دولة العشيرة/عشيرة الدولة
نموذج الدفاع عن السلطة في العراق
تهيمن علاقات الدم القرابية على صناعة المجتمع العراقي، وتبرز تلك الآلية بشدة بعد ان اختل توازن السلطة القابضة، وانهيار مشروع النظام الحديدي الشمولي، لتتصاعد حدة الخوف من حلول دولة (النموذج الهوبزي)، فبعثت نماذج سلطة وهيمنة على شاكلة النظام الحديدي، لتتحكم بمسار المجتمع والدولة. فتغذية العشيرة لمنظومتها جاء كمحصل طبيعي، لنظام دولة اعتمد دويلة القرية والعشيرة في حكم التنوع المجتمعي العراقي، لذا كانت الزعامات العشائرية ترى في مكانتها المحلية هي امتداد طبيعي لسلطة زعيم العشيرة الأكبر (رئيس الدولة).
و وفقا لصناعة الرمز العراقية، فإن الزعامة تمثل عاملا مهما للاستقرار. لذا فانه و على الرغم من محاولات النظام البعثي أبان نجاح انقلابهم في تموز 1968، من فرض نموذج المجتمع المدني المتحرر من الربقة القبلية، إلا أنها كانت دوما تحاول لفت انتباهه من خلال بعض التمردات الصغيرة والخفية و احتضانها لثوار ومتمردين، و كذلك تشكيل قطعات ميليشياتية عشائرية تابعة للسلطة – في الحرب العراقية الإيرانية – أو بعد الانتفاضة الجنوبية 1991، في محاولة لاسترداد حضوة و نفوذ ذهب الى مؤسسات سياسية ترى العشائر أنها مهزوزة. ففي السياقين التمردي و الموالاتي نجد ان العشيرة تحاول ان تثبت لنفسها موقفا منافسا للسلطة في إدارة المجتمع.
شهد العام 1996 تحركا عسكريا منظماً للإطاحة بسلطة صدام حسين من المنطقة الغربية (الانبار) من قبل عشائر عربية عبر قادة و ضباط كبار في الجيش النظامي و الحرس الجمهوري من أبنائها، وصف التحرك آنذاك بكونه تحركاً عشائرياً، و ان لم يوصف علانية إلا سمات و تحليل ذلك التحرك يؤشر بقوة على دور العشيرة.
فلعشائر المنطقة الغربية (السنية) منعة اكبر من عشائر المنطقة الوسطى و الجنوبية (الشيعية) و الشمالية (الكردية)، لكون الأخيرتين مستبعدتان من معادلة توازن السلطة، إضافة الى ان أي تمرد عشائري غير سني سيقود الى اتهام طائفي – خارجي، إضافة الى أنها لا تمتلك الجرأة الكافية لتنفيذ هكذا مخطط ، معتبرين من تجربة قمع انتفاضة 1991. ومنعة عشائر المنطقة الغربية تأتي من كونها ( سنية ) و كانت لها صلات قرابية و تصاهرية مع عشائر زعماء السلطة، و كون السلطة وهذه العشائر تنتمي الى بيئة و حاضنة و نظام أخلاقي واحد، و الأهم من ذلك ان قيادات الجيش العراقي والأجهزة المخابراتية تعتمد اعتمادا كليا على أبناء عشائر الغربية.
بالمقابل وإبان انتفاضة الشيعة الجنوبيون1991، استعان النظام ببعض أبناء عشائر المنطقة الغربية لقمع أبناء عشائر المنطقة الجنوبية المتمردين، حيث جند الآلاف من عشائر الجبور كمتطوعين في الجيش النظامي، و وقفت عشائر البو علوان حجر عثرة أمام الزحف الجنوبي لإسقاط سلطة بغداد.(طريق الشعب / آذار – نيسان / 1998).
ان ابسط مقارنة بين الحركتين، يستشف منها، ان السلطة الحاكمة، لعبت على عامل التفريق الطائفي، بين عشائر المنطقة العربية في العراق، لا سيما و ان أصول تلك العشائر ترجع الى أصول واحدة، باختلاف المذهب و التدين اللذين أسبغا بحكم البيئة المعاشة.
لذا كان المكون الطائفي، عاملا حاسما في قسمنة كتلة التواصل العشائري العراقية، مما اثر سلبا و بشدة على حركات التمرد المتعددة التي شنت ضد النظام البعثي، و إفشالها بسبب القطيعة والثأر وفقدان الثقة المتبادل. تحت هذا السياق وحده يمكن النظر الى محاولة النظام من صناعة (عشيرة الدولة)، المعززة لـ (دولة العشيرة).
