أميـرالقوافــل
27-11-2008, 12:52 PM
نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة
محمد جغوط
محتويات
مقدمةI- نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة
• مدخل تمهيدي لعلم الاجتماع الصحة
• التطور التاريخي لعلم الاجتماع الصحة
• البدايات الأولى لعلم الاجتماع الصحة
II- مجالات الدراسة في علم الاجتماع الصحة
• المساهمة في وضع السياسات الصحية
• دراسة المستشفى كمنظمة طبية
• دراسة العوامل الاجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى المرض
• دراسة ظروف وطرق لجوء الفرد إلى الطبيب العلاقة بين المريض و الطبيب
• ايكولوجية المرض
• الطب التقليدي أو الطب الشعبي
• توزيع الأوبئة في المجتمع
• الاستجابات الشخصية للمرض
• الممارسة الطبية والتعليم الطبي
• الوفيات
• الضغوط والتغيرات الاجتماعية وظهور الأمراض
III- أهمية علم الاجتماع الصحة
مقدمة:
تعد الصحة احد الجوانب الأساسية في حياة الأفراد والمجتمعات، ولذلك حاولت الإنسانية منذ القدم البحث في أسباب الأمراض وكيفية علاجها. ولا تزال إلى اليوم تسعى إلى ذلك معتمدة على التطور التكنولوجي والعلمي سعيا إلى تحقيق اكبر قدر من الصحة.
إن الصحة كنقيضها المرض مفهومان مرتبطان بالثقافة الاجتماعية، ولا يمكن عزلهما عن النسق الاجتماعي والثقافي الذي توجدان فيه. فهما منتوج لأسلوب الحياة الذي يعيشه الناس في بيئتهم، وفقا لما توارثته الأجيال من مخزون ثقافي عن بعضهم البعض. مما أدى إلى تشكيل نماذج تعبيرية مختلفة خاصة بالألم والمرض، وإلى تقديم تفسيرات متعددة للأسباب وطرق التفادي للأمراض. وبذلك لم يعد المرض يحدد بيولوجيا فقط، بل أضيف لفهمه الجانب الاجتماعي والنفسي.
لقد كشفت الدراسات الاجتماعية بأن الصحة لا تنحصر في جانبها البيولوجي فقط بل تتعداه إلى الجانب الإجتماعي والنفسي والثقافي، من خلال العلاقة القائمة بين أسلوب العيش والأمراض المتواجدة. كذلك من خلال التصور الاجتماعي للمرض وطرق معالجته.
من هذا المنطلق لم تعد مسألة الصحة مسألة فردية تخص المريض وحده بل تتعداه، وتتحول إلى قضية اجتماعية، وذلك راجع إلى العلاقة الكبيرة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للحياة وانعكاساتها على قضايا الصحة والمرض.
ومن هذا المنطلق يتضح سبب اهتمام العلوم الاجتماعية بهذا الموضوع، فقد استحدثت تخصصات فرعية تبحث في موضوع الصحة والمرض (علم اجتماع الصحة، علم النفس المرضي، علم اقتصاد الصحة، القانون الصحي...). وهي تخصصات طرح مؤسسوها إشكالات كبرى حول موضوع الصحة والمرض؛ حيث كشفوا عن تأثير الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية على الصحة
إن التقارب بين الحقلين المعرفيين علوم اجتماعية وعلوم طبية، لم يكتف على اعتبار أن الصحة هي توازن بين جسم بيولوجي ومحيط يعيش فيه، مما جعل التشخيص يأخذ بعين الاعتبار الجنس، العمر، المستوى الثقافي والاجتماعي للمريض، بل ساعد أيضا الأطباء على القيام بتشخيص يتميز بالدقة والمصداقية، من خلال الإحصاءات الخاصة بالواقع الصحي للمجتمع (عدد الوفيات والولادات..) والتي ساهمت في وضع التوقعات والتنبؤات بالمرض خاصة في الوقت الحاضر والذي يتميز بتنوع وتعدد البيانات ومصادرها.
وسنحاول في هذا العرض تقديم نظرة عامة وأولية لعلم الاجتماع الصحي كأحد التخصصات المستحدثة في علم الاجتماع وذلك من توضيح كيفية ومراحل نشأته، ثم بيان أهم مجالات الدراسة في هذا التخصص وفي الأخير بيان قيمته سواء من الناحية العلمية أو الاجتماعية.
I- نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة:
• مدخل تمهيدي لعلم الاجتماع الصحة:
يعتبر الطب مهنة قديمة قدم الإنسانية، ولقد تطور بتطور العلوم الطبيعية والبيولوجية، وترتب عن هذا التطور تغير النظرة الطبية للصحة والمرض، فأصبحت نظرة ضيقة محدودة، ففي كثير من الحالات ينظر الطبيب إلى المريض كأنه آلة في حاجة إلى إصلاح، وأصبحت عملية العلاج ميكا***ية لا تتعدى اكتشاف العضو المصاب ومحاولة إصلاحه.
لكن وبتطور التقنيات ووسائل العلاج الطبية، كذلك تطور العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع، واتساع مجالات دراساته، كذلك التراكمات والمعلومات الطبية، أكدت كلها على أن المرض يرجع بشكل أساسي إلى البيئة الاجتماعية التي يعيشها المريض، وأن هذه البيئة عنصر أساسي في عملية العلاج. إضافة إلى هذا فإن شبكة العلاقات الاجتماعية للفرد تؤثر وبشكل كبير على الحالة الصحية والمرضية وعلى السلوك الصحي والمرضي له .
يدرس علم الاجتماع المجتمع ليس من الزاوية الفردية، بل يدرسه من الزاوية الجمعية، من خلال دراسة الوحدات المكونة له، كالجماعات المكانية، الجماعات الوظيفية، والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية التي تسود بين الأفراد، سواء داخل الجماعة الواحدة، أو بين الجماعات المختلفة. كما يدرس النظم الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية.
وعلم الاجتماع الصحة هو أحد التخصصات العلمية في علم الاجتماع، يهتم بدراسة القضايا والمشكلات الصحية والطبية في المجتمع. كالعلاقات الاجتماعية، التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية، التي ترتبط وتؤثر في الجانب الطبي والصحي للمجتمع. ويرتبط هذا التخصص ارتباطا وثيقا بعلم الطب، كارتباط علم الاجتماع بالعلوم الأخرى.
من هنا أصبح من الضروري صياغة فهم جديد للظواهر الصحية والمرضية. فهما يقوم على الجانب الاجتماعي الطبي، فهو الذي يساعد على تطوير أسلوب العلاج، والرعاية الصحية بشكل عام.
إن علم الاجتماع بشكل عام، وعلم الاجتماع الصحة بشكل خاص، ليس علما دقيقا كالعلوم التجريبية فنتائجه لا يمكن تعميمها، فما يصدق على مجتمع معين قد لا يصدق على مجتمع آخر. هذا من جهة من جهة ثانية فالتغير والتطور الاجتماعي وبالتالي تغير الأفكار والقيم والسلوكيات والنظم وأساليب العمل...الخ أمر حتمي.
وبالرغم من أن علم الاجتماع ليس علما إصلاحيا -بل يهدف إلى دراسة وفهم الظواهر الاجتماعية بطريقة علمية-، إلا أن نتائجه تساعد المصلحين والسياسيين والاقتصاديين في وضع برامجهم ومخططاتهم الاجتماعية. ومن هنا فإن علم الاجتماع الطبي هو في خدمة الطب والرعاية الصحية في المجتمع. كما أن دراسة المشكلات الصحية في المجتمع بطريقة علمية منهجية تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في حل تلك المشكلات.
• التطور التاريخي لعلم الاجتماع الصحة:
يعتبر القول بأن العلاقة بين ظاهرتي الصحة والمرض وبين العوامل الاجتماعية والبيئية قديمة قدم الفكر البشري، ومن هنا فإنه إذا نظرنا إلى علم الاجتماع على أنه الدراسة العلمية للعلاقة بين ظاهرتي الصحة والمرض وجدنا أن له جذورا تاريخية عميقة. فقبل أن يظهر علم الاجتماع الصحة كعلم مستقل، ظهرت دراسات عن كيفية انتشار المرض وربط العلماء بينها وبين توزيع السكان في المجتمع. ففي التراث المصري واليوناني توجد كتابات عن ارتباط أمراض معينة بمهن أو بظروف معيشية خاصة. فقد كانت مشكلات الصحة والمرض موضع اهتمام المشتغلين بأمور الدولة سواء السياسيين أو الإداريين أو رجال الاقتصاد أو الأطباء أو المصلحين الاجتماعيين.
