مشاهدة النسخة كاملة : القمع الفكري والمفهوم البشري


حورية البحر
31-05-2009, 12:35 PM
القمع الفكري والمفهوم البشري







د. تيسير الناشف











الفكر المعرب عنه في اللغة العربية يستحق إبداء بعض الملاحظات عليه. نظرا إلى الانتشار، على تفاوت، لجو القمع الفكري والنفسي والعاطفي الذي ترزح تحته شعوب المنطقة أفرادا وجماعات وتعاني منه فإن الفكر المعرب عنه في البيانات الشفوية والمكتوبة الصادرة عن هؤلاء الأفراد والجماعات ليس، في قسم كبير منه، فكرا حرا حقيقة. إنه فكر متأثر ومكيف بذلك الجو القمعي. كثيرون من المفكرين والكتاب والصحافيين يسخّرون أقلامهم، لقاء تعويض مالي أو مكافأة مادية أو شغل منصب من المناصب أو الوعد بهذا الشغل، لأصحاب السلطة الحكومية وغير الحكومية الداخلية والخارجية. وكثيرون من الناس يكتمون آراءهم الحقيقية في المسائل الحياتية والمصيرية أو يعربون عن آراء غير الآراء التي يعتقدون بها خوفا على حياتهم وعلى مصادر رزقهم وحريتهم المنقوصة.



وينبغي القول إن تكييف صياغة الرأي خوفا من أثر القمع الفكري والنفسي والعاطفي متأصل في جميع الشعوب بدون استثناء، ولكن الشعوب تختلف بعضها عن بعض في مدى شدة هذا القمع وفي قوة أثره في تكميم الأفواه.



وساهم الحُكم الأجنبي الذي دام قرونا، من نظم استبدادية وعسكرية وغازية وتوسعية من آسيا الوسطى ثم من الغرب، في نشوء ظواهر سلبية باقية. ومن هذه الظواهر الطائفية والحمائلية والاتكالية والذكورية-الأبوية و"الفهلوية" والاقطاع والارتجال والافتقار إلى إمعان وإجالة النظر والميل إلى المبالغة. ولأسباب منها اختلاف قوة ظلم الحكام الأجانب والمستوى الثقافي لدى أفراد شعوب المنطقة واختلاف حجم الفائدة التي تصور أولئكم الحكام إمكان تحقيقها من تلك الأراضي العربية الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية تتفاوت هذه الظواهر انتشارا وقوة. وليس المقصود أن الحكم الأجنبي هو المسؤول الوحيد عن هذه الصفات. فقد كان قسم من هذه الملامح قائما بين السكان في بعض أراضي المنطقة. بيد أن ذلك الحكم اتبع سياسة التعزيز الكبير لهذه الملامح، إضعافا لشعوب هذه المنطقة ولمنعتها الثقافية الأصلية ونهوضا بمصالحه الاقتصادية والاستراتيجية والتوسعية.



وكان لهذه الظواهر – أي الطائفية والحمائلية والاتكالية بالمعنى الاجتماعي الثقافي والذكورية-الأبوية والفهلوية والإقطاع والارتجال والافتقار إلى إمعان النظر والمبالغة – مَنْ رعاها ولا يزال يرعاها. ومنطلقات هذه الظواهر ليست عامة، ولكنها جزئية فئوية. من الواضح أن الطائفية تُعنى بأفراد طائفة واحدة هي جزء من كل. والحمائلية تُعني بأفراد حمولة ما. والذكورية-الأبوية تعطي الأولوية للذكور على الإناث. والإقطاعيون لا يعنون في المقام الأول إلا بالحفاظ على هذه الإقطاعيات دون الالتفات المتناسب إلى حالة الشعب البائسة وإلى الضرر الناجم عن نظام الإقطاع وإلى كون الإقطاعيات جزءا من أرض البلد والشعب. والاتكاليون بالمعنى الاجتماعي الثقافي يخلدون إلى أوضاعهم التعيسة دون العمل بالحديث النبوي "اعقل وتوكل". والارتجال والمبالغة والافتقار إلى إمعان النظر سلوك لا يراعي حاجة القضايا إلى



الدراسة المتأنية والموقف الواقعي والتسلح بالتفكير وإمعان وإجالة النظر في الأمور. هذه الظواهر كلها، إذن، ظواهر تنطوي على القمع الفكري والسلوكي، لأنها، بمراعاة كل منها لحيز منطلقها، تهمل حيزات منطلقات أخرى. وتتجلى هذه الصفات في البيانات الشفوية والمكتوبة والإيماءات والإيحاءات الصادرة عن الذين يتصفون ويأخذون وينهضون بها.