وقبل الدخول الى تفكيك المفهومين السابقين وربطهما بالتجربة العراقية، أود الإشارة الى حقيقة غاية في الأهمية والخطورة بذات الوقت، هي انه ومع دخول العشائر في حاضنة عشيرة الدولة، و تمركز مصالحها في دولة العشيرة، فأن أواصر التقارب التقليدية أصبحت غير ملزمة لإحداث ذات التواصل، فدخول قيمة (السلطة / الحكومة) جعلت منها تنتخب عددا من الأعراف والتلازمات الجديدة لإدارة التواصل. ومنها ان علاقات القرابة (الدم) ظلت تترنح في مكانها التقليدي الانعكاسي ليس إلا، ان لم نقل أنها فقدت قوة (الجد الأعلى)، لتحتفظ فقط الآن بـ (تاريخ الدم المشترك).
القيم الجديدة هي مدى اقتراب ولاءات العشيرة للسلطة / الحاكم / الدولة
ان هذه النزعة لم تظهر لدى العشائر العراقية، إلا بعد العام 1991 بشكل عام، إذ أنها كانت تظهر و تختفي وفقا للحاكم – عشيرة الجميلات (الدليم) في عهد الرئيس عبد السلام عارف - ، ولربما يعود السبب الرئيس وراء بروز تلك الظاهرة هي الظروف السياسية المعقدة التي أملت على السلطة والعشيرة التوجه لهذا النزوع.
" القبائل والجماعات المحلية ليست مكرسة كليا الى البحث عن سلطة سياسية، ... حين نسترجع تاريخ الشيوخ والبيوتات القائدة، نجد ان علاقات القرابة، الانتساب، النسب، والمصاهرة، قد اتخذت أشكالا متباينة. لاريب ان تعبئة هذه العلاقات و قربها من السلطة المركزية يمكن ان يعطي شتى المنافع والمكاسب لأفراد القبيلة" . (هشام داوود و آخرون ، 2006 ، 177).
ان تبعية هرمية سادت هذا النوع من التأثيث السلطوي ، " هذه الممارسات تنعكس على القبيلة ، فتضغط على أفراداها ، كي يخضعوا للزعامة على قاعدة الإحساس بوجود دَين بذمتهم مقابل خدمات الشيوخ بوجود دَين إزاء السلطة المركزية".(داوود ، 2006 ، 178 ).
و طبقا لهذا المنظور كان فهم تحركات العشيرة ومحاولات استقطابها تبدو مترنحة وغير مستقرة، وتعاني من تشوهات كبيرة تنخر في الجسد الكلي باتجاه الزعامة انطلاقا من القاعدة، لأسباب تتعلق بفقدان الرياسات صفة الاحترام التقليدية المتعارف عليها والتي لايجوز خرقها تحت أي ضغوطات كانت.
فحين تكون القاعدة العشائرية مؤمنة بقناعات مضادة للسلطة السياسية التي تحضى بتأييد الرياسات القبلية، فأنها تشعر بخذلان عاصف لغطائها الاجتماعي وغشائها الحامي لأمنها الشخصي والجماعي، إضافة الى إحساسها القوي بـ (الإخصاء) المتعمد الذي تمارسه السلطة لكسر رجولة المقاوم لسياساتها.
وعلى وجه العموم، كانت هناك محاولة السلطة أواسط السبعينات منع تداول الألقاب العشائرية والمناطقية / القبائلية، حسب فلسفة إدارتها السياسية آنذاك، كان للتضييق على العشائرية و تحجيم قوتها في المجتمع مقابل قوة القانون. و في حقيقة المسعى، ان النظام لم يرد من محاولته تلك بناء مجتمع مدني قانوني (وفق نظرية جون لوك)، بل كان يريد ان يمسك بزمام جهاز التحكم بالمجتمع و العلاقات، و لايبقى لأية سلطة منافسة أو بديلة أو محلية أو حتى روحية، سوى سلطتها، إضافة الى إخفاء هيمنة عشيرة السلطة على كل مقاليد الدولة ، فعملية الإخصاء المستمرة كانت تضطرد بسياقين:
1- اخصاء الرياسات العشائرية والقبيلة وتحجيم سلطتها العرفية مقابل منح قوة اكبر لقوانين السلطة.
2- إشاعة تداول الألقاب القبيلة والمناطقية لقيادات السلطة في محاولة لإظهار نوع من الترهيب والفوقية المناطقية والانتمائية المعززة لمفهوم عشيرة الدولة.
