسئولين في الإدارة الأمريكية أن قوات العمليات الخاصة الأمريكية نمت في العدد والميزانية وقد باتت منتشرة في 75 دولة بعد أن كانت في بداية العام الماضي موجودة في 60 دولة, وبتفويض واسع أكثر من ذلك الذي منحه لها الرئيس جورج بوش, حيث أشار مسئول عسكري كبير إلى أن أوباما سمح بأشياء لم تسمح بها الإدارة السابقة.
ثم يذكروننا بمجموعة من الإحصاءات قامت بها ( وكالة رويترز) من تقارير لمسئولين أمنيين باكستانيين ومسئولين بالحكومة المحلية وسكان تشير إلى أن القوات الأمريكية شنت 39 هجوما بطائرات من دون طيار في باكستان بعد تسعة أشهر من تولى اوباما مهام منصبه، وذلك مقارنة بـ33 هجوما خلال العام الذي سبق تأدية أوباما لليمين الدستورية في20 يناير.
وينتهون من ذلك إلى أن الرجل خدعنا خداعا كبيرا, وأظهر لنا وجها حسنا بعدما تولي الرئاسة, وفي حقيقة الأمر لم تتغير السياسية الأمريكية قيد أنملة عن دعمها اللامحدود لإسرائيل واستخفافها بحقوق العرب.
وحقيقة لا احد يجادل في أن إدارة الرئيس أوباما خالفت ربما كل ما دعت إليه, ونكصت عهودها جميعها, ولكن السؤال الذي نخبئه ولا نريد كشفه ولا مواجهة أنفسنا به, يتعلق بذاتنا, وهل نخدع نحن أنفسنا حقا؟!
برأي أن خداعنا لذاتنا أكبر بكثير من خداع اوباما لنا..فقد خدعنا الرجل, إن صح أن نسمي ما فعله خداعا, مرة واحدة, حينما وعد ولم يوف بما وعد ونكص على عقبيه واستمر في سياسية سلفه بوش ولكن بوجه مبتسم ويد ممدودة على الدوام بالسلام..
وهذا في أعراف السياسيين الغربيين وغيرهم لا يسمى خداعا, ولكنها البرجماتية السياسية, والدوران مع المصلحة حيث دارت..ولن يخالف قادة الغرب أعرافهم وقواعد السياسة التي تجرعوها من أجل ألا تدمع عين العرب ويهنئون في عيشهم.
ولكننا كما أسلفت خدعنا أنفسنا أكثر من مرة..
المرة الأولى حينما صدقنا أن أوباما أو غيره من ساسة الغرب سيحمل عن كاهلنا قضايانا, وسيكون منصفا معنا وسيأخذ لنا حقوقنا, ويعيد القدس, ويوقف الجموح الإسرائيلي..وأنه صادق في دعواه التي بشرنا بها في مستهل فترته الرئاسية الأولى..مع أن تاريخ الولايات المتحدة, لمن يقف عليه, بل وتاريخ الغرب لم يكن في يوم ما محايدا, فكيف يكون مؤيدا؟!
فبريطانيا هي من زرعت إسرائيل بمقتضى وعد بلفور 1917..والولايات المتحدة هي من رعت هذا الكيان اللقيط منذ نشأته وحتى الآن..فما هو المقتضي الذي يجعلنا نصدق غير ذلك؟..
هل مجرد خطاب معسول يجعلنا نتجاوز التاريخ ودلالاته ونقفز فوق قواعد السياسة التي تحكم قواعد اللعبة الدولية؟!..لا أظن أن هناك غفلة وكذب على الذات وخداع للنفس أكبر من ذلك.
أما الخداع الثاني, فإننا تكاسلنا حقا عن نصره قضايانا, فقد تراجعت القضية الفلسطينية في سلم الاولويات العربية, ولعلنا نجد دول عربية كبرى, لم تنبس ببنت شفه, حينما هاجمت إسرائيل أسطول الحرية, بل والدول العربية التي استنكرت هذه الجريمة هي أقل من تلك الدول التي تحدثت شاجبة مستنكرة, أما على صعيد العمل الفعلي فـ(صفر) كبير هو حصيلة الفعل العربي, ثم ننتظر ذلك الموقف الأمريكي وغيره, ونظن انه خداع كبير!!
ذات المشكلة في العراق, فلم يعد هناك قدر من الاهتمام, يوازي ذلك الاهتمام الإيراني, والذي بفضله أمسكت طهران بمفاصل العملية السياسية هناك, ثم نلوم أمريكا وأوباما بدعوى أنه قدم العراق على طبق مذهب لإيران, وخلع عن بغداد ردائها العربي وألبسها ثوبا شيعيا إيرانيا..
فهل المشكلة هنا هي مشكلة إيران التي تحركت أم أمريكا التي غزت أم العرب الذين جلسوا في مقاعد المشاهدين منتظرين ذبح الشاه وسلخها وتوزيعها ثم يتباكون من قسوة الجزار والجلاد؟!
لقد تخلى العرب عن قضايا العرب, وتدني الاهتمام بها إلى القاع..ومن باب الخداع الكبير أن ننتظر من أوباما أن يحملها عنا وقد تخلينا عنها..
والخداع الأكبر الذي نقع فيه وربما الأخطر, هو إقناع الذات بالعجز المطلق عن فعل شئ لقضايانا, وإلقاء التبعة على الآخر البعيد, مع أننا نملك من المقومات الاقتصادية وغيرها ما يؤهلنا لإحداث نقلة حقيقة في مسار العلاقات الدولية بما يخدم مصالحنا, على نحو ما فعلت تركيا التي تصالحت مع ذاتها ومع ثقافتها, وأحدثت تغيرا جوهريا في الداخل شمل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وهو ما أفرز بعد سنوات قليلة قوة ضخمة على الصعيد الخارجي مكنتها من الحفاظ على مصالحها وتحدي إسرائيل وغيرها.
كعرب ومسلمين نملك من المقومات المادية ما يمكن لو أحسن استغلالها أن نحقق نهضة حقيقة في الداخل, شريطة أن نتصالح من ديننا وحضارتنا ونصلح بنيتنا السياسية والاجتماعية.. وحينها نكون قد خلعنا ثوب الخداع وحققنا الخطوة الأهم في طريق الحفاظ على مصالحنا وحل قضايانا.