"وعلى الرغم من أن كتابات العصور القديمة والعصور الوسطى قد أرجعوا المشكلات الصحية لجماعات معينة، إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في حياة تلك الجماعات إلا أنها لم تكن دراسات منهجية منتظمة، ولعل دراسة ابن خلدون أقرب الدراسات إلى المنهج العلمي" .
أخذ العلماء الغربيون هذه الأفكار وبدؤوا بدراستها بطريقة علمية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويرجع هذا الاهتمام إلى الظروف فالسيئة التي أحدثها الثورة الصناعية على طبقة العمال خاصة (سوء الحالة الصحية وانتشار الأمراض..).
لقد كانت فرنسا أكثر الدول تقدما في النظريات السياسية والاجتماعية، فاتجه العلماء إلى القيام بدراسات علمية للمشكلات الجديدة وذلك باستخدام المسوح الصحية الإقليمية أو الطبوغرافيا الطبية • وتوالت الدراسات الإمبريقية والإحصائية المتعلقة بالصحة، فدرسوا أشر كل من الفقر، المهنة، التغذية والسكان، عمالة الأطفال والنساء،..الخ من المشكلات المتعلقة بالصحة والمرض. وأدى ذلك إلى ظهور الطب الاجتماعي سنة 1848.
انتشرت في فرنسا فكرة الربط بين العلم والسياسة، وبين الطب والاجتماع وضرورة استخدام العلم في خدمة المجتمع، وانتقلت فكرة الطب الاجتماعي إلى ألمانيا وغيرها من الدول خاصة وسط وشرق أوروبا. ثم ظهر تعبير "الاجتماع الطبي" قبل الحرب العالمية الثانية. في كل من فرنسا وألمانيا، وتطور بسرعة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بسبب الاهتمام المتزايد بالصحة العامة والعمل الاجتماعي المنظم. وقد عرف تشارلز ماك أنتير Charles Mac Antir الاجتماع الطبي في سنة 1894 كمايلي "الاجتماع الطبي هو العلم الذي يدرس الأطباء أنفسهم كظاهرة اجتماعية أو كهيئة اجتماعية. وهو العلم الذي يدرس القوانين التي تنظم العلاقات بين مهنة الطب والمجتمع ككل، والتركيب الاجتماعي لكل منهما وما حدث وما يحدث من تطور في التركيب أو في العلاقات" فكان أول تعريف لعلم الاجتماع الطبي.
وفي 1902 استخدمت إليزابيث بلاكويل Elizabeth Blakwell هذا المصطلح كعنوان لمجموعة من المقالات تربط بين العوامل الاجتماعية والعوامل الصحية والطبية. بعدها نشر جيمس وارباسJIMES WARBASSE كتابا في "الاجتماع الطبي" سنة 1910 أوضح فيه أهمية الإصلاحات الاجتماعية الصحية وكذا التعليم الصحي.
ثم ظهرت العديد من الدراسات في مجال الطب الاجتماعي والاجتماع الطبي في فترة الثلاثينات والأربعينات، وازدهر الطب الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ساعده على الازدهار والتداخل مع الاجتماع الطبي ظهور مشكلات طبية وصحية جديدة منها انتشار الأمراض المزمنة، ازدياد نسبة كبار السن، المرضى عقليا، والمضطربين نفسيا، والمعوقين، إضافة إلى تطور المستشفيات وتضاعف حجمها وميزانيتها، وزيادة التخصصات الطبية بها، وبالتالي تعقد العلاقات الاجتماعية بداخلها. وفي نفس الفترة فقد شهدت العلوم الاجتماعية تقدما ملحوظا واتسعت مجالات دراستها وتطور علم الاجتماع المهني وعلم الاجتماع التنظيم، وازداد الاهتمام بنظم الرعاية الصحية والطبية، ولجأ الدارسون إلى استخدام مناهج البحث الاجتماعي في الدراسات الاجتماعية الطبية، وازداد عدد الباحثين والدارسين وتنوعت اتجاهات البحث ومجالاته. فلم تبقى المواضيع محصورة في مشاكل التصنيع والتحضر فقط بل زادت عليها واتجهت إلى دراسة مشكل التلوث البيئي والبيروقراطية في المؤسسات الصحية والتطور التكنولوجي في الطب، وما نتج عنه من مشكلات. ومن خلال هذا التطور في الدراسات الاجتماعية الطبية من حيث المجال والمنهج، والكم والكيف، اعتبر معظم علماء الاجتماع في أمريكا وبريطانيا أن علم الاجتماع الطبي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، كفرع حديث لعلم الاجتماع.
• البدايات الأولى لعلم الاجتماع الصحة:
ظهر علم الاجتماع الصحة كفرع متخصص من علم الاجتماع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، غير أن البدايات الأولى ترجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما اتجه فريق من الباحثين الاجتماعيين إلى دراسة العوامل الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض، بعد أن كانت دراسة المسائل الصحية وقفا على المتخصصين في العلوم الطبية دون غيرهم من المتخصصين في بقية الفروع المعرفية ويرجع اهتمام الباحثين الأوائل بدراسة العوامل الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض إلى التأثيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية في الأحوال الصحية والمعيشية للأفراد إضافة إلى ظاهرة التحضر وتزايد موجات الهجرة إلى المدن الصناعية
فمنذ أن حدثت الثورة الصناعية الأولى اتجه الصحاب المصانع إلى الاهتمام بالآلات اللازمة أكثر من اهتمامهم بأحوال العمال... مما ترتب عليه سوء الأحوال الصحية والاجتماعية لهم. وقد لفتت هذه الظاهرة بعض المفكرين الاجتماعيين فبدءوا يلفتون الأنظار إلى الجوانب الاجتماعية للمشكلات القائمة وعمدوا إلى إجراء مسوح اجتماعية للحصول على بيانات علمية يمكن الاستفادة منها في تحسين أحوال الطبقة العاملة حيث كشفت عن أنماط وأساليب الحياة التي يعيشها العمال، كما أظهرت العلاقة المتبادلة بين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعمال وبين الأحوال المعيشية والوضع الصحي لهم.
أما بالنسبة لظاهرة التحضر فقد شهدت أوروبا حركة سريعة في أعقاب الثورة الصناعية. ولم تكن المدينة تقوم على التخطيط يقول لويس ممفورد Louis Mimford" فأحسن الأراضي كانت تبنى عليها المصانع التي كانت تقذف القاذورات في الأنهار والمناطق المحيطة... والمساكن غير صحية ومزدحمة والأفراد يسكنون في حجرات مشتركة، والمستويات الصحية سيئة للغاية ... وقد أدى ذلك إلى انتشار الأمراض، وارتفاع نسب الوفيات".
إضافة إلى هذا فقد كان للتقدم الذي شهدته العلوم الطبيعية والبيولوجية والذي انع** على العلوم الطبية دورا كبيرا في الاهتمام بالجانب الاجتماعي والنفسي للمرض وهو ما أدى إلى علم النفس الطبي، علم الاجتماع الصحي الأنثروبولوجيا الصحية، اقتصاديات الصحة، والخدمة الاجتماعية الطبية.