ولهذه الظواهر ولغيرها متطلباتها السلوكية المختلفة التي تكون متضاربة أحيانا. ولأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في الداخل والخارج دور هام في تعزيز هذه الظواهر. ويتعرض السكان لوابل من التأثيرات وأنماط السلوك والأفكار المختلفة والمتضاربة. وتتعدد مصادر الرسائل التي تحمل مضامين ثقافية مختلفة ومتضاربة. ورؤى الناس تختلف عن رؤى المتولين للسلطات الحكومية وغير الحكومية في بعض المجالات. هذه الحالات كلها القائمة في كل بقاع المعمورة، بما في ذلك الأراضي العربية، تؤدي إلى انشطار النفس (ينبغي إجراء دراسة اجتماعية لمحاولة تحديد مدى هذا الانشطار) بين مختلف الظواهر: الانشطار بين القِيم، وبين الانبهار بالمظهر الحضاري والثقافي القادم من الغرب والنفور من نتائج وتداعي سياساته وأحاييله، وبين متطلبات العقل والطروح غير العقلانية، وبين الرغبة في تحسين الحالة المالية والاقتصادية وواقع الحرمان والفقر المدقع، وبين النطق باللغة العربية وشعور البعض بأنهم ليسوا عربا عرقيا، وبين عدم التمييز الوافي بين العربي بالمعنى العرقي والعربي بالمعني الثقافي، وبين توفر الشهوة الجنسية والعجز عن ممارسة الجنس لنقص المال اللازم لدفع نفقات الزواج نتيجة عن البطالة وتدني الأجور والتضخم النقدي وارتفاع أسعار المواد الذائية الضرورية والفقر، وبين اعتبار أنفسنا أمة خيرة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ورؤية الدول الغربية قوية وغنية ومسيطرة ومتحكمة.



ويبدو أن الفكر العربي في القرنين الماضيين لم يول الاهتمام الكافي لحقيقة ضعف أو عدم وضوح الحدود المفاهيمية بين مختلف التيارات الفكرية الاجتماعية بالمعنى الأوسع: القومية (قسم الأية الكريمة "وجعلناكم شعوبا وقبائل") والوطنية (محبة الموئل والوطن ومسقط الرأس ومحبة الرسول عليه الصلاة والسلام لمسقط رأسه مكة المكرمة) والدينية (الإيمان بأن الله تعالى واحد لا شريك له والقيم الخلقية العليا) والتكافل الاجتماعي (دفع فريضة الزكاة وعدم الغلو في جمع الثروة). ومن المفيد للشعوب العربية والإسلامية إيلاء مزيد من الاهتمام لهذه الحقيقة، إذ بذلك يسهل العمل على تقليل حدة الخلافات وتنكيس السيوف المشرعة بين بعض تلك التيارات.



ومما له صلة بالقهر الفكري وبانشطار الشخصية اتسام سلوك قسم من الشرائح البشرية (ومنها الكتاب والمفكرون) باتساع الفجوة بين الكلمة والعمل بها. وأحد الاستنتاجات الذي لا مفر من استخلاصه من ذلك الاتساع هو أن العبرة في هذا السياق هي في العمل وليست في الكلمة.

binhlailبن هليــل
31-05-2009, 12:40 PM
حورية البحر...


الله يعطيك العافية


طرح موفق سعدت بقراءته



أشكرك على التواصل المستمر والحضور المميز


وبنتظار مزيدا من التألق


لك مني خالص


تحيتي

حورية البحر
01-06-2009, 12:28 PM
يسلموو على المرور الراائع


يعطيك العافيه


كل الود

! الموهوب !
15-07-2009, 04:38 AM
جزاك الله خير على الموضوع الرايع
وننتظر الجديد والجميل في المنتدى
تقبل ارق التحيا

حورية البحر
12-08-2009, 12:02 AM
يسلموو على المرور الراائع


يعطيك العافيه


كل الود