الـذويـبـي
22-03-2009, 09:48 PM
عشتُ سعيدا.. قصة كفاح
في بيئة يشيع فيها الحزن، وتحتفل بالمآسي، في مجتمع تكون الأغاني الحزينة فيه خبزاً يومياً، في ثقافة يقف فيها الجميع إجلالاً للحزن وانتظاراً للخواتيم التراجيدية واستسلاماً للموت والفناء.. في مثل هذا الجو الكئيب سيكون من الغريب وربما من الجنون أن يعترفَ أحدٌ بالسعادة! فكيف إذا كتب عنها بلغةٍ جميلةٍ وأسلوب أدبيٍّ رشيقٍ وغنَّى لها أجمل الأغاني وأسهم في حياتها وسيرورتها بتحديهِ للحزن والكآبة والنواح الذي يداعب خيال العرب الشعري وينسجُ إبداعهم الأدبي منذ قرون، وبإصراره على النجاح والتفوق وتحقيق الذات؟! كيف إذا دعا إلى اعتناق السعادة وجعل مقولة أحد الحكماء شعاراً لدعوته «عوِّدْ نفسك أن تكون سعيداً»؟!. إن الدعوة إلى السعادةِ ليست شيئاً جديداً بل هي قديمة قدم الحكمةِ ذاتها، فأغلب الحكماء جعلوا من السعادة مفتاحاً سحرياً لفهم الوجود ولكنّ الكثيرين من هؤلاء عاشوا تعساء. ومما سيزيد من غرابة هذا الرجل أن يصرِّح بأنه «من أسعد الناس على هذا الكوكب الواسع» رغم أنه بدأ حياةً شقية وولد مع الموت؛ سقط أبوه في البئر فنشأ بلا أب، ومات أخوه بالحصبة. ولد وهاجس «سنة الرحمة» - كما يسميها أهل نجدٍ تفاؤلاً - لا يزال يخيم على الجميع، في ذلك العام والأعوام الشبيهة به لم يعد الموت ضيفاً – كما يقول صاحبنا – بل صار هو صاحبَ البيت ونحن الضيوف!
وصاحبنا هذا – الذي سنتحدث عنه وعن كتابه في هذا المقال – هو كاتب سعودي عربيّ بدأ حياته منذ ستة عقود من الزمن في بلدةٍ نجدية تطوّقها الصحارى من جميع الجهات وتكاد الرمال أن تخنقها لولا وجود واحات ضئيلة متناثرة هنا وهناك تمنح لإنسان الصحراء بارقةَ أملٍ في عيشٍ كريم. صاحبنا هو الأستاذ - اللواء الطيار - عبد الله السعدون الذي بدأ حياته حافياً ثم على دراجةٍ (سيكل) وانتهى طياراً. بدأ فقيراً يتيماً ولكنه كان محباً للحياة عاشقاً لجمال الطبيعة الفقيرة إلا من صمت الصحراء الرهيب وأنين الأشجار العارية من شدة العطش. يذكر الكاتب أنه عاش مع أمه التي كانت أحلامها أقوى وأصلب من الواقع المرير الذي عاشت فيه، وقد تعلم منها معنى المقاومة والنضال ضد الفقر والبرد والحر. حينما افتتحت الحكومة مدرسة في بلدتهم كان يذهب حافياً في الوقت الذي كان يباهي فيه أبناء الأغنياء بركوب الحمير التي كانت دلالة على الترف والرخاء. وذات بردٍ قارسٍ ذهب حافياً وتجمدت قدماه وهو في الطريق إلى المدرسة فجلس وأسند ظهره على جدار ليحتمي به من البرد، وكاد أن يهلك لولا أن تعرّف عليه فلاحٌ فحمله على كتفيه وأخذ يفرك بيديه قدميْ الصغير - في صورة إنسانية عظيمة يخجل قلمي عن وصفها بهذه السرعة - وليتنا عند قراءتها نتوقف طويلاً ونستغرق في هذه الصورة النبيلة. مع التطور الحضاري الخجول الذي كان يمر – كالموت تماماً – على كل قرية نجدية أصبحت «السياكل» دليلا على الترف