في الأخير فقد كان للعوامل الإيديولوجية أثرا كبيرا في الاهتمام بالجوانب الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض. ويرجع هذا إلى المساوئ التي لحقت بالنظام الرأسمالي، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات فكرية دعت إلى ضرورة استبدال الأوضاع السيئة للعمال والعمل على تحقيق الرعاية الصحية والاجتماعية الكاملة لهم. كما عملت هذه التيارات على القيام ببحوث اجتماعية علمية لدراسة المشكلات الصحية والاجتماعية التي تعاني منها طبقة العمال. يقول ديريك جيلDerrick JIL : "لقد اهتم علماء الاجتماع في كل من المملكة المتحدة وأوروبا بطرق الإصلاح الاجتماعي.. ولقد كان "سيدني" و "بياتريس ويب" مقتنعين بأن الإصلاح الاجتماعي يعتمد على كثير من المعلومات والحقائق، وعلى نشر الحقائق الاجتماعية التي يمكن أن تفصح عن نفسها بنفسها بحيث تكفي لدفع عجلة الإصلاح الاجتماعي وعجلة العمل الإداري اللازم لتحقيقه" ويضيف "لقد تحققت نتائج طيبة في مجال علم الاجتماع في بريطانيا وفي أوروبا ما بين عامي 1920 و 1930 وذلك بفضل "تاوني" و "كول" و ريتشارد تيتموس" و "ويليام بيفردج" وغيرهم...".
كانت الدراسات الأولى للمشكلات الصحية في علم الاجتماع الصحي تتم عن طريق فرق مشتركة مع علماء الطب، حيث كانوا يحرصون على توجيه مسار البحوث، من خلال اختيار المشكلات وتحديد الأهداف وتقديم الإحصائيات...رغم افتقارها للأحوال الاجتماعية والاقتصادية للفئات المدروسة.
يقول ديموند السلي "على الرغم من أن موضوعات البحوث كانت تحدد بواسطة علماء الطب الذين يعملون بطبيعة الحال في إطار النماذج الطبية، وفي إطار مسئولياتهم العلاجية، وفي إطار الاهتمام بمستقبلهم المهني، فإن مثل تلك البحوث قد ساعدت على توسيع نطاق الاتصال بين ميداني علم الاجتماع والطب. كما أنها زادت من أهمية الدور المشترك بين كل من الميدانين".
وفي فترة الستينات والسبعينات بلغ علم الاجتماع درجة من التقدم وأصبحت له مجالاته ومطلقاته النظرية وأهدافه المحددة. فمن حيث المجالات فقد اتجهت البحوث إلى دراسة العلاقات المتبادلة بين المتغيرات الاجتماعية والثقافية وبين ظاهرتي الصحة والمرض، وإلى دراسة المؤسسات الطبية كمنظمة اجتماعية وكذا العلاقة بينها وبين المجتمع المحلي والمجتمع العام.
يعتمد الباحثون في هذا التخصص على نظريات علم الاجتماع العام علم الاجتماع المهني علم الاجتماع التنظيم وعلم الأمراض الاجتماعية.
أما عن الأهداف فقد اتجه العلماء الأوروبيون وجهة عملية، من خلال البحث عن حلول عاجلة للمشكلات الطبية، والمساعدة على رسم السياسات الصحية للمجتمع والعمل على تحسين الأحوال الصحية لأفراد المجتمع. وبعد هذه الفترة تحول الاهتمام إلى الجوانب التنظيرية، من خلال البحث عن تعميمات علمية للظواهر والمشكلات المدروسة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد عمل العلماء وضع إضافات نظري، وانصرفوا إلى الجوانب العلمية البحتة، وبمرور الوقت اتجهوا وجهة عملية تطبيقية محاولين الاستعانة بالحقائق العلمية في تطوير نظم الرعاية الصحية.
من خلال ما سبق يتضح مدى الاهتمام بعلم الاجتماع الطبي في كل من أوروبا وأمريكا، إلا أن هذا التخصص لم يلق نفس المكانة من طرف الدارسين والباحثين في أغلب دول العالم الثالث خاصة قبل فترة التسعينيات. يقول عبد الباسط محمد حسن "إذا أردنا أن نحدد وضع علم الاجتماع الطبي في مصر من خلال المناهج الدراسية، والمؤتمرات، والبحوث، والمؤلفات العلمية، فإننا نستطيع القول بأن علم الاجتماع الطبي لم يأخذ وضعه الأكاديمي حتى الآن" ويضيف نبل صبحي حنا "وإذا كانت دراسات عديدة قد أجريت في العالم الغربي، وتناولت الظواهر المتعلقة بصحة الإنسان من منظور سوسيولوجي أو انثروبولوجي، فإن المتخصصين في مجتمعنا لم يهتموا للآن اهتماما أساسيا بإجراء البحوث والدراسات في هذا المجال مستخدمين النظريات ومناهج البحث المتداولة في هذين المجالين".
II- مجالات الدراسة في علم الاجتماع الصحة:
بالرغم من أن علم الاجتماع الصحي أحد التخصصات الحديثة في علم الاجتماع، وفي علم الطب إلا أنه أصبح يتسع وينمو بسرعة ليحتل لنفسه مكانا واعتبارا في علم الاجتماع.
لقد اهتم الأطباء القدامى بتأثير الثقافة والسلوك الاجتماعي على الصحة والمرض، فصحة الإنسان تتأثر بطريقة الحياة والمناخ. أي أن البيئة الاجتماعية والطبيعية، كما ربط الأطباء الأوائل بين بيئة العمل وظهور المرض. وبشكل عام فإن العلاقة بين الوضع الاجتماعي والعوامل التي تؤثر على الصحة وظهور المرض كانت موضوع اهتمام الإنسان بصورة عامة . إن إدراك أهمية العلاقة المعقدة بين العوامل الاجتماعية ومستوى الخصائص الصحية لجماعات معينة قد أدى إلى تطور علم الاجتماع الصحي.
وعلم الاجتماع كفرع أكاديمي يولي اهتمامه بوظيفة وبناء وأدوار المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، والسلوك الاجتماعي للجماعات. لذلك فإن علم الاجتماع الصحي يهتم بالمظاهر الاجتماعية للصحة والمرض، علاقة نظم الرعاية الصحية بالنظم الاجتماعية الأخرى، الوظائف الاجتماعية للمؤسسات والمنظمات الصحية، والسلوك الاجتماعي للأطباء وكل العاملين في القطاع الصحي وبقية الناس الذين يحتاجون لخدمات المؤسسات الصحية.
كان اهتمام الطب منصبا على العناية التامة ومعالجة بالمرض البدني وإهمال الجوانب الاجتماعية والنفسية للمريض، ثم تطور وتغير إلى الاهتمام بهذه الجوانب، وقد ساعدت المشكلات الصحية التي يعاني منها المترددون على المؤسسات الصحية في توعية المشتغلين في المجال الصحي بأهمية تلك الجوانب (البيئة الطبيعية والاجتماعية للمريض، العلاقة بين الطبيب والمريض ..) في التشخيص والعلاج. كما كان للتقدم في ميدان العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع والبحوث المقدمة في مجال الصحة والمرض دورا في تغير النظرة الطبية للصحة والمرض، وبالتالي فتح المجال واسعا أمام الباحثين الاجتماعيين في مجال الصحة من أجل إجراء البحوث والدراسات قصد المساهمة في تطوير الخدمات الصحية في المجتمع.
قسم روبرت ستراوس علم الاجتماع الصحة إلى فرعين هما علم الاجتماع في مجال الطب، وعلم الاجتماع الطبي.
علم الاجتماع في مجال الطب:
يكمن دور الباحث في هذا التخصص في دراسة العوامل الاجتماعية ذات العلاقة بمرض معين، أي أن له علاقة مباشرة مع العاملين في المجال الطبي (أطباء، ممرضين..). والعناية بالمريض أو لحل مشكلة صحية معينة.
في هذا التخصص يقوم الباحث بتحليل الأسباب الاجتماعية للمرض، الاختلاف في الاتجاهات الاجتماعية نحو الصحة، الطرق التي يمكن أن تفسر علاقة أمراض معينة بمتغيرات اجتماعية كالسن والجنس المكانة… والهدف من هذه التحليلات هو مساعدة الممارسين الصحيين (أطباء، مفتشي الصحة..) في معالجة المشاكل الصحية. وبالتالي يمكن وصف هذا التخصص بأنه البحث والتحليل التطبيقي الناتج أساسا عن مشكلة صحية. أما عن أماكن المتخصصون في هذا المجال فيكون غالبا في كليات الطب، أو التمريض، مدارس الصحة العامة، وكالات الصحة وغيرها من المنظمات الصحية.