وابتداءا من إطلاق ألقاب (التكريتي ، الناصري ، الجزراوي ، المجيد ، الحسن ، الأحمد)، و هي ألقاب لزعامات السلطة البعثية في العراق، بدت ان فروقا كبيرة تبرز بين السلطة و محيطها الاجتماعي، فتكرار تلك الألقاب واستمرار تداولها، ولّد شعورا بالنقص الدائم لدى قبائل المنطقة الجنوبية، يصاحبه شعور بالازدراء والدونية، دافعه أنهم غير محبذين بتاتا في دولة (العشيرة). هذا إضافة الى ان تلك الدولة أشاعت مصطلح (الشروك) أو (الشروﮔية) أي الشروقية، نسبة الى الشرق، ومعناه ان العشائر العربية في الجنوب العراقي، تتبع الى الدولة الإيرانية المجاورة، ومتأثرة بثقافتها الدينية التشيعية، واتهامهم ضمناً بالعمالة السياسية و القومية. و استمرار مسلسل التخوين الدائم لها، خصوصا بعد العام 1980، بدء حملة تصفية أعضاء تنظيمات حزب الدعوة الإسلامية و إعدام زعيمه الروحي آية الله العظمى ( محمد باقر الصدر ).
ان الشكوك التي كانت تدور في عقلية سلطة البعث، أبعدت نهائيا وعاقبت جماعيا عشائر الفرات الأوسط والجنوب، عن تولي أي مركز للسلطة مهما كان صغره أو مفصليته في جسد الإدارة الحكومية، اعتقادا ان إعطاء أي دور لها سيقوي من مركزها و اطلاعها على سير نشاطات السلطة وبالتالي كشفها للعدو المفترض.
لكن هنا برزت إشكالية ربما لم تكن بائنة أو كونها معضلة حقيقية، هي احتياج السلطة الى أفراد مأموني الجانب لشغل مناصب مفصلية في الجنوب من مواطنيه، لقرب من الواقع الاجتماعي وظلوعهم في معرفة أوضاع تلك الأنحاء المتهمة بالتمرد.
لذا برزت لنا سياسة اتخذتها عشيرة الدولة من اجل أحكام القبضة، في ابتداع صيغة فرز واستقطاب على أساس العامل الاثني والطائفي، فكانت هي الحلقة الثانية في مخطط عشيرة الدولة وهي عشائر الجنوب ( السنية المذهب).
فهذا التشكيل المبني على معايير ولاء خاصة و فرعية، أكثر من كونها معايير وطنية أو شمولية، افرز تقاطع آخر مع السلطة و عامل ترهيب جديد يضاف الى ممارسات الإرهاب السلطوي المختلفة.
فبصلة السلطة ، تعبر عنها قشور الخارجية ...
مخطط يبين امتدادات عشيرة السلطة في العراق (1)
إن هذا التشكيل الذي أسسته الدولة في العراق دفاعا عن سلطتها، ابرز مدى هشاشة وضعف النظام، وركاكة منطلقاته في بناء دولة مدنية، بعد ان سوّق لنفسه ثورة راديكالية جذرية، وحدد لها منطلقات قومية وانجازات محلية اعتبرها فتوحات كبيرة على مستوى بناء الدولة العراقية ككل.
وبناءا الى ما أشير إليه، فان سلطة البعث في العراق كانت سلطة عشائر بامتياز، و لايمكن فهم طبيعة تفكير هذا النظام خارج هذه الصورة المجتزأة طبعا من السياق العام، و ربما لا نجد برهانا أقوى من إعادة قراءة الخطاب الرسمي لرئيس السلطة بعد العام 1994 تحديداً، حين اتجه الى ارتداء الزي العربي القبلي التقليدي، واللقاءات شبه اليومية مع رؤساء العشائر والقبائل العراقية المختلفة ، وهي لقاءات طويلة تستمر لساعات عدة لم يكون موضوعها سياسيا بصورة خاصة، بل كان الوضع السياسي هامشاً تقليديا في سياق الحديث.
كانت أحاديث رئيس النظام المخلوع بزيه العربي التقليدي، تتركز على إعادة صياغة مفاهيم الأعراف والتقاليد القبلية بصيغة تظهره على انه (شيخ مشايخ) العشائر العراقية. فمثلا في العام 2000 بث التلفزيون العراقي الرسمي حديثا مطولا لصدام حسين بالزي العربي في لقاء له مع قبائل وعشائر من مناطق العراق المختلفة، تحدث فيها عن خصائص الأعراف القبلية و العشائرية العراقية وسبل تنشيط تلك الأعراف في المجتمع، و عن طرائق استقبال الضيف و الأخلاق العربية وغيرها. بعدها بأيام بلغت كل مفاصل وخلايا حزب البعث المنتشرة في عموم البلاد، باعتماد ذلك الخطاب كصيغة عمل.