بدلا من الحمير، فاشترت له أخته دراجة من مهرها, فأصبح مترفاً كبقية الأولاد!. كان صاحبنا يشعر منذ الصغر بأنّه لا بد أن يتحمل المسؤولية التي ألقاها أبوه على عاتقه، ولذا قرر في المرحلة المتوسطة أن يشتغل بالتجارة، فباع قوارير «الموية»، وفي المرحلة الثانوية افتتح مكتبة تجارية ولم ينجح المشروع فاشتراها يمني وحولها إلى خياط، خسر مادياً ولكنه كسب العلم والمعرفة. ومن المكافأة الزهيدة التي كان يتلقاها في المرحلة المتوسطة سددت أمه ديونها وبقيت منها ثلاثمائة ريال تاجرت بها. شبّ الفتى وانتقل إلى العاصمة ليدرس في الكلية الجوية ويحقق حلمه، ثم أكمل دراسته في الخارج؛ في أمريكا التي ذهب إليه دون أن يصاب بالصدمة الحضارية التي أصيب بها الكثيرون، ربما لأن الكاتب مهيأ بفطرته للتطور والتغير، فهو قبل أن يبارح قريته يرفض التعصب والتشدد والتحزب أيا كان رغم اشتراكه في المرحلة المتوسطة – لدافع الفضول – في مظاهرة تؤيد عبد الناصر والناصرية آنذاك!. في مراحل الحياة الأولى قص علينا الكاتب موقف الناس وقتذاك من الراديو ومن تعليم البنات وغيرها من مظاهر التحديث في البلد، فيذكر أن أول شخص اقتنى راديو تعرض للمضايقات وكان إمام المسجد يذهب إليه ويطلب منه أن يخرج «الشيطان» الذي يختبئ في بيته، ويقرأ على الراديو لكي يحترق الشيطان بداخله، ولكن ومع مرور الوقت أصبح الناس يتحلَّقون حول هذا الشيطان لسماع الأخبار الصحيحة والموثوقة وليس تلك التي يأتي بها العائدون من الشام وفلسطين طلبا للرزق!
في كتابه الذي عنونه بـ(عشتُ سعيداً: من الدراجة إلى الطائرة) والصادر عن المركز الثقافي العربي هذا العام يواصل الأستاذ عبد الله السعدون سرد قصة النجاح التي يعترف بها دون تواضع مزيف وسعيه إلى السعادة التي يفخر بامتلاكها دون حزن مصطنع مبتذل. ولكن الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية بل هو سيرة لمجتمع، لحقبة من الزمن أصبحت بعيدة عنا وغريبة على مسامعنا. كما أنه بثّ فيه آراءه الاجتماعية والفكرية والإدارية والتي لا غنى عن قراءة الكتاب كاملاً من أجل الوقوف عليها، فله آراء قيمة جدا عن المرأة وعن أهمية أن تكون شريكاً للرجل في صنع المستقبل وآراء عن النجاح وعن التسامح وعن الوطنية وحب الوطن وعن الإرهاب وخطره وسبل القضاء عليه وعن الأدلجة التي اغتصبت عقول الشباب ومسختها مسخاً، بل إن له آراء واقتراحات جميلة عن البيئة كتلك التي تقدم بها إلى أمير منطقة الرياض. لقد تركتُ أجزاء كبيرة من الكتاب لضيق الوقت واكتفيت بالفترة التاريخية الأولى لأنها، كما قلتُ، أصبحت بعيدة عنا، وإلا فإنَّ فترات حياته اللاحقة جديرة بالتأمل لأنه كان عضواً فاعلاً في كل مكان يذهب إليه وكان ما يرويه علامة يمكن الاعتداد بها لرصد حركة التطور في بلادنا وكذلك لرصد الحركات المضادة للتطور والتي أثبت التاريخ عجزها عن مقاومة سنن الكون ونواميس الطبيعة.