علم الاجتماع الطبي: يدرس تنظيم المؤسسات الصحية، العلاقات والأدوار داخل هذه المؤسسات، معايير ومعتقدات العمل الطبي، …الخ. أي أنه إذا يركز على العمليات الاجتماعي في المحيط الصحي كالمستشفى مثلا. فهو إذا البحث والتحليل للبيئة الطبية من منظور اجتماعي. أما عن النظريات التي تستخدم في هذا التخصص فهي نفس النظريات المستخدمة في باقي التخصصات في علم الاجتماع.
إن التقسيم الذي وضعه ستراوس ليست له أية أهمية في الوقت الحاضر فالاهتمام الآن ليس البحث في ما هو من اختصاص هذا الفرع أو ذاك، بل البحث عن تطوير المعرفة حول العلاقة بين الجانب الاجتماعي وبين الصحة والمرض.
إن الهدف من إنشاء هذا التخصص هو إدراك أهمية الممارسة الطبية في المجتمع، حيث تمثل جزءا مهما ونسقا اجتماعيا متكاملا (مؤسسات اجتماعية خاصة، عمليات اجتماعية، مهن، مشكلات، أنماط سلوك خاصة...الخ) يتطلب الدراسة. ومن هنا فقد ارتكزت الدراسات في علم الاجتماع الصحة على:
• المساهمة في وضع السياسات الصحية : من خلال إجراء البحوث وتقديم الاقتراحات التي يمكن تطبيقها في مجال الخدمات الطبية ووضع السياسة الصحية.
• يركز في هذا المجال على مشكلات أساسية تواجه المجتمع وهي علاج المرض ومنع انتشاره، والمحافظة على الصحة. إضافة إلى الدراسة التقويمية للنظام والسياسة الصحية.
• دراسة المستشفى كمنظمة طبية: أو كما يسميها علماء الاجتماع بالمؤسسة الكاملة، من خلال دراسة العلاقات الاجتماعية داخل المستشفى سواء بين المرضى والأطباء، أو بين الأطباء وهيئة التمريض أو بقية العاملين في المستشفى، بين الإداريين والفنيين وغيرهم، بين أسرة المريض مع كل العاملين بالمستشفى. كذلك دراسة المشكلات الاجتماعية والمهنية التي تواجه كل المتعاملين مع المؤسسات الصحية...الخ. بالإضافة إلى هذا دراسة القيم والاتجاهات للعاملين في المجال الطبي.
• لقد اهتم العلماء بهذه القضايا فدرسوا عمليات الدخول إلى المستشفى، التنظيم الرسمي، تأثير البناء التنظيمي على المريض، حياة المريض في المستشفى، النظام غير الرسمي القائم بين المرضى في المستشفيات...الخ. ويهدف البحث في هذا المجال إلى تحسين الوضع الصحي للمجتمع، التعرف على النتائج والخصائص الاجتماعية للمرض، وكذا تأثير العوامل الاجتماعية على طبيعة وتوزيع الأمراض النفسية والعضوية في المجتمع.
• دراسة العوامل الاجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى المرض: كالعادات والمعتقدات، والأمراض المهنية، والأمراض الاجتماعية كالإدمان الشذوذ...الخ. وتأثير هذه العناصر على الجانب الصحي وكذا على نظرة الناس للمؤسسة الصحية.
• دراسة ظروف وطرق لجوء الفرد إلى الطبيب: ففي كثير من الدول المتقدمة تبين من خلال الدراسات وجود نسب كبيرة من الأمراض لا تزال رغم التطور الطبي، لذلك يحاول الباحثون البحث عن أسباب تخلف، أو عدم طلب المرضى المساعدة الطبية. فقد يعود ذلك إلى المركز الاجتماعي، الأصل العرقي، السن أو المستوى التعليمي...الخ. ففي إحدى الدراسات تبين وجود علاقة بين المستوى الاجتماعي ومستوى التعليم والأصل العرقي، وبين طلب وعدم طلب المساعدة الطبية.
• العلاقة بين المريض و الطبيب: سواء من الناحية السلبية أو الناحية الإيجابية مع التركيز على آثارها.
• ايكولوجية المرض: أي الارتباط بين المرض والبيئة الطبيعية والاجتماعية.
• الطب التقليدي أو الطب الشعبي: ومقارنته مع الطب الحديث، ومدى التداخل بينهما، والفئات الاجتماعية التي تعتمد عليه، ومتى تتجه إليه، وهل له علاقة بالحالة الاقتصادية والتعليمية...
• توزيع الأوبئة في المجتمع: أثبتت الدراسات أن المرض لا ينتشر عشوائيا بين السكان، يتوزع حسب الكثافة السكانية، العمر، الجنس، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الأصل العرقي، المهنة...الخ.
• يتطلب دراسة هذا الجانب تدخل مجموعة من التخصصات منها الطب ، علم النفس، الاقتصاد...الخ، كما أنه يحتاج دراسة تتبعيه طويلة.
• الاستجابات الشخصية للمرض: أي توضيح المعنى الاجتماعي والثقافي للمرض، ومدى استجابة الأفراد للمرض.فهناك اختلافات ثقافية كبيرة بين استجابات الناس للأعراض البيولوجية للمرض وكذا إلى الألم في حد ذاته. فهناك من يكون هستيريا لأدنى ألم، وهناك ويسرع إلى الطبيب، وآخرون يتحملون ويرفضون الذهاب إلى الطبيب. قد يرجع هذا الاختلاف إلى العقيدة، أو إلى درجة الثقة في الطب ، أو إلى متغيرات أخرى يمكن التوصل إليها من خلال الدراسات الاجتماعية.
• الممارسة الطبية والتعليم الطبي: يهتم هذا المجال بدراسة قواعد ونظم ممارسة مهنة الطب بالإضافة إلى دراسة نظم تعليم الأطباء وأساليب اختيارهم للمهنة والقيم الاجتماعية السائدة بينهم، وطرق إعداد الطبيب مهنيا ونفسيا واجتماعيا، إضافة إلى دراسة نتائج التعليم الطبي.
• الوفيات: من خلال دراسة التأثيرات الاجتماعية على معدلات الوفيات، ومدى التوافق بين المنظمات الطبية وتغير أنواع المرض، وأسباب الوفيات.
• الضغوط والتغيرات الاجتماعية وظهور الأمراض. وهي مواضيع اهتم بها العلماء وأثبتت الدراسات أن ضغوطات العصر أدت إلى زيادة أمراض منها السكري، ضغط الدم، الصداع النصفي....الخ. كما أن تغير نظام التغذية بإضافة السكر في الطعام والشراب مثلا ساهم في ظهور أمراض في بعض المجتمعات لم تكن معروفة من قبل.
III- أهمية علم الاجتماع الصحة:
• بعدما تطرقنا إلى، نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة، وبعدما بينا مختلف المجالات التي يدرسها هذا الفرع العلمي، يتبن انه احد العلوم التي لها أهميتها في مجال الرعاية الصحية والخدمات الطبية في مستوياتها الوقائية والعلاجية، ونحدد في هذه النقاط أهمية هذا التخصص
• إن معرفة قيم ومعايير ومختلف جوانب السلوك والدوافع لدى الأفراد يساعد الطب وكذا المسئولين في تحسين الخدمات الصحية ووضح السياسات الصحية المناسبة.
• المساعدة في القضاء على العوامل الاجتماعية المؤثرة في انتشار المرض، وذلك من خلال المنهج العلمي في الدراسة، ومن خلال العمل على تغيير العادات والتقاليد السلبية المضرة بالصحة (ثقافة التغذية، العناية الصحية بالطفل، تنظيم النسل، العناية بالبيئة الاجتماعية والطبيعية..).
• المساهمة في دراسة مشكلات المسنين.
• المساهمة في تحسين العلاقة بين الأطباء والمرضى,
• الاهتمام بمشكل المعاقين سواء من ناحية التأهيل أو إعادة الإدماج، أو المساهمة في وضع التشريعات...الخ.