هذا الانقلاب في بنية الخطاب كان مرده عوامل تهديد حقيقية لعرش السلطة البعثية، فتلك المجافاة والقطيعة التي اعتمدها في ضرب الخصوصية العشائرية، كسر هوتها بالتقرب الحثيث منها عبر الهبات والهدايا، لرؤساء القبائل.
أما ابرز العوامل التي قادت الى تقرب السلطة الى عشائر لم تكن داخلة في حساباتها في الجنوب العراق هي:
1- صعوبة السيطرة على الكثافة السكانية في الجنوب العراقي إذا ما عوملت على أنها مجتمع مدني خاضع للقانون.
2- تجزئة المجتمع الى فئات جهوية وعشائرية، لسهولة إخضاعها الى المراقبة وحصر المسؤولية أمام رؤساء الوحدات العشائرية.
3- استمالة عشائر الجنوب لتكون ضمن عشيرة الدولة، بعد بروز قوتها بشكل أرعب السلطة في العام 1991.
4- شعور سلطة البعث بعدم قدرتها، أو فراغ جعبتها من أية وسائل ضبط، دون الاستعانة بالمكون العشائري.
استقطاب عشيرة الدولة
بعد العام 1991 و ظهور العشائر الجنوبية المقموعة كقوة مهددة للسلطة، خصوصا بعد ان أصبح لديها ترسانة سلاح بإمكانها ان تمول أي تمرد منظم وسط تنامي شعور الكراهية المفرطة للنظام ومحاولات قلب السلطة المستمر، سيما وان الخط البياني لتلك المحاولات ازداد بنسبة غير قليلة، ابتداءا من عشائر المحيط المناطقي لعشيرة السلطة (محاولة 1996)، وانتهاءا بدعم العشائر محاولة فصل مدينة البصرة عن البلاد في العام 1999!!.
عشيرة الدولة، نعني به العشائر المستقطبة من جنوب العراق بقوة المال والمشاركة في السلطة، بعد العام 1994، لتكون من ضمن دولة العشيرة.
ان فكرة العودة الى الزخم العشائري، كان من اجل إيجاد وسيلة دفاع مستمرة عن السلطة في العراق، فهذا التوجه الذي قوبل بترحيب بالغ من قبل العشائر الجنوبية كان يقف ورائه، محاولة تبرئة ذمتها من تهمة التخوين الدائم والمستمر، أو ما سماه النظام السابق في العراق (صفحة الغدر والخيانة)، إضافة الى محاولتها الخروج من شرنقة التضييق الاجتماعي والاقتصادي والمهني.
مقابل ذلك حاول النظام بخجل، إعادة تلك العشائر التي طالما انتهج سياسة معادية لها بسبب شكوك وعدم طمأنينة إزائها، الى حاضنته لكسب ودها أو جعلها تكف عن دعم حركات التمرد، وتحافظ على ديمومة السلطة.
واستناداً الى ذلك اتسعت رقعة الاستقطاب العشائري لحماية السلطة، لتمتد من قلب دولة العشيرة عبر حلقات التأييد لتكون ضمن إطار عام هو عشيرة الدولة. و وفقا للظروف التي تشكلت بها السلطة البعثية للعراق، فأن سياسة الاستقطاب التي عملت بها، زادت من تدهور شعبيتها، فمع كل محاولة استقطاب جديدة، يقابلها انحدار اكبر للشعبية، و بما ان للعشيرة دور نؤثر للغاية، فكانت ابرز حلقات الاستقطاب الجماهيري.
هذا المفهوم ورد غير مرة على لسان رئيس السلطة المخلوع، في ان الدولة هي "عشيرة كل العراقيين " ، فتحول منظومة الدولة بصفتها القانونية و المدنية و التنظيمية الى صورة " العشيرة " ، هذا يعني انقلابا خطيرا في عقلية السلطة نحو تسطيح فكرة الدولة نزولا الى عدها سلطة عرفية تحظى بقوة العرف (كشيخ القبيلة). فشيخ القبيلة يحضى في ثبات استحقاقه الرياسي، بقوة العرف، فلا يمكن للأفراد الاعتراض على سياساته أو السعي لتغييره، لكونه مرتبط بمنظومة ارث تاريخي طويل ومعتاد. السلطة في العراق كانت تحاول ان تصل بمواطنيها الى مرتبة " الإتباع الأعمى " وتحول السلطة الى حق ارثي مقدس.