((القصة منقولة من صحيفة عكاظ))
في بيئة يشيع فيها الحزن، وتحتفل بالمآسي، في مجتمع تكون الأغاني الحزينة فيه خبزاً يومياً، في ثقافة يقف فيها الجميع إجلالاً للحزن وانتظاراً للخواتيم التراجيدية واستسلاماً للموت والفناء.. في مثل هذا الجو الكئيب سيكون من الغريب وربما من الجنون أن يعترفَ أحدٌ بالسعادة! فكيف إذا كتب عنها بلغةٍ جميلةٍ وأسلوب أدبيٍّ رشيقٍ وغنَّى لها أجمل الأغاني وأسهم في حياتها وسيرورتها بتحديهِ للحزن والكآبة والنواح الذي يداعب خيال العرب الشعري وينسجُ إبداعهم الأدبي منذ قرون، وبإصراره على النجاح والتفوق وتحقيق الذات؟! كيف إذا دعا إلى اعتناق السعادة وجعل مقولة أحد الحكماء شعاراً لدعوته «عوِّدْ نفسك أن تكون سعيداً»؟!. إن الدعوة إلى السعادةِ ليست شيئاً جديداً بل هي قديمة قدم الحكمةِ ذاتها، فأغلب الحكماء جعلوا من السعادة مفتاحاً سحرياً لفهم الوجود ولكنّ الكثيرين من هؤلاء عاشوا تعساء. ومما سيزيد من غرابة هذا الرجل أن يصرِّح بأنه «من أسعد الناس على هذا الكوكب الواسع» رغم أنه بدأ حياةً شقية وولد مع الموت؛ سقط أبوه في البئر فنشأ بلا أب، ومات أخوه بالحصبة. ولد وهاجس «سنة الرحمة» - كما يسميها أهل نجدٍ تفاؤلاً - لا يزال يخيم على الجميع، في ذلك العام والأعوام الشبيهة به لم يعد الموت ضيفاً – كما يقول صاحبنا – بل صار هو صاحبَ البيت ونحن الضيوف!
وصاحبنا هذا – الذي سنتحدث عنه وعن كتابه في هذا المقال – هو كاتب سعودي عربيّ بدأ حياته منذ ستة عقود من الزمن في بلدةٍ نجدية تطوّقها الصحارى من جميع الجهات وتكاد الرمال أن تخنقها لولا وجود واحات ضئيلة متناثرة هنا وهناك تمنح لإنسان الصحراء بارقةَ أملٍ في عيشٍ كريم. صاحبنا هو الأستاذ - اللواء الطيار - عبد الله السعدون الذي بدأ حياته حافياً ثم على دراجةٍ (سيكل) وانتهى طياراً. بدأ فقيراً يتيماً ولكنه كان محباً للحياة عاشقاً لجمال الطبيعة الفقيرة إلا من صمت الصحراء الرهيب وأنين الأشجار العارية من شدة العطش. يذكر الكاتب أنه عاش مع أمه التي كانت أحلامها أقوى وأصلب من الواقع المرير الذي عاشت فيه، وقد تعلم منها معنى المقاومة والنضال ضد الفقر والبرد والحر. حينما افتتحت الحكومة مدرسة في بلدتهم كان يذهب حافياً في الوقت الذي كان يباهي فيه أبناء الأغنياء بركوب الحمير التي كانت دلالة على الترف والرخاء. وذات بردٍ قارسٍ ذهب حافياً وتجمدت قدماه وهو في الطريق إلى المدرسة فجلس وأسند ظهره على جدار ليحتمي به من البرد، وكاد أن يهلك لولا أن تعرّف عليه فلاحٌ فحمله على كتفيه وأخذ يفرك بيديه قدميْ الصغير - في صورة إنسانية عظيمة يخجل قلمي عن وصفها بهذه السرعة - وليتنا عند قراءتها نتوقف طويلاً ونستغرق في هذه الصورة النبيلة. مع التطور الحضاري الخجول الذي كان يمر – كالموت تماماً – على كل قرية نجدية أصبحت «السياكل» دليلا على الترف بدلا من الحمير، فاشترت له