خاتمة
خلاصة القول أن الملامح الرئيسية لنشأة علم الاجتماع الصحة تعكـس الأهمية المشتركة لكل من الطب وعلم الاجتماع في دراسة وعلاج ظاهرتي الصحة والمرض، وفي إعطاء المرض أبعاد اجتماعية وبيولوجية عضوية من أجل فهم أوسع وأكثر شمولية وتكاملا، بهدف تطوير الخدمات الصحية
محمد جغوط
محتويات
مقدمةI- نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة
• مدخل تمهيدي لعلم الاجتماع الصحة
• التطور التاريخي لعلم الاجتماع الصحة
• البدايات الأولى لعلم الاجتماع الصحة
II- مجالات الدراسة في علم الاجتماع الصحة
• المساهمة في وضع السياسات الصحية
• دراسة المستشفى كمنظمة طبية
• دراسة العوامل الاجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى المرض
• دراسة ظروف وطرق لجوء الفرد إلى الطبيب العلاقة بين المريض و الطبيب
• ايكولوجية المرض
• الطب التقليدي أو الطب الشعبي
• توزيع الأوبئة في المجتمع
• الاستجابات الشخصية للمرض
• الممارسة الطبية والتعليم الطبي
• الوفيات
• الضغوط والتغيرات الاجتماعية وظهور الأمراض
III- أهمية علم الاجتماع الصحة
مقدمة:
تعد الصحة احد الجوانب الأساسية في حياة الأفراد والمجتمعات، ولذلك حاولت الإنسانية منذ القدم البحث في أسباب الأمراض وكيفية علاجها. ولا تزال إلى اليوم تسعى إلى ذلك معتمدة على التطور التكنولوجي والعلمي سعيا إلى تحقيق اكبر قدر من الصحة.
إن الصحة كنقيضها المرض مفهومان مرتبطان بالثقافة الاجتماعية، ولا يمكن عزلهما عن النسق الاجتماعي والثقافي الذي توجدان فيه. فهما منتوج لأسلوب الحياة الذي يعيشه الناس في بيئتهم، وفقا لما توارثته الأجيال من مخزون ثقافي عن بعضهم البعض. مما أدى إلى تشكيل نماذج تعبيرية مختلفة خاصة بالألم والمرض، وإلى تقديم تفسيرات متعددة للأسباب وطرق التفادي للأمراض. وبذلك لم يعد المرض يحدد بيولوجيا فقط، بل أضيف لفهمه الجانب الاجتماعي والنفسي.
لقد كشفت الدراسات الاجتماعية بأن الصحة لا تنحصر في جانبها البيولوجي فقط بل تتعداه إلى الجانب الإجتماعي والنفسي والثقافي، من خلال العلاقة القائمة بين أسلوب العيش والأمراض المتواجدة. كذلك من خلال التصور الاجتماعي للمرض وطرق معالجته.
من هذا المنطلق لم تعد مسألة الصحة مسألة فردية تخص المريض وحده بل تتعداه، وتتحول إلى قضية اجتماعية، وذلك راجع إلى العلاقة الكبيرة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للحياة وانعكاساتها على قضايا الصحة والمرض.
ومن هذا المنطلق يتضح سبب اهتمام العلوم الاجتماعية بهذا الموضوع، فقد استحدثت تخصصات فرعية تبحث في موضوع الصحة والمرض (علم اجتماع الصحة، علم النفس المرضي، علم اقتصاد الصحة، القانون الصحي...). وهي تخصصات طرح مؤسسوها إشكالات كبرى حول موضوع الصحة والمرض؛ حيث كشفوا عن تأثير الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية على الصحة
إن التقارب بين الحقلين المعرفيين علوم اجتماعية وعلوم طبية، لم يكتف على اعتبار أن الصحة هي توازن بين جسم بيولوجي ومحيط يعيش فيه، مما جعل التشخيص يأخذ بعين الاعتبار الجنس، العمر، المستوى الثقافي والاجتماعي للمريض، بل ساعد أيضا الأطباء على القيام بتشخيص يتميز بالدقة والمصداقية، من خلال الإحصاءات الخاصة بالواقع الصحي للمجتمع (عدد الوفيات والولادات..) والتي ساهمت في وضع التوقعات والتنبؤات بالمرض خاصة في الوقت الحاضر والذي يتميز بتنوع وتعدد البيانات ومصادرها.
وسنحاول في هذا العرض تقديم نظرة عامة وأولية لعلم الاجتماع الصحي كأحد التخصصات المستحدثة في علم الاجتماع وذلك من توضيح كيفية ومراحل نشأته، ثم بيان أهم مجالات الدراسة في هذا التخصص وفي الأخير بيان قيمته سواء من الناحية العلمية أو الاجتماعية.
I- نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة:
• مدخل تمهيدي لعلم الاجتماع الصحة:
يعتبر الطب مهنة قديمة قدم الإنسانية، ولقد تطور بتطور العلوم الطبيعية والبيولوجية، وترتب عن هذا التطور تغير النظرة الطبية للصحة والمرض، فأصبحت نظرة ضيقة محدودة، ففي كثير من الحالات ينظر الطبيب إلى المريض كأنه آلة في حاجة إلى إصلاح، وأصبحت عملية العلاج ميكا***ية لا تتعدى اكتشاف العضو المصاب ومحاولة إصلاحه.
لكن وبتطور التقنيات ووسائل العلاج الطبية، كذلك تطور العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع، واتساع مجالات دراساته، كذلك التراكمات والمعلومات الطبية، أكدت كلها على أن المرض يرجع بشكل أساسي إلى البيئة الاجتماعية التي يعيشها المريض، وأن هذه البيئة عنصر أساسي في عملية العلاج. إضافة إلى هذا فإن شبكة العلاقات الاجتماعية للفرد تؤثر وبشكل كبير على الحالة الصحية والمرضية وعلى السلوك الصحي والمرضي له .
يدرس علم الاجتماع المجتمع ليس من الزاوية الفردية، بل يدرسه من الزاوية الجمعية، من خلال دراسة الوحدات المكونة له، كالجماعات المكانية، الجماعات الوظيفية، والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية التي تسود بين الأفراد، سواء داخل الجماعة الواحدة، أو بين الجماعات المختلفة. كما يدرس النظم الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية.
وعلم الاجتماع الصحة هو أحد التخصصات العلمية في علم الاجتماع، يهتم بدراسة القضايا والمشكلات الصحية والطبية في المجتمع. كالعلاقات الاجتماعية، التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية، التي ترتبط وتؤثر في الجانب الطبي والصحي للمجتمع. ويرتبط هذا التخصص ارتباطا وثيقا بعلم الطب، كارتباط علم الاجتماع بالعلوم الأخرى.
من هنا أصبح من الضروري صياغة فهم جديد للظواهر الصحية والمرضية. فهما يقوم على الجانب الاجتماعي الطبي، فهو الذي يساعد على تطوير أسلوب العلاج، والرعاية الصحية بشكل عام.
إن علم الاجتماع بشكل عام، وعلم الاجتماع الصحة بشكل خاص، ليس علما دقيقا كالعلوم التجريبية فنتائجه لا يمكن تعميمها، فما يصدق على مجتمع معين قد لا يصدق على مجتمع آخر. هذا من جهة من جهة ثانية فالتغير والتطور الاجتماعي وبالتالي تغير الأفكار والقيم والسلوكيات والنظم وأساليب العمل...الخ أمر حتمي.
وبالرغم من أن علم الاجتماع ليس علما إصلاحيا -بل يهدف إلى دراسة وفهم الظواهر الاجتماعية بطريقة علمية-، إلا أن نتائجه تساعد المصلحين والسياسيين والاقتصاديين في وضع برامجهم ومخططاتهم الاجتماعية. ومن هنا فإن علم الاجتماع الطبي هو في خدمة الطب والرعاية الصحية في المجتمع. كما أن دراسة المشكلات الصحية في المجتمع بطريقة علمية منهجية تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في حل تلك المشكلات.
• التطور التاريخي لعلم الاجتماع الصحة:
يعتبر القول بأن العلاقة بين ظاهرتي الصحة والمرض وبين العوامل الاجتماعية والبيئية قديمة قدم الفكر البشري، ومن هنا فإنه إذا نظرنا إلى علم الاجتماع على أنه الدراسة العلمية للعلاقة بين ظاهرتي الصحة والمرض وجدنا أن له جذورا تاريخية عميقة. فقبل أن يظهر علم الاجتماع الصحة كعلم مستقل، ظهرت دراسات عن كيفية انتشار المرض وربط العلماء بينها وبين توزيع السكان في المجتمع. ففي التراث المصري واليوناني توجد كتابات عن ارتباط أمراض معينة بمهن أو بظروف معيشية خاصة. فقد كانت مشكلات الصحة والمرض موضع اهتمام المشتغلين بأمور الدولة سواء السياسيين أو الإداريين أو رجال الاقتصاد أو الأطباء أو المصلحين الاجتماعيين.
