مقدمة :
إن من طبيعة النفوس أن تفتر وتمل ، وأن تتعب وتكل ، سيما مع طول الزمان ، ومغريات الحياة ، كثرة متع الدنيا ، وصد الشيطان . وحينئذ تضعف النفس عن أداء الواجبات ، والقيام بالطاعات ، كما يقل تأثّرها بها ، واستفادتها منها .
ومن حكمة الله ورحمته أن جعل لها ما يقوي ضعفها ، ويشحذ عزمها ، ويزيد من إيمانها ؛ وذلك من خلال التفضيل الذي خصّ به بعض الأزمنة والأمكنة ..( بادحدح رمضان نفحات ولفحات ص6)
ومن الأزمنة الفاضلة : عشر ذي الحجة ، وعاشوراء ، ورمضان ..
ودرسنا هو عن فوائد و أسرار الصيام ، تلك العبادة العظيمة التي جعلها الله ركنا من أركان الإسلام ، وفرضها الله على المسلمين ليس يوما واحد ؛ بل 30 يوما ، وكل عام .
[ وقد كتب الله الصيام فرضا محتوما في دينه الحنيف في قديم الزمان من الأمم السابقة ، فلذلك قال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }183 ، فهو ليس إيجابا مختصا بهذه الأمة ؛ بل هو فريضة دينية قديمة ، وذلك لأهميته ، وعظيم أثره على النفوس " ( بتصرف /الدوسري صفوة المفاهيم ص8)
لقد تكلم العلماء والمربون عن الفوائد التربوية من الصوم ، حتى أنه أطلق عليه مدرسة الصيام ، لما قيه من الفوائد الكثيرة التي تعتبر مصدرا من مصادر التربية .
وعبادة بهذه الأهمية والفائدة ؛ يجب علينا أن نتلمس الفوائد التي فيها ، ونحاول الاستفادة منها ، إننا نرى أصحاب الدورات التربوية أو الإدارية ..، قبل الدخول في دورة من الدورات ؛ يقوم المقدمون بعرض مزايا هذه الدورة ، وما فيها من فوائد ، ونحن مقبلون على عبادة ؛ أشبه بدورة ، ومدرسة ، يتربى فيها المسلم على مجموعة من الفضائل ، ويتخلى عن مجموعة من الرذائل . فينبغي علينا أن نتعرف على هذه الفوائد و الأسرار.
(1) التقوى:
وهي المقصد الأسمى من فرضية الصوم ، كما نطق بذلك الحق سبحانه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } ( البقرة183)
وهذه الغاية المرادة بالصوم هي الغاية من العبادات جميعا : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة 20) .
والتقوى هي الخشية ، قال تعلى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ( النساء 1) ، وقال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ } (106الشعراء ) يعني : ألا تخشون الله .
والتقوى وإن كانت بمعنى الخشية ، إلا إنها وردت في القران على معاني ؛ منها :
الإيمان والشهادة ، كما قال تعالى :{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (الفتح 26)
ومنها : التوبة ، قال عز وجل : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف96 )
ومنها : الإخلاص ، قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32الحج ) (الرازي ، تفسير فتح الغيب ج2ص20)
وحقيقة التقوى أن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ، يعرف عظمته وقهره وجبروته وقدرته فيخاف منه ويفزع ، فيحذر أن يقع في معصيته ، ويعرف رحمته ومغفرته ونعمه التي لا تُحصى ، وما أعد لعباده المؤمنين ؛ فإذا به يسارع إلى رضاه ، ولا ينال العبد التقوى إلا بالمداومة على الطاعة ، وإقامة الفرائض ، والزيادة من النوافل . ( الأشقر الصوم في ضوء الكتاب والسنة ص6)
فالتقوى إذاً حذر وتوقي لأسباب العذاب ، وعند خواص المؤمنين : حذر وتوقي لأسباب البعد عن الله ؛ كالذي يسير في طريق فيه شوك ؟ يحذر أن يقع فيه . سأل عمر أبي بن كعب : ماهي التقوى ؟ قال إبي : يا أمير المؤمنين : أما سلكت طريقا ذات شوك ؟ قال : بلى . قال : فماذا صنعت ؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى ( تفسير ابن كثير )
فالمتقي يحذر من شوك الطريق ؛ الذنوب والمعاصي أو حتى المباحات ؛ التي تحول بينه وبين ربه ، فدائما هو في حذر ، إن خطى خطوة قال: ما أردت بهذه الخطوة ؟ إذا رأى امرأة خاف من ربه ، وصرف بصره ، .. فهو دائما يستشعر رقابة الله عليه ويخافه ويتقيه ؛ في فعله وتركه ، وقيامه وقعوده ، حتى في أكله وشربه ، هذا غلام لأبي بكر مملوك ، يأتيه بكسبه ، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر : ما هو ؟ قال : كنت تكهّنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكِهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلتَ منه !!
فأخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه !! فقيل له : يرحمك الله ، كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟ فقال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ؛ سمعت رسول الله يقول : كل جسد نبت من سُحت فالنار أولى به . فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة ؟ ( سير إسلامية لعبد الستار الشيخ ص54)
انظر إلى هذا المثل الرائع لتقوى هذا الصحابي لربه ، رغم مكانته في الإسلام والجهاد والدعوة وجمعه لخصال الخير ؛ إلا أنه لم يغتر بذلك كله ، وكانت لديه تلك الخشية ، وذلك الحذر !!
فالتقوى هي زاد الروح ، الذي به ؛ أي هذا الزاد ؛ يسير إلى ربه ، ويصل سالما ، وأمل قول الله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } ، يقول ابن القيم : أمر الحجيج بأن يتزودوا لسفرهم ، ولا يسافروا بغير زاد . ثم نبههم على زاد سفر الآخرة ، وهو التقوى . ( بدائع التفسير ج1ص388)
قال ابن القيم : كما أن البدن لا يكون صحيحا إلا بغذاء يحفظ قوته ، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته ، وحمية يمتنع بها مما يؤذيه وخشى ضرره ، فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة تحفظ قوته ، واستفراغ بالتوبة النصوح تستفرغ بها المواد الفاسدة والأخلاق الرديئة منه ، وحمية توجب له حفظ الصحة ، والتقوى : اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة ، فما فات منها فات التقوى بقدره . ( في ظلال التقوى لوهبي ص 11)
الذي يسير في هذه الحياة بغير تقوى لله ؛ ما أكثر ما تزل قدمه !! وما أقرب الشيطان منه ؟