أخته دراجة من مهرها, فأصبح مترفاً كبقية الأولاد!. كان صاحبنا يشعر منذ الصغر بأنّه لا بد أن يتحمل المسؤولية التي ألقاها أبوه على عاتقه، ولذا قرر في المرحلة المتوسطة أن يشتغل بالتجارة، فباع قوارير «الموية»، وفي المرحلة الثانوية افتتح مكتبة تجارية ولم ينجح المشروع فاشتراها يمني وحولها إلى خياط، خسر مادياً ولكنه كسب العلم والمعرفة. ومن المكافأة الزهيدة التي كان يتلقاها في المرحلة المتوسطة سددت أمه ديونها وبقيت منها ثلاثمائة ريال تاجرت بها. شبّ الفتى وانتقل إلى العاصمة ليدرس في الكلية الجوية ويحقق حلمه، ثم أكمل دراسته في الخارج؛ في أمريكا التي ذهب إليه دون أن يصاب بالصدمة الحضارية التي أصيب بها الكثيرون، ربما لأن الكاتب مهيأ بفطرته للتطور والتغير، فهو قبل أن يبارح قريته يرفض التعصب والتشدد والتحزب أيا كان رغم اشتراكه في المرحلة المتوسطة – لدافع الفضول – في مظاهرة تؤيد عبد الناصر والناصرية آنذاك!. في مراحل الحياة الأولى قص علينا الكاتب موقف الناس وقتذاك من الراديو ومن تعليم البنات وغيرها من مظاهر التحديث في البلد، فيذكر أن أول شخص اقتنى راديو تعرض للمضايقات وكان إمام المسجد يذهب إليه ويطلب منه أن يخرج «الشيطان» الذي يختبئ في بيته، ويقرأ على الراديو لكي يحترق الشيطان بداخله، ولكن ومع مرور الوقت أصبح الناس يتحلَّقون حول هذا الشيطان لسماع الأخبار الصحيحة والموثوقة وليس تلك التي يأتي بها العائدون من الشام وفلسطين طلبا للرزق!
في كتابه الذي عنونه بـ(عشتُ سعيداً: من الدراجة إلى الطائرة) والصادر عن المركز الثقافي العربي هذا العام يواصل الأستاذ عبد الله السعدون سرد قصة النجاح التي يعترف بها دون تواضع مزيف وسعيه إلى السعادة التي يفخر بامتلاكها دون حزن مصطنع مبتذل. ولكن الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية بل هو سيرة لمجتمع، لحقبة من الزمن أصبحت بعيدة عنا وغريبة على مسامعنا. كما أنه بثّ فيه آراءه الاجتماعية والفكرية والإدارية والتي لا غنى عن قراءة الكتاب كاملاً من أجل الوقوف عليها، فله آراء قيمة جدا عن المرأة وعن أهمية أن تكون شريكاً للرجل في صنع المستقبل وآراء عن النجاح وعن التسامح وعن الوطنية وحب الوطن وعن الإرهاب وخطره وسبل القضاء عليه وعن الأدلجة التي اغتصبت عقول الشباب ومسختها مسخاً، بل إن له آراء واقتراحات جميلة عن البيئة كتلك التي تقدم بها إلى أمير منطقة الرياض. لقد تركتُ أجزاء كبيرة من الكتاب لضيق الوقت واكتفيت بالفترة التاريخية الأولى لأنها، كما قلتُ، أصبحت بعيدة عنا، وإلا فإنَّ فترات حياته اللاحقة جديرة بالتأمل لأنه كان عضواً فاعلاً في كل مكان يذهب إليه وكان ما يرويه علامة يمكن الاعتداد بها لرصد حركة التطور في بلادنا وكذلك لرصد الحركات المضادة للتطور والتي أثبت التاريخ عجزها عن مقاومة سنن الكون ونواميس الطبيعة.
((القصة منقولة من صحيفة عكاظ))