"وعلى الرغم من أن كتابات العصور القديمة والعصور الوسطى قد أرجعوا المشكلات الصحية لجماعات معينة، إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في حياة تلك الجماعات إلا أنها لم تكن دراسات منهجية منتظمة، ولعل دراسة ابن خلدون أقرب الدراسات إلى المنهج العلمي" .
أخذ العلماء الغربيون هذه الأفكار وبدؤوا بدراستها بطريقة علمية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويرجع هذا الاهتمام إلى الظروف فالسيئة التي أحدثها الثورة الصناعية على طبقة العمال خاصة (سوء الحالة الصحية وانتشار الأمراض..).
لقد كانت فرنسا أكثر الدول تقدما في النظريات السياسية والاجتماعية، فاتجه العلماء إلى القيام بدراسات علمية للمشكلات الجديدة وذلك باستخدام المسوح الصحية الإقليمية أو الطبوغرافيا الطبية • وتوالت الدراسات الإمبريقية والإحصائية المتعلقة بالصحة، فدرسوا أشر كل من الفقر، المهنة، التغذية والسكان، عمالة الأطفال والنساء،..الخ من المشكلات المتعلقة بالصحة والمرض. وأدى ذلك إلى ظهور الطب الاجتماعي سنة 1848.
انتشرت في فرنسا فكرة الربط بين العلم والسياسة، وبين الطب والاجتماع وضرورة استخدام العلم في خدمة المجتمع، وانتقلت فكرة الطب الاجتماعي إلى ألمانيا وغيرها من الدول خاصة وسط وشرق أوروبا. ثم ظهر تعبير "الاجتماع الطبي" قبل الحرب العالمية الثانية. في كل من فرنسا وألمانيا، وتطور بسرعة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بسبب الاهتمام المتزايد بالصحة العامة والعمل الاجتماعي المنظم. وقد عرف تشارلز ماك أنتير Charles Mac Antir الاجتماع الطبي في سنة 1894 كمايلي "الاجتماع الطبي هو العلم الذي يدرس الأطباء أنفسهم كظاهرة اجتماعية أو كهيئة اجتماعية. وهو العلم الذي يدرس القوانين التي تنظم العلاقات بين مهنة الطب والمجتمع ككل، والتركيب الاجتماعي لكل منهما وما حدث وما يحدث من تطور في التركيب أو في العلاقات" فكان أول تعريف لعلم الاجتماع الطبي.
وفي 1902 استخدمت إليزابيث بلاكويل Elizabeth Blakwell هذا المصطلح كعنوان لمجموعة من المقالات تربط بين العوامل الاجتماعية والعوامل الصحية والطبية. بعدها نشر جيمس وارباسJIMES WARBASSE كتابا في "الاجتماع الطبي" سنة 1910 أوضح فيه أهمية الإصلاحات الاجتماعية الصحية وكذا التعليم الصحي.
ثم ظهرت العديد من الدراسات في مجال الطب الاجتماعي والاجتماع الطبي في فترة الثلاثينات والأربعينات، وازدهر الطب الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ساعده على الازدهار والتداخل مع الاجتماع الطبي ظهور مشكلات طبية وصحية جديدة منها انتشار الأمراض المزمنة، ازدياد نسبة كبار السن، المرضى عقليا، والمضطربين نفسيا، والمعوقين، إضافة إلى تطور المستشفيات وتضاعف حجمها وميزانيتها، وزيادة التخصصات الطبية بها، وبالتالي تعقد العلاقات الاجتماعية بداخلها. وفي نفس الفترة فقد شهدت العلوم الاجتماعية تقدما ملحوظا واتسعت مجالات دراستها وتطور علم الاجتماع المهني وعلم الاجتماع التنظيم، وازداد الاهتمام بنظم الرعاية الصحية والطبية، ولجأ الدارسون إلى استخدام مناهج البحث الاجتماعي في الدراسات الاجتماعية الطبية، وازداد عدد الباحثين والدارسين وتنوعت اتجاهات البحث ومجالاته. فلم تبقى المواضيع محصورة في مشاكل التصنيع والتحضر فقط بل زادت عليها واتجهت إلى دراسة مشكل التلوث البيئي والبيروقراطية في المؤسسات الصحية والتطور التكنولوجي في الطب، وما نتج عنه من مشكلات. ومن خلال هذا التطور في الدراسات الاجتماعية الطبية من حيث المجال والمنهج، والكم والكيف، اعتبر معظم علماء الاجتماع في أمريكا وبريطانيا أن علم الاجتماع الطبي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، كفرع حديث لعلم الاجتماع.
• البدايات الأولى لعلم الاجتماع الصحة:
ظهر علم الاجتماع الصحة كفرع متخصص من علم الاجتماع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، غير أن البدايات الأولى ترجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حينما اتجه فريق من الباحثين الاجتماعيين إلى دراسة العوامل الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض، بعد أن كانت دراسة المسائل الصحية وقفا على المتخصصين في العلوم الطبية دون غيرهم من المتخصصين في بقية الفروع المعرفية ويرجع اهتمام الباحثين الأوائل بدراسة العوامل الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض إلى التأثيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية في الأحوال الصحية والمعيشية للأفراد إضافة إلى ظاهرة التحضر وتزايد موجات الهجرة إلى المدن الصناعية
فمنذ أن حدثت الثورة الصناعية الأولى اتجه الصحاب المصانع إلى الاهتمام بالآلات اللازمة أكثر من اهتمامهم بأحوال العمال... مما ترتب عليه سوء الأحوال الصحية والاجتماعية لهم. وقد لفتت هذه الظاهرة بعض المفكرين الاجتماعيين فبدءوا يلفتون الأنظار إلى الجوانب الاجتماعية للمشكلات القائمة وعمدوا إلى إجراء مسوح اجتماعية للحصول على بيانات علمية يمكن الاستفادة منها في تحسين أحوال الطبقة العاملة حيث كشفت عن أنماط وأساليب الحياة التي يعيشها العمال، كما أظهرت العلاقة المتبادلة بين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعمال وبين الأحوال المعيشية والوضع الصحي لهم.
أما بالنسبة لظاهرة التحضر فقد شهدت أوروبا حركة سريعة في أعقاب الثورة الصناعية. ولم تكن المدينة تقوم على التخطيط يقول لويس ممفورد Louis Mimford" فأحسن الأراضي كانت تبنى عليها المصانع التي كانت تقذف القاذورات في الأنهار والمناطق المحيطة... والمساكن غير صحية ومزدحمة والأفراد يسكنون في حجرات مشتركة، والمستويات الصحية سيئة للغاية ... وقد أدى ذلك إلى انتشار الأمراض، وارتفاع نسب الوفيات".
إضافة إلى هذا فقد كان للتقدم الذي شهدته العلوم الطبيعية والبيولوجية والذي انع** على العلوم الطبية دورا كبيرا في الاهتمام بالجانب الاجتماعي والنفسي للمرض وهو ما أدى إلى علم النفس الطبي، علم الاجتماع الصحي الأنثروبولوجيا الصحية، اقتصاديات الصحة، والخدمة الاجتماعية الطبية.
في الأخير فقد كان للعوامل الإيديولوجية أثرا كبيرا في الاهتمام بالجوانب الاجتماعية المرتبطة بالصحة والمرض. ويرجع هذا إلى المساوئ التي لحقت بالنظام الرأسمالي، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات فكرية دعت إلى ضرورة استبدال الأوضاع السيئة للعمال والعمل على تحقيق الرعاية الصحية والاجتماعية الكاملة لهم. كما عملت هذه التيارات على القيام ببحوث اجتماعية علمية لدراسة المشكلات الصحية والاجتماعية التي تعاني منها طبقة العمال. يقول ديريك جيلDerrick JIL : "لقد اهتم علماء الاجتماع في كل من المملكة المتحدة وأوروبا بطرق الإصلاح الاجتماعي.. ولقد كان "سيدني" و "بياتريس ويب" مقتنعين بأن الإصلاح الاجتماعي يعتمد على كثير من المعلومات والحقائق، وعلى نشر الحقائق الاجتماعية التي يمكن أن تفصح عن نفسها بنفسها بحيث تكفي لدفع عجلة الإصلاح الاجتماعي وعجلة العمل الإداري اللازم لتحقيقه" ويضيف "لقد تحققت نتائج طيبة في مجال علم الاجتماع في بريطانيا وفي أوروبا ما بين عامي 1920 و 1930 وذلك بفضل "تاوني" و "كول" و ريتشارد تيتموس" و "ويليام بيفردج" وغيرهم...".
كانت الدراسات الأولى للمشكلات الصحية في علم الاجتماع الصحي تتم عن طريق فرق مشتركة مع علماء الطب، حيث كانوا يحرصون على توجيه مسار البحوث، من خلال اختيار المشكلات وتحديد الأهداف وتقديم الإحصائيات...رغم افتقارها للأحوال الاجتماعية والاقتصادية للفئات المدروسة.
يقول ديموند السلي "على الرغم من أن موضوعات البحوث كانت تحدد بواسطة علماء الطب الذين يعملون بطبيعة الحال في إطار النماذج الطبية، وفي إطار مسئولياتهم العلاجية، وفي إطار الاهتمام بمستقبلهم المهني، فإن مثل تلك البحوث قد ساعدت على توسيع نطاق الاتصال بين ميداني علم الاجتماع والطب. كما أنها زادت من أهمية الدور المشترك بين كل من الميدانين".
وفي فترة الستينات والسبعينات بلغ علم الاجتماع درجة من التقدم وأصبحت له مجالاته ومطلقاته النظرية وأهدافه المحددة. فمن حيث المجالات فقد اتجهت البحوث إلى دراسة العلاقات المتبادلة بين المتغيرات الاجتماعية والثقافية وبين ظاهرتي الصحة والمرض، وإلى دراسة المؤسسات الطبية كمنظمة اجتماعية وكذا العلاقة بينها وبين المجتمع المحلي والمجتمع العام.
يعتمد الباحثون في هذا التخصص على نظريات علم الاجتماع العام علم الاجتماع المهني علم الاجتماع التنظيم وعلم الأمراض الاجتماعية.
أما عن الأهداف فقد اتجه العلماء الأوروبيون وجهة عملية، من خلال البحث عن حلول عاجلة للمشكلات الطبية، والمساعدة على رسم السياسات الصحية للمجتمع والعمل على تحسين الأحوال الصحية لأفراد المجتمع. وبعد هذه الفترة تحول الاهتمام إلى الجوانب التنظيرية، من خلال البحث عن تعميمات علمية للظواهر والمشكلات المدروسة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد عمل العلماء وضع إضافات نظري، وانصرفوا إلى الجوانب العلمية البحتة، وبمرور الوقت اتجهوا وجهة عملية تطبيقية محاولين الاستعانة بالحقائق العلمية في تطوير نظم الرعاية الصحية.
من خلال ما سبق يتضح مدى الاهتمام بعلم الاجتماع الطبي في كل من أوروبا وأمريكا، إلا أن هذا التخصص لم يلق نفس المكانة من طرف الدارسين والباحثين في أغلب دول العالم الثالث خاصة قبل فترة التسعينيات. يقول عبد الباسط محمد حسن "إذا أردنا أن نحدد وضع علم الاجتماع الطبي في مصر من خلال المناهج الدراسية، والمؤتمرات، والبحوث، والمؤلفات العلمية، فإننا نستطيع القول بأن علم الاجتماع الطبي لم يأخذ وضعه الأكاديمي حتى الآن" ويضيف نبل صبحي حنا "وإذا كانت دراسات عديدة قد أجريت في العالم الغربي، وتناولت الظواهر المتعلقة بصحة الإنسان من منظور سوسيولوجي أو انثروبولوجي، فإن المتخصصين في مجتمعنا لم يهتموا للآن اهتماما أساسيا بإجراء البحوث والدراسات في هذا المجال مستخدمين النظريات ومناهج البحث المتداولة في هذين المجالين".
II- مجالات الدراسة في علم الاجتماع الصحة:
بالرغم من أن علم الاجتماع الصحي أحد التخصصات الحديثة في علم الاجتماع، وفي علم الطب إلا أنه أصبح يتسع وينمو بسرعة ليحتل لنفسه مكانا واعتبارا في علم الاجتماع.
لقد اهتم الأطباء القدامى بتأثير الثقافة والسلوك الاجتماعي على الصحة والمرض، فصحة الإنسان تتأثر بطريقة الحياة والمناخ. أي أن البيئة الاجتماعية والطبيعية، كما ربط الأطباء الأوائل بين بيئة العمل وظهور المرض. وبشكل عام فإن العلاقة بين الوضع الاجتماعي والعوامل التي تؤثر على الصحة وظهور المرض كانت موضوع اهتمام الإنسان بصورة عامة . إن إدراك أهمية العلاقة المعقدة بين العوامل الاجتماعية ومستوى الخصائص الصحية لجماعات معينة قد أدى إلى تطور علم الاجتماع الصحي.
وعلم الاجتماع كفرع أكاديمي يولي اهتمامه بوظيفة وبناء وأدوار المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، والسلوك الاجتماعي للجماعات. لذلك فإن علم الاجتماع الصحي يهتم بالمظاهر الاجتماعية للصحة والمرض، علاقة نظم الرعاية الصحية بالنظم الاجتماعية الأخرى، الوظائف الاجتماعية للمؤسسات والمنظمات الصحية، والسلوك الاجتماعي للأطباء وكل العاملين في القطاع الصحي وبقية الناس الذين يحتاجون لخدمات المؤسسات الصحية.
كان اهتمام الطب منصبا على العناية التامة ومعالجة بالمرض البدني وإهمال الجوانب الاجتماعية والنفسية للمريض، ثم تطور وتغير إلى الاهتمام بهذه الجوانب، وقد ساعدت المشكلات الصحية التي يعاني منها المترددون على المؤسسات الصحية في توعية المشتغلين في المجال الصحي بأهمية تلك الجوانب (البيئة الطبيعية والاجتماعية للمريض، العلاقة بين الطبيب والمريض ..) في التشخيص والعلاج. كما كان للتقدم في ميدان العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع والبحوث المقدمة في مجال الصحة والمرض دورا في تغير النظرة الطبية للصحة والمرض، وبالتالي فتح المجال واسعا أمام الباحثين الاجتماعيين في مجال الصحة من أجل إجراء البحوث والدراسات قصد المساهمة في تطوير الخدمات الصحية في المجتمع.
قسم روبرت ستراوس علم الاجتماع الصحة إلى فرعين هما علم الاجتماع في مجال الطب، وعلم الاجتماع الطبي.
علم الاجتماع في مجال الطب:
يكمن دور الباحث في هذا التخصص في دراسة العوامل الاجتماعية ذات العلاقة بمرض معين، أي أن له علاقة مباشرة مع العاملين في المجال الطبي (أطباء، ممرضين..). والعناية بالمريض أو لحل مشكلة صحية معينة.
في هذا التخصص يقوم الباحث بتحليل الأسباب الاجتماعية للمرض، الاختلاف في الاتجاهات الاجتماعية نحو الصحة، الطرق التي يمكن أن تفسر علاقة أمراض معينة بمتغيرات اجتماعية كالسن والجنس المكانة… والهدف من هذه التحليلات هو مساعدة الممارسين الصحيين (أطباء، مفتشي الصحة..) في معالجة المشاكل الصحية. وبالتالي يمكن وصف هذا التخصص بأنه البحث والتحليل التطبيقي الناتج أساسا عن مشكلة صحية. أما عن أماكن المتخصصون في هذا المجال فيكون غالبا في كليات الطب، أو التمريض، مدارس الصحة العامة، وكالات الصحة وغيرها من المنظمات الصحية.
علم الاجتماع الطبي: يدرس تنظيم المؤسسات الصحية، العلاقات والأدوار داخل هذه المؤسسات، معايير ومعتقدات العمل الطبي، …الخ. أي أنه إذا يركز على العمليات الاجتماعي في المحيط الصحي كالمستشفى مثلا. فهو إذا البحث والتحليل للبيئة الطبية من منظور اجتماعي. أما عن النظريات التي تستخدم في هذا التخصص فهي نفس النظريات المستخدمة في باقي التخصصات في علم الاجتماع.
إن التقسيم الذي وضعه ستراوس ليست له أية أهمية في الوقت الحاضر فالاهتمام الآن ليس البحث في ما هو من اختصاص هذا الفرع أو ذاك، بل البحث عن تطوير المعرفة حول العلاقة بين الجانب الاجتماعي وبين الصحة والمرض.
إن الهدف من إنشاء هذا التخصص هو إدراك أهمية الممارسة الطبية في المجتمع، حيث تمثل جزءا مهما ونسقا اجتماعيا متكاملا (مؤسسات اجتماعية خاصة، عمليات اجتماعية، مهن، مشكلات، أنماط سلوك خاصة...الخ) يتطلب الدراسة. ومن هنا فقد ارتكزت الدراسات في علم الاجتماع الصحة على:
• المساهمة في وضع السياسات الصحية : من خلال إجراء البحوث وتقديم الاقتراحات التي يمكن تطبيقها في مجال الخدمات الطبية ووضع السياسة الصحية.
• يركز في هذا المجال على مشكلات أساسية تواجه المجتمع وهي علاج المرض ومنع انتشاره، والمحافظة على الصحة. إضافة إلى الدراسة التقويمية للنظام والسياسة الصحية.
• دراسة المستشفى كمنظمة طبية: أو كما يسميها علماء الاجتماع بالمؤسسة الكاملة، من خلال دراسة العلاقات الاجتماعية داخل المستشفى سواء بين المرضى والأطباء، أو بين الأطباء وهيئة التمريض أو بقية العاملين في المستشفى، بين الإداريين والفنيين وغيرهم، بين أسرة المريض مع كل العاملين بالمستشفى. كذلك دراسة المشكلات الاجتماعية والمهنية التي تواجه كل المتعاملين مع المؤسسات الصحية...الخ. بالإضافة إلى هذا دراسة القيم والاتجاهات للعاملين في المجال الطبي.
• لقد اهتم العلماء بهذه القضايا فدرسوا عمليات الدخول إلى المستشفى، التنظيم الرسمي، تأثير البناء التنظيمي على المريض، حياة المريض في المستشفى، النظام غير الرسمي القائم بين المرضى في المستشفيات...الخ. ويهدف البحث في هذا المجال إلى تحسين الوضع الصحي للمجتمع، التعرف على النتائج والخصائص الاجتماعية للمرض، وكذا تأثير العوامل الاجتماعية على طبيعة وتوزيع الأمراض النفسية والعضوية في المجتمع.
• دراسة العوامل الاجتماعية التي يمكن أن تؤدي إلى المرض: كالعادات والمعتقدات، والأمراض المهنية، والأمراض الاجتماعية كالإدمان الشذوذ...الخ. وتأثير هذه العناصر على الجانب الصحي وكذا على نظرة الناس للمؤسسة الصحية.
• دراسة ظروف وطرق لجوء الفرد إلى الطبيب: ففي كثير من الدول المتقدمة تبين من خلال الدراسات وجود نسب كبيرة من الأمراض لا تزال رغم التطور الطبي، لذلك يحاول الباحثون البحث عن أسباب تخلف، أو عدم طلب المرضى المساعدة الطبية. فقد يعود ذلك إلى المركز الاجتماعي، الأصل العرقي، السن أو المستوى التعليمي...الخ. ففي إحدى الدراسات تبين وجود علاقة بين المستوى الاجتماعي ومستوى التعليم والأصل العرقي، وبين طلب وعدم طلب المساعدة الطبية.
• العلاقة بين المريض و الطبيب: سواء من الناحية السلبية أو الناحية الإيجابية مع التركيز على آثارها.
• ايكولوجية المرض: أي الارتباط بين المرض والبيئة الطبيعية والاجتماعية.
• الطب التقليدي أو الطب الشعبي: ومقارنته مع الطب الحديث، ومدى التداخل بينهما، والفئات الاجتماعية التي تعتمد عليه، ومتى تتجه إليه، وهل له علاقة بالحالة الاقتصادية والتعليمية...
• توزيع الأوبئة في المجتمع: أثبتت الدراسات أن المرض لا ينتشر عشوائيا بين السكان، يتوزع حسب الكثافة السكانية، العمر، الجنس، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الأصل العرقي، المهنة...الخ.
• يتطلب دراسة هذا الجانب تدخل مجموعة من التخصصات منها الطب ، علم النفس، الاقتصاد...الخ، كما أنه يحتاج دراسة تتبعيه طويلة.
• الاستجابات الشخصية للمرض: أي توضيح المعنى الاجتماعي والثقافي للمرض، ومدى استجابة الأفراد للمرض.فهناك اختلافات ثقافية كبيرة بين استجابات الناس للأعراض البيولوجية للمرض وكذا إلى الألم في حد ذاته. فهناك من يكون هستيريا لأدنى ألم، وهناك ويسرع إلى الطبيب، وآخرون يتحملون ويرفضون الذهاب إلى الطبيب. قد يرجع هذا الاختلاف إلى العقيدة، أو إلى درجة الثقة في الطب ، أو إلى متغيرات أخرى يمكن التوصل إليها من خلال الدراسات الاجتماعية.
• الممارسة الطبية والتعليم الطبي: يهتم هذا المجال بدراسة قواعد ونظم ممارسة مهنة الطب بالإضافة إلى دراسة نظم تعليم الأطباء وأساليب اختيارهم للمهنة والقيم الاجتماعية السائدة بينهم، وطرق إعداد الطبيب مهنيا ونفسيا واجتماعيا، إضافة إلى دراسة نتائج التعليم الطبي.
• الوفيات: من خلال دراسة التأثيرات الاجتماعية على معدلات الوفيات، ومدى التوافق بين المنظمات الطبية وتغير أنواع المرض، وأسباب الوفيات.
• الضغوط والتغيرات الاجتماعية وظهور الأمراض. وهي مواضيع اهتم بها العلماء وأثبتت الدراسات أن ضغوطات العصر أدت إلى زيادة أمراض منها السكري، ضغط الدم، الصداع النصفي....الخ. كما أن تغير نظام التغذية بإضافة السكر في الطعام والشراب مثلا ساهم في ظهور أمراض في بعض المجتمعات لم تكن معروفة من قبل.
III- أهمية علم الاجتماع الصحة:
• بعدما تطرقنا إلى، نشأة وتطور علم الاجتماع الصحة، وبعدما بينا مختلف المجالات التي يدرسها هذا الفرع العلمي، يتبن انه احد العلوم التي لها أهميتها في مجال الرعاية الصحية والخدمات الطبية في مستوياتها الوقائية والعلاجية، ونحدد في هذه النقاط أهمية هذا التخصص
• إن معرفة قيم ومعايير ومختلف جوانب السلوك والدوافع لدى الأفراد يساعد الطب وكذا المسئولين في تحسين الخدمات الصحية ووضح السياسات الصحية المناسبة.
• المساعدة في القضاء على العوامل الاجتماعية المؤثرة في انتشار المرض، وذلك من خلال المنهج العلمي في الدراسة، ومن خلال العمل على تغيير العادات والتقاليد السلبية المضرة بالصحة (ثقافة التغذية، العناية الصحية بالطفل، تنظيم النسل، العناية بالبيئة الاجتماعية والطبيعية..).
• المساهمة في دراسة مشكلات المسنين.
• المساهمة في تحسين العلاقة بين الأطباء والمرضى,
• الاهتمام بمشكل المعاقين سواء من ناحية التأهيل أو إعادة الإدماج، أو المساهمة في وضع التشريعات...الخ.
خاتمة
خلاصة القول أن الملامح الرئيسية لنشأة علم الاجتماع الصحة تعكـس الأهمية المشتركة لكل من الطب وعلم الاجتماع في دراسة وعلاج ظاهرتي الصحة والمرض، وفي إعطاء المرض أبعاد اجتماعية وبيولوجية عضوية من أجل فهم أوسع وأكثر شمولية وتكاملا، بهدف تطوير الخدمات الصحية